ما الذي فعله مبارك خلال عقود حكمه الثلاثة لمصر؟ استخدم البرلمان ذا الأغلبية الحاكمة لإقصاء معارضيه من السلطة لتسير مصر نحو ديكتاتورية انتقدتها حتى الولايات المتحدة التي دعت مراراً إلى إفساح المجال أمام المعارضة بشكل عام والإخوان المسلمين بشكل خاص للمشاركة في الحياة السياسية، ما مارسه الرجل من سياسة إقصائية تشبه تلك التي يبدأ الإخوان المسلمين بها حكمهم لمصر حيث دفعوا البرلمان للتصويت لمنع رئيس المخابرات السابق ونائب رئيس الساعة الأخيرة من المشاركة في المنافسة على انتخابات الرئاسة.لا أتمنى أن يعود حكم العسكر لمصر أو حتى غيرها من البلدان العربية لإدراكي لمحدودية وعي وتجربة الأمن والجنرالات بطبيعة المجتمعات المدنية وانعزالهم في ثكناتهم أو بين ملفات لم تصنع أكثر من تجربة حراسة الدولة وليس القدرة على نهضتها أو مراكمة خبرات متعددة، وثانياً لأن التجربة الممتدة على خارطة الوطن العربي لحكم الجنرالات منذ ستينيات القرن الماضي بدءاً بالعراق وسوريا مروراً بمصر وليبيا وتونس لم تنتج سوى دكتاتوريات ساهمت في تخلف هذه المجتمعات وفقرها وإقصاء المعارضين السياسيين ودفع كثير من مواطني تلك الدول الى أرصفة اللجوء الأوروبي فيما ازدهرت السجون وأقبية التحقيق وبدأت بتأسيس جمهوريات ملكية تضمن للأنباء وراثة الأوطان والشعوب.ولكن القرار الذي اتخذه البرلمان المصري يثير الريبة بأن مصر لا تسير في الطريق الصحيح وأن الأخوان المسلمين يدشنون حكمهم بعقلية لا تختلف كثيراً عن العقلية التي كرست الدكتاتوريات السابقة، فمن يملك حق منع مواطن من المشاركة في الانتخابات سواء بالتصويت أو بالترشيح طالما لم يتهم بتهمة جنائية وفقاً لكل القوانين في العالم ؟ فإسرائيل لم تفعلها حتى حين ترشح من كان أبرز معارضيها بالمعنى القومي والوطني والديني عزمي بشارة حين تقدم بأوراقه للمنافسة على رئاسة الحكومة عام 99 ومن وقف ضد الترشيح حينها فقط الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات بهدف الإطاحة بنيامين نتنياهو زعيم اليمين حينها وخوفاً من التقليل من فرص المرشح العمالي أيهود باراك، وليته لم يفز؟ كل المرشحين في مصر تمتلئ سيرهم بما لهم وما عليهم والمواطن المصري هو من سيحاكمهم في الثالث والعشرين من الشهر القادم وتحديداً المرشحين الأبرز عمر سليمان وخيرت الشاطر، فالأول عمل رئيساً لجهاز المخابرات وآخر ملفاته ملاحقة الموساد في شرق آسيا وكشف شبكة تجسس عربية تعمل لصالحه حيث وصلت اعترافات أفراد الشبكة إلى حدود سورية وكشفت الذين سلموا معلومات عن دير الزور قبل أن تقوم إسرائيل بالقصف، فقامت دمشق بإعدام بعضهم بصمت، والشاطر هو رجل كفاءة بامتياز إذ يسجل تاريخه نجاحاً هائلاً في إدارة الاقتصاد وهو ما تحتاجه مصر حالياً والرجل يحمل مشروع نهضة حقيقياً. لكن ثقافة الإقصاء التي يبدأ برلمان مصر الثورة متسلحاً بها تبعث على الخوف فالثورة تنطلق لتحقيق العدل والمساواة ضد الظلم وليس لاحتكار السلطة وسلب البعض حقوقهم الطبيعية كما نصت الدساتير.وهذا ربما يستدعي التدقيق بطبيعة الثورات العربية، وما قبلها ففي العراق وبعد سقوط النظام هناك كان القرار الأول الذي يتخذه بريمر الحاكم الأميركي هو حل البعث ومنعه من المشاركة في الحياة السياسية وكأن أعضاء حزب البعث ليسوا عراقيين، ثم ما فعله ثوار ليبيا من قتل وعنف هو صورة مماثلة لنموذج حكم القذافي، وقياساً على ذلك هناك خشية كبيرة في حال سقوط النظام السوري أن يُقصى جزء كبير من الشعب والذي ينتمي للطائفة العلوية، وما يحدث في مصر التي كان يجب أن يشكل نموذجاً آخر، لا يختلف كثيراً وإن كان يختلف في نوع العنف المعبر عن الإقصاء ويؤشر لرغبة بالاستئثار بالحكم واستخدام المؤسسات الدستورية لمصادرة الحقوق والحريات.