لا أعرف أحياناً ـ في مثل هذه الأوقات الصعبة والعصيبة، وكانت الأوقات كذلك طيلة الوقت ـ أيّ قوة نمتلكها، حتى لكأننا نبدو على هذا القدر من الصلابة في المضي هكذا، قادرين على البقاء، وأن نواصل العيش بل حتى الرغبة في الحياة، عاديين، كما لو أننا نعيش في ظروف عادية؟. هل هذا هو معنى الصمود؟ المعنى الأكثر بساطة وتكثيفاً واختزالاً لهذه الكلمة التي يبدو أحياناً كما لو أنها اشتقت في اللغة لأجلنا. صامدون وصامدون. هنا يقول، يردد المغني، كلمات شاعرنا، كما يا وحدنا، وحدنا، الكلمة التي تصرخ، تعبّر عن بأسنا، وعزيمتنا. فحتى على الرغم مما يبدو أن كل شي ضدنا، وجميع الطرق قد سدت أمامنا، فإن هنا إنما تحدد استثناءنا، تميزنا بل موهبتنا، في مواجهة هذا المستحيل أو الطريق المسدودة وقهر هذا المستحيل على حد سواء في قدرتنا المعجزة على البقاء. من يدافع عنك إذن، يا هناء شلبي؟ عن طفلتنا الصغيرة، أمنا الصغيرة التي وراءنا، وكيف نملك القدرة على النوم ونأكل وفق نصائح علماء التغذية، ونذهب بعد القيلولة في رحلة المساء؟ كيف لنا هذه القدرة على احتمال هذا الوجع؟ وأشد الأوجاع وجع الحاضر، وقد نملك من ترف الحياة، أن نشعر بهذا الوجع لمجرد السأم، الملل، من روتين الحياة، بينما يا وحدك تواصلين هذا الانتظار المعذب تحت وقع دقات الساعة الكبيرة تسمعينها في صمت، كإيقاع رهيب، بتثاقل بطيء، يسير إيقاع الزمن، ولا مغيث. وسيف ديمقليس المعلق في السقف، يذكر بالزمن، في انحلال الحبل الذي يشده مع مرور الوقت، بطيئاً بطيئاً، تماماً كما الجسد يذوي في يبوسه، جفافه، قريباً من الموت، وما يبرح حتى يتحول إلى خشبة بلا حياة. هل نحن أمّة مكللة بالهوان أم بقوة الأبطال؟ وهل لهذا السبب كان تعرفنا منذ بداية تقدم الرتل، على اكتشاف صورتنا في مأساتنا، بل قصتنا كامتداد المأساة الإغريقية القديمة. تشرد أوذسيوس في رحلة العودة إلى الوطن. والانتظار العظيم في ممر الماراثون، حدوث المعجزة وأن يأتي مغيث. فماذا يفعلون إذن خضر عدنان، وهناء شلبي، سوى القفز من الماراثون، من الانتظار والإلقاء بجثتيهما أمام العدو، على أقواسكم ودروعكم وسيوفكم. نغني للعودة. فكم يستغرق كل ذلك من الوقت؟ إنها مسألة وقت. هكذا كان في التاريخ وهكذا سوف يكون. قد يضمر الجسد، يذوب، يتصلب كالموت، لكن هذه الخشبة التي كانت طفلة صبية يانعة، كزهرة النيروز في عيد الربيع، الوردة الجورية التي تنبت في هذه الأرض، لن تستطيعوا بعد أن دستم عليها بأقدامكم السوداء أن تقتلوا أريج عطرها، رائحتها. لكن ليس سوى خوض الجسد هذه التجربة والمرور من هذه الرواقية التي تبلغ حد الرهبنة، القديس سمعان الراهب وحتى البوذية ما يسمو بالروح وقد تجاوزت الجسد لأن تستقر في مكانها العلي في الرأس، في جبين الوجه. هل لهذا السبب سمي هذا المرتفع في جبين الوجه بالجبهة؟ حينما يطرح الجسد يتخلّص من كل سمومه، ترجع الروح إلى نقاء صورتها، تكوينها الكلي، كغلاف أبيض شفاف، شديد الرقة. يضيء كل الوجه، كبريق وضياء، تغذية الجسد بهذا القبس، القدرة على الحياة مثلما دورة دائرية تغذي نفسها بنفسها، فهل هذه هي النفحة السحرية السرية التي تمنحهم القدرة على مواصلة الإصرار، اليقين في الذهاب إلى النهاية، حينما تبدو الروح وقد تحررت وتطهرت من ضعف الجسد، أقوى من الجلاد، قوة الإشعاع التي تشع من الجبين، من وحدتها على شعب وأمة. إن وراء كل شعب امرأة، وأنت يا هناء شلبي من تصعدين لكيما تكوني اليوم هذه المرأة وراء شعبك. لكيما تحرسي روحنا لئلا يضللنا البخار الصاعد من جسدنا. لكن ما كنا لنظهر هذه القدرة على الاحتمال والصمود وقوة البأس، إلا كحيلة غريزية، دفاعية عن النفس لكيما نخفي ضعفنا، وأنه فقط طالما نبلغ نقطة عدم القدرة على هذا الاحتمال، حين يصل هذا الضغط حد الطفرة أو الغليان، فإننا سنذهب حينئذ كما تقول القصيدة بعيداً في انفجارنا، وليس ما تفعله امرأة طفلة اليوم، خضر عدنان وبعد ذلك هناء شلبي سوى الصرخة، قرع الأجراس، الذي يسبق هذا الانفجار، إيذاناً بقرب خروجنا من هذا الصبر العظيم. زين الدين زيدان ومحمد مراح، معايير ومعايير لا نقبل أن يقتل أطفال أينما كان، بذريعة الانتقام لمقتل الأطفال الفلسطينيين، فالأطفال هم الأطفال أحباب الله، كما نقول نحن، بصرف النظر عن جنسياتهم، لونهم، أو عرقهم، لكن أليست هذه حقارة سياسية وأخلاقية، حينما يجري التمييز بين أطفال فلسطين، والأطفال اليهود في تولوز؟ وفي لحظة نادرة من صحوة الضمير حينما أدانت السيدة كلود آشتون ما حدث في غزة للأطفال وما حدث في تولوز، حيث نددت بهذه المساواة إسرائيل. النفاق السياسي العالمي، لم تبرأ منه حضارة الغرب الاستعماري الرأسمالي إلى يومنا رغم الربيع العربي. فهاكم بعض ما يمكن تسجيله في الأيام الأخيرة. حينما يضرب الإرهاب في دمشق وحلب فإن هذا يعتبر أعمالاً تتم دفاعاً عن النفس، ضد نظام مستبد. ولكن حينما يضرب هذا الإرهاب نفسه في فرنسا فإن هذا الإرهاب يتم توصيفه، على أنه أعمال تنفذها القاعدة ويجري التمييز ضد ديانة بأكملها في فرنسا. وحين يكون المواطن الفرنسي الذي يحقق سمعة جيدة واسمه زين الدين زيدان يجري الصمت، السكوت عن أصله الجزائري بينما يذكر الأصل الجزائري بتركيز واضح حينما يتعلق الأمر بالمواطن الفرنسي محمد مراح، وعندما تواصل فتاة فلسطينية الإضراب عن الطعام احتجاجاً على اعتقالها دون مبرر فإن العالم يصم أذنيه عن آلاف المعتقلين الفلسطينيين، وكان قد أقام الدنيا ولم يقعدها على اعتقال شاليت. وحينما يدافع الفلسطينيون في غزة عن أنفسهم، أمام التعديات الإسرائيلية التي لا تنتهي الصواريخ في مواجهة ترسانة حربية هائلة فإنه يتم ببساطة تصوير إسرائيل قوة الاحتلال على أنها الضحية ونحن الجلادون. لا نتأكد