باريس / أكّد تصاعد العنف في غزّة في آذار/مارس الطبيعة غير المستقرّة للوضع الراهن ومأزق الاستراتيجيّة الإسرائيليّة. تشكّل قطاع غزّة ككيانٍ مستقلّ نتيجة حرب 1948-1949. فقد توافد إليه خلال النزاع الكثير من الفلسطينيين المهجّرين. تنبّه رئيس الوزراء الإسرائيلي دايفد بن غوريون، الرؤيويّ الدائم، على الفور لهذا التركّز للاّجئين شمال غرب صحراء النقب. ذلك أن الحاجز الطبيعي الذي شكّلته صحراء سيناء قد وضع غزّة بمنأى عن ظاهرة التشتّت، كما حصل في الدول المجاورة، مع ظهور مخيّمات اللاجئين في ضواحي عمّان وبيروت ودمشق. هكذا تحوّلت أراضي غزّة نفسها، أقلّه بالنسبة لثلثي سكّانها، إلى مخيّمٍ ضخمٍ للاّجئين. هنا فكّر بن غوريون بامتصاص هذه المشكلة عبر عرضه ضمّ غزّة، لكن هذا العرض دُفن منذ العام 1949 في مؤتمر لوزان. بالتالي تحوّل القطاع حينها إلى بؤرة توتّر في الجنوب، وإلى ميدان تجريبي لغارات تخويفيّة وعمليات قصف همجيّة. ترافق الاجتياح الإسرائيلي في العام 1956، خلال أزمة السويس، مع عملية قمعٍ دامية؛ لكن غزّة أُخليت من الاحتلال نتيجة الضغوط الدوليّة. فارتأى بن غوريون حينها المراهنة سلباً على اليد الحديديّة للرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي ضمن هدوءاً حقيقيّاً في هذا القطاع حتّى العام 1967. ثمّ شكّل احتلال قطاع غزّة فور بداية حرب حزيران/يونيو، أولاً بالنسبة للإسرائيليين تحدياً على صعيد مكافحة التمرّد، في مواجهة مقاومة فلسطينية تميّزت بعنادٍ لا مثيل له. إذ بعد قضائه بوحشية على المتمرّدين، ارتأى الجنرال موشي دايان حلّ قطاع غزّة عبر "الأبواب المفتوحة" (حرية التنقّل) مع إسرائيل والضفّة الغربية. وقد أتت هذه السياسة بثمارها خلال عقدين من الزمن. لكنّ رئيس الوزراء إسحاق رابين قرّر في العام 1993 إجراء تنظيمٍ منهجي لـ"عمليات تطويق" الأراضي، وفتح حوارٍ مع منظّمة التحرير الفلسطينية. أصبح التخلّص من غزّة هو هاجس السلطات الإسرائيلية، التي كانت تسعى إلى نقل مهمّة الحفاظ على الأمن إلى قوّة فلسطينية، شرط الاحتفاظ بحقّ التدخّل في أيّ وقتٍ كان في حال التعرّض للخطر. هكذا تبدو الاستمرارية الاستراتيجية بهذا الصدد واضحة، بين الانسحاب الجزئي في العام 1994 والانسحاب الأحاديّ في العام 2005. لكن في حين حفّز رابين ديناميّة لإرساء السلام، وضع رئيس الوزراء آريال شارون غزّة أمام الأمر الواقع. ومنذ العام 2005، تجد إسرائيل نفسها أمام طريقٍ مسدود نتيجة مقاربتها الأمنيّة حصرياً، التي غذّت في المقابل، نتيجة وحشيّتها، تحرّكاً دولياً على وتيرة الأزمات. وقد بلغت "المهمّات المدنية"، التي ولدت نتيجة الحالات الطارئة الإنسانية، حدودها كونها وجدت نفسها عاجزة عن رسم أفقٍ جديد لسكّان غزّة. وبقي هؤلاء رهينة المواجهة المسلّحة بين فتح، التي لم تقبل أبداً بالفوز الإسلامي في انتخابات كانون الثاني/يناير 2006، وحماس التي بسطت سيطرتها على القطاع في حزيران/يوليو 2007. هكذا ساهم الاستعصاء الذي أفضت إليه الاستراتيجية الإسرائيلية في تفاقم الأزمة الإنسانية، التي تسبّب في تفاقمها أيضاً الأزمة السياسيّة المستمرة على الساحة الفلسطينية. ويجد المليون ونصف نسمة المقيمين في القطاع، الخاضعون أساساً لعزلٍ جسديّ ذي صرامة إستثنائية، أنفسهم أسرى هذه الأزمة الثلاثية الأبعاد. تمّت مبادلة جنديّ الدبّابة شاليط مقابل ألف معتقل بعد شهر، استُتبع الانسحاب الإسرائيلي وتفكيك المستوطنات في قطاع غزّة، في نهاية صيف العام 2005، بشنّ هجومٍ يحمل اسماً منذراً: "عود أبديّ على بدء". وستتعاقب بعدها الغارات