الثقافة الخاطئة التي بدأتها الثورات العربية أثارت صاحب التجربة الثورية الأطول في العالم نيلسون مانديلا على الرغم من مرضه الشديد فقد نشر في شهر تموز الماضي رسالة إلى الثوار العرب أراد من خلالها أن يضع تجربته الفريدة بين أيديهم علها تصحح اتجاهاً بدأ يسير باتجاه معاكس فقد كتب مانديلا" إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، وأن ما يصلني عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشي بأن معظم الوقت هناك مهدر في سبّ وشتم كل من كانت له علاقة مع النظامين البائدين وكأن الثورة لا تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء.وكم كان مخجلاً أن يكتب مانديلا في رسالته قائلاً "عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية هم مواطنون ينتمون لهذا البلد فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم أنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً ثم أن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم وهو حق بديهي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة وثقوا بأن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلا من ساهم في حريته ثم يضرب الرمز الثوري المثال الأبرز للعرب قائلاً "تخيلوا أننا في جنوب أفريقيا ركزنا كما تمنى الكثيرون على السخرية من البيض وتبكيتهم واستثنائهم وتقليم أظافرهم ؟ لو حصل ذلك لما كانت قصه جنوب أفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح الإنساني".يبدو أن لا أحد في المنطقة العربية يبحث عن قصص النجاح الإنساني لو تم التدقيق بسلوك ما بعد الثورات ويبدو أن النجاح الإنساني محصور باحتكار السلطة، فلم تقرر حركة الإخوان المسلمين طرح مشروعها الأخير حين لم تكن لديها النية للمنافسة على الرئاسة ولم يكن يعنيها أمر الفلول ولم تتقدم بمشروعها حين قدم أحمد شفيق رئيس وزراء مبارك أوراق ترشحه ولكن حين قررت إكمال مشروعها نحو السلطة وظهور منافس قوي كعمر سليمان هرعت نحو البرلمان لمحاصرة الأخير دون أن تدري أنها بذلك تقلد السلوك السياسي للنظام السابق وتستخدم نفس أدواته ضد معارضيها وهي من عانى بشكل كبير من هذا السلوك، وها هي تعيد إنتاج ما دفعت ثمنه على مدار العقود الماضية ربما لتواجه أسئلة من نوع ما الذي غيرته الثورة الوجوه أم ثقافة الاستبداد والأسئلة الأصعب هل تخشى حقا حركة الإخوان المسلمين من منافسة سليمان لمرشحها أم أنها لم تعد تثق بصحة خيارات شعبها؟ وهل فقدت الثقة بشعبها الذي أعطاها ما لديه قبل شهور قليلة فقط أم أن لديها خوفاً من أن الشعب تراجع عنها لقد قال مانديلا "ثقوا بأن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلا من ساهم في حريته" ولكن بعيدا عن الدكتاتورية وتدشين مصر الجديدة بثوب مبارك ... ومن التجليات الكاريكاتورية لأزمة العقل العربي وتجلياته السياسية مفارقة أول من أمس بين القاهرة وعمان فبينما كانت حركة الإخوان المسلمين تتظاهر في ميدان التحرير لتعزيز قانون إقصاء منافسيها كان الفرع الأردني للإخوان المسلمين يتظاهر ضد قانون الانتخابات ويطالب بتغييره لأنه يستهدف إقصائها من المشاركة السياسية.