خبر : خداع الثورات... بقلم: حسين حجازي

السبت 14 أبريل 2012 05:13 م / بتوقيت القدس +2GMT
خداع الثورات... بقلم: حسين حجازي



في البداية تكون الثورة موحدةً، وعيون الثوار تتجه إلى الأمام، صوب الهدف الذي ثاروا وتوحدوا من أجله، إزالة الظلم الذي ما عادوا قادرين على احتماله، وحين يكون الهدف الذي يوحدهم هو الإطاحة بالنظام القديم، وإقامة نظام جديد على أنقاضه، ويكون الشعور العاطفي ملهماً لهم جميعاً، ويجعل الماء يغلي في الرؤوس، والعيون تتقد حماسةً. فإنها هي اللحظة التي تبدو فيها الإرادة العامة، الروح الجماعية، الوطنية، كقوة لا يمكن التصدي لها، أو قهرها. وعندها يهرب الشاه ويلحق به بعد ذلك زين العابدين بن علي ومبارك والقذافي.ولكن حالما يسقط رأس النظام، ويساق لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت إلى المقصلة وحسني مبارك وأبناؤه إلى سجن طرة، والقذافي تنكيلاً حتى الموت، وسط دهشة وذهول الثوار أنفسهم، الذين يكتشفون الآن قوتهم، عند هذه اللحظة، فإن الثورة تبدأ عند هذه الذروة المأساوية في التفكك، ويبدأ الخلاف يدب بينهم. أنظارهم بدل أن تتجه إلى الأمام، لمواصلة الثورة واجتثاث بقايا النظام، تتحول إلى النظر تحت أرجلهم، لبعضهم البعض، وحينها وقد بدأت الثورة في أكل نفسها، إرهاب روبسبير وأنهكتها الخلافات. يتقدم في هذه الساعة من الصفوف الخلفية منقذ جديد على صورة بونابرت، جنرال كان مغموراً حتى الأمس لكيما يمسك بعنان حصان الثورة، وقد تعثرت في منتصف الطريق، متفوقاً عليها، من أجل الوصول بها إلى هدفها الأخير. نابليون بونابرت في الطبعة الأولى من الثورة الفرنسية 1789، وجمال عبد الناصر في الطبعة الأولى من الثورة المصرية 1952. ويقول ماركس إن هذا التحول في المرة الأولى، يكون على شكل مأساة، وفي المرة الثانية على شكل من الخداع أو الملهاة. لويس بلان في الثامن عشر من برومير 1848. وهل نقول المجلس العسكري الأعلى والجنرال عمر سليمان في الثورة المصرية الثانية 25 يناير؟ لويس بلان على صورة شبح من الماضي بزي تنكري من العهد القديم، وعمر سليمان الذي قال عن نفسه إنه "الصندوق الأسود" اللغز في زي تنكري من العهد الجديد.وحيث لا يخلو هذا التشبيه التنكري هو الآخر، من مسحة ساخرة على الطريقة المصرية، تبعث على التفكه.صندوق أسود ماذا؟ وعن أي لغز؟ ويا للمصادفة التاريخية، فقد أدخلت قصة الحلل المصرية التي ورد ذكرها في العهد القديم في قصة الثامن عشر من برومير ووصف وجه لويس بلان أشبه بالخنزير، فيما قال الجنرال عمر سليمان إنه اضطر لأن يبدو بهذا الوجه الصامت والغامض، كلغز الحلل المصرية القديمة لأسباب مهنية، ولكنه الآن يريد للمصريين أن يتعرفوا إلى الوجه الحقيقي له وأن يقوم هو بنفسه باطلاعهم على فحوى الصندوق الأسود والكشف عن أسراره إذا انتخبوه رئيساً لهم.ويكتب كارل ماركس في هذا الصدد لمناسبة ثورة الثامن عشر من برومير، في واحدة من ألمع تحليلاته عبقرية، إن الأمة والثورة، كما المرأة يجب عليها الحذر من أن يتمكن أول نصاب تقابله من خداعها. وهكذا هل الثورات يمكن أن تخدع، يصار إلى خداعها؟ والجواب نعم.