العدالة الانتقالية (Transitional Justice) اسم جديد يُتداول اليوم في ساحة العدالة الدولية والمحلية في بلدان العالم ويثير صخبا وضجيجا واسعا لدي الحكام والمحكومين علي السواء سيما لدي أنظمة الحكم الاستبدادية أو المهترئة سياسيا واجتماعيا التي تطاردها لعنات الضحايا من مواطنيها المظلومين بكرة وعشية، ويتساءل الناس عن ماهية هذا النموذج من العدالة وهل يشكل بديلا عن العدالة العادية والقضاء الوطني والدولي وماذا يميز كل من العدالتين عن الاخري . ان التعريف الأوفي لهذا المصطلح القانوني والاجتماعي الجديد يتمثل في أن العدالة الانتقالية هي العدالة التي تواكب التحول الديمقراطي في الدول والكيانات السياسية والجماعات السكانية ذات طبيعة الحكم الدكتاتورية أو الشمولية او تلك التي تعاني من صراعات وحروب اهلية وخلفت وراءها انتهاكات واسعة لحقوق الانسان وضحايا لممارساتها البشعة واللانسانية وتسعي العدالة الانتقالية لمعالجة هذه الانتهاكات وجبر أضرار الضحايا بما يلائم طبيعة هذه المجتمعات , وسميت هذه العدالة بهذا الاسم لانها عدالة مؤقتة ومرحلية تعالج فترة زمنية و التي هي بمثابة مرحلة انتقالية معينة للتحول بين النموذج الديمقراطي وما يتضمن من سيادة للقانون والعدالة النظامية وبين النموذج الاستبدادي أو الفوضوي السابق والذي عادة ما تكون العدالة فيه جزءاً من منظومة الانتهاكات والسلطات القائمة عليها . ولهذا النموذج من العدالة سياق تاريخي ينبغي الولوج في ثناياه وصولا الي صيرورته الحالية وبشكلها القائم , حيث تعود أرهاصات العدالة الانتقالية الأولي الي محاكمات نورمبرغ الشهيرة خلال الفترة ما بين عامي 1945-1946م بعد وضع الحرب العالمية أوزارها لمعالجة الانتهاكات وأثار الجرائم الوحشية التي اقترفها قادة المانيا النازية , وبعدها بعقود أخذت شكل نماذج أخرى كلجنة التحقيق في الاختفاء القسري في اوغندا عام 1974م وتجربة لجنة مماثلة في الارجنتين عام 1984م وتلتها لجنة الحقيقة والمصالحة في تشيلي عام1984م الا أن اللجنة الأشهر تلك هي التي شُكلت في جنوب افريقيا عام1995م والتي شكلت النموذج الابرز نظرا للتمييز العنصري المهين الذي شهده حكم أقلية البيض للاغلبية السوداء والمعروف بالأبرتهايد ، وتلي ذلك لجان اخري معاصرة في المغرب وتيمور الشرقية والبيرو ..... وغيرها . غير أن البعض يذهب في تأصيل النشاة الاولي للعدالة الانتقالية الي اقدم من ذلك بكثير كممارسات مشابهة حدثت في اثينا القديمة و توقيع معاهدة بهذا الشأن ، وأيضا في عهد الاسلام ومعالجته لاثار الجاهلية ومظالمها الرهيبة في الارواح والاموال والاعراض في ظل عدالة الدين الجديد وتكريمة للانسان وكرامته وحريته . بيد ان تجربة جنوب افريقيا علي المستوي الدولي تمثل النموذج الانجح في مجال تطبيق العدالة الانتقالية , كما ان المغرب تعتبر التجربة الاولي علي مستوي العالم العربي وهي تجربة رائدة ومتميزة ومتفردة عاينتها بنفسي مع زملاء لي من هيئة الوفاق الفلسطيني في زيارة رسمية للمجلس الوطني لحقوق الانسان الذي ورث مهمة و عمل هيئة الانصاف والمصالحة المغربية ويشرف علي تنفيذها ومواصلة اهدافها ورسالتها . وتقوم العدالة الانتقالية في تطبيقها علي اسس ومراحل عدة اهمها :-* الكشف عن الحقيقة : وتشرف عليها لجان الحقيقة التي عادة ما تكون مستقلة عن الدولة وارادة الحكم فيها والتي تسعي الي التحقيق في الانتهاكات الجسمية لحقوق الانسان وكسر جدار الصمت وطمس الوقائع الشاهدة وتقصي الحقيقة فيها عن الجرائم التي حدثت والقائمين عليها وظروفها والمسؤوليات الجماعية والفردية عنها.* محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات : بغض النظر عن نوع المسؤولية فردية كانت او جماعية والتصدي لإفلات المجرمين من الحساب والمساءلة عما اقترفت أيديهم من فظائع وجرائم بحق مواطنيهم رغم تفاوت إشكال المحاسبة من تجربة الي اخري .* جبر أضرار الضحايا وذويهم : وهو تحصيل حاصل بالإقرار بالمسؤولية سميا من طرف الدولة عما سببته من أضرار مادية ومعنوية للضحايا وأسرهم من جرائم قتل وتعذيب ونفي واختفاء قسري ومصادرة ممتلكات وتشهير وأذي معنوي ... الخ , وذلك بالتعويض المادي والمعنوي علي حد سواء من خلال صيغ ومعايير يتم التوافق عليها واعتمادها مع مراعاة جبر الضرر الفردي والجماعي علي قدم المساواة أيضا وهذا يعتبر إنصافا للضحايا .