وعمليات القصف الإسرائيلية، وآخرها كان في آذار/مارس 2012. كما تسبّب اختطاف جندي الدبابة جلعاد شاليط، في 25 حزيران/يونيو 2006، بتصعيدٍ إضافي. وقد أدّى فضّ الهدنة بين حماس وإسرائيل، من حزيران/يونيو إلى كانون الأول/ديسمبر 2008، إلى موجةٍ كبيرة من العنف خلال عملية "الرصاص المصبوب"، التي أحصيت ضحاياها في أحد التقارير من واحدٍ إلى مئة ما بين الخسائر الإسرائيلية والفلسطينية؛ دون أن يؤدّي ذلك إلى وقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل في العام 2009. وخلال الأشهر الستّة الأولى من العام 2010، قتل الاحتلال أربع وثلاثين فلسطينيّاً في قطاع غزّة (بينهم أحد عشر مدنيّ)، في حين أن الإسرائيليين الثلاث الذين سقطوا كانوا عسكريين [1]. أما حصيلة النصف الثاني من العام 2010، فكانت مقتل سبع وثلاثين فلسطينيّاً (بينهم اثنا عشر مدنيّ) وعدم سقوط أيّة ضحيّة إسرائيلية [2] . هكذا تعتقد إسرائيل بأنّها وجدت الصيغة المناسبة للتحّكم بحدودها الجنوبيّة، مقابل كلفة باهظة للغزّاويين، لكنّها مقبولة تماماً من قبل الرأي العام الإسرائيلي. إنّ الثورة المصرية التي اندلعت في 25 كانون الثاني/يناير 2011، والتي أرغمت الرئيس حسني مبارك، خلال ثمانية عشر يوماً، على الرحيل، سرعان ما بدّدت هذا الوهم الاستراتيجي. ونتيجة تبادلٍ للأدوار، أصبحت غزّة هي التي تغذّي، بفضل الأنفاق، مدينة رفح المصرية التي عُزلت عن العالم - أي عن القاهرة - بسبب أعمال العنف التي شهدتها قناة السويس. وإسرائيل التي كانت قد أصرّت على منع أيّ انتشار عسكريّ في منطقة السويس، بموجب اتفاقية السلام التي وقّعتها مع مصر في العام 1979، قد سمحت بانتشار لم يسبق له مثيل للقوات المسلّحة المصرية شرق السويس، لكي تتمكّن من تطويق التحرّك الثوري... في 11 تشرين الأول/أكتوبر 2011، وبفضل وساطة القاهرة وتدخّل المخابرات الألمانية (BND)، توصّلت حماس وإسرائيل إلى اتفاقية لتبادل للأسرى. فاشتُرط إطلاق سراح الجندي جلعاد شاليط، بعد أسبوع، بإطلاق سراح 027 1 معتقلٍ فلسطيني: 477 أفرج عنهم بموجب لائحة تمّ الاتفاق عليها بين حماس وإسرائيل، ومن ثمّ 550 آخرين أطلق سراحهم حسب رغبة إسرائيل في غضون شهرين. طبعاً، لم تحصل حماس على إطلاق سراح شخصيّات رمزية من حركة فتح - السيد مروان البرغوتي - والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين - السيد أحمد سعدات. لكنّها ضمنت إطلاق سراح العديد من مناصري فتح، ولجان المقاومة الشعبية والجهاد الإسلامي. وضمنت بشكلٍ خاص عودة العشرات من كوادرها وأعضائها التاريخيين، الذين حُكم على البعض منهم بعدّة عقوبات سجن لمدى الحياة، لمشاركتهم في اعتداءات ضدّ الإسرائيليين. استلزم الأمر من إسرائيل حوالي ألفي يومٍ لكي توافق على الجزء الأساسي من المطالب التي نقلتها لها حماس غداة إلقاء القبض على شاليط. وخلال خمسة أعوام ونصف، شنّ جيشها هجومات للقضاء على حماس، أو أقلّه لإرغامها على الاستسلام. علماً أنّ حكومة السيد بنيامين نتنياهو لم تستنبط أيّة نتيجة من فشل هذا الخيار العسكري المحض، في حين أنّها لم تتوصّل أبداً إلى تهديد سيطرة حماس على قطاع غزّة. بل على العكس، إنّ الحركة الإسلامية هي التي تحافظ على أدنى مستوى من الاحتدام في الصراع، عبر تدارك الحصار من خلال إدارتها للأنفاق التي قد يصل عددها إلى ستمائة، بحسب منظمة الأمم المتحدة. خلال شتاء العام 2011، نشأ تحرّك نضالي لم يسبق له مثيل في غزّة، يتناغم مع المطالب الشعبيّة في تونس والقاهرة. وفي 31 كانون الثاني/يناير 2011، مُنعت تظاهرة مؤيّدة للثورة