إن كل قصص التاريخ، ليست سوى سلسلة طويلة من هذه العمليات التي لم تنته، من محاولة خداع الثورات، وحرفها عن مسارها، حينما يتمكن في لحظات محددة نصابون وأشخاص أفاقون وقوى شديدة المكر والخداع، من قلب مسار الثورة، وحرفها عن اتجاهها، بامتطاء صهوتها، أو ركوب موجتها، وحينما يبدو الخير غالباً، متفككاً ساذجاً ومبعثراً متلعثماً بينما يبدو الشر دوماً موحداً جسوراً وماكراً، جريئاً ومبادراً، لديه القدرة على النفاذ بين الشقوق والثغرات. الشر الذي يظهر دائماً في صورة الشيطان، الذي يهزأ من طيبة وسذاجة الأخيار الذين يقوم بخداعهم، ويظهر كمعطل معرقل لانتصار الخير، كعدو شرس للبشر كما التاريخ. الشيطان الذي يمكن أن يتمثل لكم، في صورة وجه تنكري آخر، في شخص هنري كيسنجر العجوز التسعيني على سبيل المثال بنظارة العين الشهيرة، ورأسه المتضخم الكبير والملامح الباردة المتجلدة التي لا تخلو من القسوة، والذي ظهر أخيراً في (واشنطن بوست)، كما لو المشهد يوم الحساب. فهذا الربيع الثوري العربي الذي من صنعنا، نتائجه تتفق ولا شك مع مصالحنا. بالطبع قد يبدو هذا التفاخر بصنع الثورة نفسها نوعاً من المبالغة التي تلائم إمبراطورية يصاب ممثلوها بقدر من الخرف في طور شيخوختها واندحارها. بيد أن الجملة المفيدة هنا، هي ربما هذا التوافق أو التلاؤم الذي لاحظه الرجل العجوز عند هذه اللحظة المحددة من نتائج الربيع العربي. ويتابع كيسنجر لقد كان هدفنا الرئيس هنا هو الحؤول دون تبلور قوة مركزية، تستطيع تحدينا، وهذا للأسف يبدو كما لو أنه يتحقق الآن. ومع أنه رأى في تصريح سابق أن حافظ الأسد قهره، حين قال له إنه تمكن من القضاء على جميع الأغبياء بين شعبه، إلا أنه بحسب كيسنجر نسي أن يقضي على حفنة قليلة من هؤلاء الأغبياء، بين شعبه، الذين يكفون برأيه لاستمرار استنزاف سورية. هل ما يقوله كيسنجر واقعي وصحيح ؟ لكن دعونا نتأمل في ثلاثة أحداث، سنوات مصيرية محددة لكيما نخلص إلى الاستنتاج: إن السنوات القدرية الحاسمة التي يقترحها هذا التحليل برأيي هي الأعوام التالية: 1916، 1971، 2011.1- في العام 1916 قام شخص بريطاني مغمور مغامر وأفاق، هو لورانس العرب، بقيادة الثورة العربية الكبرى الأولى التي فجرها الشريف حسين وأبناؤه، بهدف إقامة مملكة عربية موحدة على أنقاض السلطنة العثمانية، وذلك بالتحالف مع بريطانيا وبقية القصة معروفة. قامت بريطانيا بخداع الشريف حسين، وأبنائه وانتهى مصير الشريف الهاشمي نفسه منفياً في جزيرة قبرص، وتم اقتسام المملكة العربية المفترضة إلى دول جديدة تقاسمت احتلالها، بريطانيا وفرنسا، وفق اتفاقية (سايكس بيكو) الشهيرة، وكانت ذروة إنشاء هذه الدول الجديدة عملية التفكيك، إنشاء إسرائيل في العام 1948 وحذف فلسطين ومحوها من الخارطة.ولاحظوا هنا هذه المصادفة التاريخية أيضاً، إذ من يقود الآن الثورة العربية الثانية؟ الشريف حسين وأبناؤه في المرة الأولى بالتحالف مع بريطانيا، وقطر وقناة الجزيرة في الطبعة الثانية من الثورة العربية. وفي المرة الأولى على شكل مأساة، مصير الشريف حسين وابنه الملك فيصل، والمرة الثانية كما تلاحظون وكما يقول كيسنجر على شكل واضح من الخداع.2- العام 1971، كيف يمكننا أن نفسر مقدرة رجل واحد، بمفرده، وكأنه يملك عصى موسى السحرية، في غضون أقل من سنة واحدة، أن يتمكن من قلب مصير مصر، دولة بحجم مصر ودورها، رأساً على عقب، من اليسار إلى اليمين، من دولة قائدة زعيمة، إلى دولة ذيلية وتابعة، الإشارة هنا إلى العملية الجراحية التي أجراها السادات، ثورة التصحيح العملية التي أسست فيما بعد لأربعين عاماً من غياب دور مصر القيادي، وتكريس