* إصلاح مؤسسات الحكم : سواء كانت دستورية أم قضائية ام تشريعية أم تنفيذية لضمان عدم تكرار الماضي الأليم وكفالة استقلال القضاء وسيادة القانون وتوفير ضمانات لذلك من خلال سن تشريعات تكفل ذلك وتأهيل موظفين عموميين ليسهرون علي التنفيذ و التطبيق الأمين لها.* تحقيق المصالحة الشاملة : وهي النتيجة الإجمالية للمراحل السابقة والحتمية الطبيعية لتطبيق العدالة الانتقالية وهي إذ تطوي صفحة الماضي لا يعني النسيان بل تسعي للحفاظ علي الذاكرة للأجيال الحاضرة والقادمة للحيول دون تكرار الماضي الأليم . وهذا النموذج من العدالة الذي اعتقد انه سيشهد ازدهارا واسعا في منطقتنا العربية مع رياح التغيير والربيع العربي الذي اقتلع أنظمة استبدادية شمولية مارست علي مدار عقود من حكمها شتي اشكال الانتهاكات والجرائم بحق مواطنيها، واذا كانت هذه التجربة - كما أسلفت – بدأت في المغرب الشقيق وحققت فيه هيئة الانصاف والمصالحة انجازات هامة - رغم تحفظات بعض الاوساط السياسية والاجتماعية علي التجربة بدوافع ومبررات مختلفة – بيد أنها عالجت عمليا آلافا من ملفات الانتهاكات الجسمية وجبرت أضرار ضحاياها وجعلت منها تجربة رائدة استحقت تصنيفها ضمن أنجح خمس تجارب علي مستوي العالم بشهادة منظمة الأمم المتحدة وشكلت مصدر الهام لتطبيقها في بلدان عربية اخري منها تونس و فلسطين وليبيا و ...غيرها . فلسطينيا ماهي أفاق تطبيق تجربة مماثلة في بلادنا ؟ أقول أنه بالرغم من أن لفلسطين خصوصيتها باعتبارها حديثة التجربة في ممارسة الكيانية السياسية والسيادة المجتزأة مقارنة بالدول الاخري ذات السيادة الكاملة وأنظمة الحكم المستقلة إلا ان بيئة الانتهاكات لحقوق الانسان واحدة في المجتمعات البشرية باعتبار الانسان نفسه هو الجاني والضحية فيها في آن واحد بغض النظر عن دينه وجنسيته وقوميته وجنسه , وبالتالي مسيرة شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات بحاجة لتفكير جدي وحقيقي للأخذ بنموذج العدالة الانتقالية وتطبيقه في بلادنا سيما بعد الأحداث الدامية في يونيو 2007م بين الفصيلين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية حركتي فتح وحماس وما أسفر ذلك عن انقسام سياسي وجغرافي ومؤسساتي حتي أصبحنا بصدد شبه نظامين سياسيين متنازعين وحكومتين في رام الله وغرة وما صاحب ذلك من قتل للمئات من الضحايا والإصابات والاعاقات وحرق الممتلكات والتهجير القسري والمساس بالممتلكات العامة والخاصة وممارسة التعذيب والاعتقال السياسي .. الخ من ممارسات طالما كان العدو والاحتلال هو بطلها و ابناء شعبنا ضحاياها , وهذه الممارسات لعبت دورا مأساويا ومستمرا في تهتك النسيج الاجتماعي وتكريس الضغائن والأحقاد وروح الثأر بين النفوس وتعطيل مسيرة المصالحة الوطنية التي تعتبر المصالحة المجتمعية فيها ورد الحقوق لأصحابها وجبر الإضرار بعد كشف الحقيقة والمحاسبة المدخل الضروري والممر الإجباري للوصول الي شاطئ نجاح المصالحة الحقيقية وتطبيقاتها فعليا . ان العدالة الانتقالية وتطبيقها فلسطينيا في ظل انقسام الجهاز القضائي الفلسطيني وتوظيفه من قبل فرقاء السياسة بشكل أو بأخر كبديل عن مرجعية قضائية موحدة ومهنية وفقا لأحكام الدستور المؤقت ( القانون الأساسي ) تعتبر الخيار الوحيد للخروج من عنق الزجاجة التي تُحشر فيها مسيرة المصالحة وتعطل تقدمها وتبشر بأمل جديد نزفه لشعبنا لتحقيق الوفاق والمصالحة الوطنية التي ينشدها كل شعبنا بكل أطيافه السياسية والفكرية والاجتماعية . أنها دعوة للفرقاء الفلسطينيين سيما الإخوة في حركتي فتح وحماس وهيئة الوفاق الفلسطيني وكل الخيرين في أوساط شعبنا للتوافق علي تأسيس اللجنة الوطنية المستقلة للمصالحة المجتمعية كعنوان لتطبيق العدالة الانتقالية في بلادنا ووضع جدول إعمال وبرنامج عمل لها بالاستفادة من تجارب الأشقاء والأصدقاء وخبرات المركز الدولي للعدالة الانتقالية كمؤسسة دولية راعية لهذه العدالة وتطبيقاتها علي مستوي العالم للشروع فورا في في آليات تطبيق المصالحة الاجتماعية الشاملة و تقديم نموذجا جديدا للعالم الذي طالما شكلنا مصدر الهام له على مدى عقود نضالنا و جهادنا الطويل .