المصرية. وأدّى إسقاط الرئيس مبارك، في 11 شباط/فبراير، إلى إلهاب حماسة المتظاهرين الفلسطينيين. كما تمّ تكييف شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" مع واقع غزّة ليصبح: "الشعب يريد نهاية الانقسام"؛ فتمّ وضع حماس وفتح وجهاً لوجه باسم المصلحة العليا للشعب الفلسطيني. وفي 14 آذار/مارس 2011، ردّد آلاف الشبّان هذا الشعار. لكن في اليوم التالي، ازداد عددهم عشرة أضعاف، في حين كانت التظاهرات محدودة أكثر في الضفّة الغربية. إلاّ أنّ التظاهرات تدهورت لأنّ بعض مناصري حماس أرادوا فرض شعار حزبهم على المتظاهرين الذين لم يسمحوا سوى بالعلم الفلسطيني. هل المصالحة الفلسطينية ممكنة؟ بالرغم من تلك الحوادث، خلقت الديناميّة التوحيدية ميداناً مؤاتياً للمصالحة، أقلّه رسمياً، بين حماس وفتح. وقد ساهم سقوط نظام مبارك، الذي لم يكن يسعى إلى لعب دور الوساطة بقدر احتواء الحركة الإسلامية، أيضاً في هذا الاختراق. أمّا بالنسبة لتقهقر سوريا برئاسة السيد بشّار الأسد، فقد أرغم القيادة المنفيّة لحماس على منح قيمةٍ أكبر للمطالب التي تمّ التعبير عنها في غزّة. ففي 4 أيار/مايو 2011، أجرى القائدان خالد مشعل ومحمود عبّاس، اللذان لم يلتقيا مجدّداً منذ "الوحدة الوطنية" التي تمّ التوافق عليها في مكّة قبل أربعة أعوام، والتي كان مصيرها الزوال السريع، لقاءاً في القاهرة للتوقيع على اتفاقية. وتمّت الموافقة على وضع إطارٍ للتعاون بين الأجهزة الأمنيّة في رام الله وغزّة. ووافقت حماس على مبدأ متابعة منظّمة التحرير الفلسطينية المفاوضات مع إسرائيل، إذ لا تعتبر نفسها معنيّة بها، لكنّها عبّرت عن استعدادها للموافقة على نتائجها. بعد كلّ هذه الدماء التي أهرقت وكلّ الفرص الضائعة، يصعب على سكّان غزّة أن يصدّقوا بأن صفحة المعارك ضدّ الآخر في فلسطين قد طويت نهائياً. وتبقى المصالحة الفعلية هي الشرط الأساسي لإخراج القطاع من الكفن الذي دُفن فيه منذ حزيران/يونيو 2007. ويعود القرار النهائي لتحقيق هذا المنعطف إلى السيدين عباس ومشعل، المقيمان بعيداً عن غزّة ومشاكلها؛ فالأول يقيم في رام الله، والثاني في قطر (منذ رحيله من دمشق). لكنّ عمليات الثأر بين الميليشيات المتخاصمة، ومضاعفة الإدارات البيروقراطية المتضخمة، تشكّل عائقاً كبيراً في وجه أيّ شكلٍ من أشكال التقارب المستدام. إلاّ أنّه كيف يمكن التخطيط لمستقبلٍ لائق ومصيرٍ مشترك لسكّان غزّة، طالما تستمرّ الحركتان الفلسطينيتان الرئيستان بالتحارب؟ ثلاث أجيال ترعرعت في هذا القطاع الذي هيكله التاريخ. "جيل الحزن"، من العام 1947 إلى العام 1967، الذي حضّر الطريق أمام "جيل الانسحاق"، من العام 1967 إلى العام 1987، ومن ثمّ أمام "جيل الانتفاضات"، من العام 1987 إلى العام 2007. علماً أنّه هنا، كما في سائر أنحاء فلسطين، طرق الخروج من هذا الكابوس الجماعيّ بسيطة ومعروفة. ويمكن عرضها في ثلاثيّة فاضلة: خرق العزلة، والتنمية ونزع السلاح. قد تتعارض هذه الديناميّة مع التوجّهات التي يتمّ اتّباعها بثباتٍ منذ عقدين. إلاّ أنّه سبق لشباب غزّة أن برهنوا، خلال تحرّك آذار/مارس 2011، عن تصميمهم على الإطاحة بنظامٍ مشؤوم إلى هذا الحدّ. وللخروج من هذه اللعنة، يجب العودة إلى الطرح السابق الأكثر تبشيراً بالخير في العمق لاتفاقيات أوسلو: غزّة أوّلاً. * أستاذ مشارك في معهد الدراسات السياسية في باريس. من مؤلفاته Les Frontières du jihad (2006) et de L’Apocalypse dans l’Islam (2008), tous deux publiés chez Fayard. Histoire de Gaza, الذي سيصدر عن دار Fayard . عن ليموند ديبلوماتيك