الاستبداد، كما بيع مصر نفسها الأراضي الزراعية والقطاع العام لحفنة من اللصوص، في انقلاب تاريخي قسم ظهر العالم العربي، وتحول ما كان يمكن تصوره أن يحدث بهذه الطريقة.3- أما الحدث الثالث وهو الراهن، الثورة العربية الثانية 2011 أو ما يسمى الربيع العربي، وهاكم المفارقة، المصادفة التاريخية مرة أخرى. فكما نتج عن الثورة الأولى، ركوب بريطانيا وفرنسا موجتها، وإنشاء القائمة الأولى من الدول المجزأة الجديدة، العملية التفكيكية التاريخية الأولى، فهل إن ما يحدث الآن، ينطبق عليه المثل العربي القائل ما أشبه اليوم بالبارحة، ركوب الولايات المتحدة الأميركية، وبقايا الاستعمار القديم في القارة الأوروبية العجوز، بريطانيا وفرنسا موجة الثورة، لإحداث العملية الثانية من التفكيك، وإنشاء الدول الجديدة في الطبعة الثانية، ولكن أيضاً على شكل من الخداع على قاعدة طائفية، أقليات ومذاهب وإثنيات، تجزئة المجزأ.انظروا إلى البدايات، الإرهاصات المقدمات، فصل السودان وإنشاء دولة جنوب السودان، في ذروة الربيع العربي صيف 2011، إقامة دولة الازواد التي تضم قبيلة الطوارق شمال مالي، وجنوب الجزائر والمغرب. لكن القائمة المقترحة، يتوقع لها أن تشمل الدول التالية: كردستان العراق في شمال العراق وعاصمتها أربيل، شمال العراق الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه مثلث برمودا الشرق الأوسط، الذي تعقد على أرضه الصفقات الكبيرة، لكبار رجال الأعمال جنباً إلى جنب مع الزيارات السرية لعمل ونشاط كبرى أجهزة الاستخبارات في العالم، بما فيها إسرائيل. بإعادة تفكيك العراق إلى ثلاث دول سنية وشيعية إلى جانب كردستان العراق. وكذا تفكيك ليبيا إلى ثلاث دول، على قاعدة استبدال مركزية الدولة بالفيدرالية، وصولاً إلى إنشاء دولة البوليساريو والساقية الحمراء في الصحراء المغربية، بين الجزائر والمغرب.وكما أشرنا إليكم هنا، فقد كان مخططاً أن تنشأ عن عملية قتل الدولة السورية، نحو نصف دزينة من الدول الإثنية، والأقلية، والمذهبية، ويشمل ذلك دولة درزية، تضم جبل العرب في السويداء وتلتحق وتتكامل مع دروز لبنان، تحالف آل الأطرش ووليد جنبلاط، ودولة سنية تمتد من سهل حوران في درعا مروراً بدمشق وصولاً إلى حلب. ودولة علوية وأخرى إسماعيلية وربما ثالثة مسيحية وهكذا.لكن يا هنري كيسنجر ما رأيك أن فرخ البط عوام، ولم يفلح هذا المخطط الذي كان متوقعاً أن يتلاءم إستراتيجياً، وتحطيم مركز القوة الباقي في الشرق العربي الذي تمثله سورية بالتحالف مع إيران. ولكن هل تحول إسرائيل إلى تغيير هويتها واسمها، من إسرائيل إلى يهودية الدولة، في هذه اللحظة مصادفة؟ إذا كانت عملية إعادة تفكيك بلاد الشام، تقتضي إعادة تشكيل هوية القائمة الجديدة من الدول على أسس طائفية.ورب سائل يسأل هنا في غمرة هذه الموجة، الطبعة الثانية من إنشاء الدول الجديدة. ترى هل يكون لنا نصيب أن نركب في القطار الجديد، أي إنشاء دولة فلسطينية في هذه الموجة الثانية؟ هل أجازف لأتوقع أن ذلك صحيح ولكن وفق هذا المخطط فإن فلسطين هذه ستقام على آخر موقع بقي للهاشميين أي في الأردن، ووفق ما دعا إلى ذلك قبل عشرين عاماً أريئيل شارون. بيد أنني أرى أن هذا المخطط أو هذه الإمكانية لا يمكنها أن تتحقق إلا بشرط واحد وهو تفكيك سورية التي تسمى عامود السماء، وإذا سقط عامود السماء فستسقط السماء ويكون عندئذ على الأرض السلام.