اليوم من سقوط الغرب الأخلاقي، ولكن من حقيقة أن هذا الغرب الذي أنتج أخلاقاً بمعايير مزدوجة لم يكن مرة جزءاً من الحل، وإنما هو المشكلة، الغرب الرأسمالي الاستعماري الذي اخترع إسرائيل، ويوجه كل ثقله لقتل الدولة السورية، بعد العراق، دون أن يوجه جزءاً من هذا الثقل لإقامة الدولة الفلسطينية، إزالة آخر احتلال بقي في العالم. فأين مؤتمر أصدقاء الشعب الفلسطيني على سبيل المزاح؟ لكن، لا فإن لنا مؤتمر المانحين، مليار دولار لأجل تطوير مشاريع التنمية في أراضي السلطة ودفع الرواتب، هذا صحيح ولكن الزاوية الأخرى الدافع الذي يختبئ في مكان آخر عميق هو من أجل إدامة الوقت في الحفاظ على الـ"ستاتيكو" استقرار الوضع القائم، حين يخيل لنا أحياناً أن دهاء المكر الغربي هو الذي اخترع لنا هذه الرشوة مرتين، المرة الأولى في أعقاب النكبة بطاقة التموين والمرة الثانية بدول المانحين، حتى نبقى عبيداً لهما في المرتين. وكأن هذا الاستلاب مطلوب لذاته. البابا شنودة الثالث: الوطنية والسياسية قيل في وداعه إنه كان صمام الأمان، ذاك البابا الذي كان أحد رموز الوطنية المصرية. سلاماً عليك. صحافياً وفدياً في شبابك، شاعراً وفيلسوفاً، كان على مدى التسعين عاماً التي قضاها، عاصر الملك فؤاد وفاروق وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، وحتى ثورة مصر الأخيرة. تسجل على شاهد قبره كلمتان: رفض التدخل الأجنبي الخارجي في قضية الأقباط، وقال: إذا كان الأمر كذلك "لتحيا مصر ويموت الأقباط" ورفض أن تحج رعيته إلى القدس في ظل الاحتلال الإسرائيلي لها. هذا الموقف كان امتداداً لموقف مسيحيي الشرق، القوميين العروبيين، في ذروة التدخل الاستعماري الغربي، منذ فارس الخوري، وميشيل عفلق، وأنطون سعادة، وجورج حبش، ونايف حواتمة، وكمال ناصر، وقسطنطين زريق، وحتى البطريرك بشارة الراعي، والمطران عطا الله. وقف فارس الخوري على منبر المسجد الأموي وسط دهشة المصلين يوم الجمعة، وبعد أن نطق الشهادتين قال: أيها المسلمون السوريون إن فرنسا تدعي احتلالها لسورية لحماية المسيحيين وأنا أقول لفرنسا من هنا إنه في مواجهة الاحتلال جميعنا مسلمون. لكن في رحيل البابا شنودة الثالث يمكن التأكيد على موقف الرجل من الثوابت الوطنية المصرية، وهذا بخلاف تسييس المسيحية، القبطية السياسية. وهنا ربما في نقطة التقاطع، التوازن بين الانحياز إلى الثوابت الوطنية، وبين الانخراط السياسي، التسييس ربما أخذ عليه في عهد مبارك، اختلال هذا التوازن، ما بدا أحياناً تحت بعض الضغوط والفتن التي افتعلها النظام المخلوع. "ست الحبايب" فايزة أحمد لعل صوتها كان هو الأجمل بين قريناتها، الجمال بما هو التوافق أو التناغم الذي يبلغ التماهي الصوت والروح، حتى لكأنه صوت يصدر من القلب، ولكن عند هذه النقطة التي لا يمكن تحديدها وتعيينها في الحس من التوازن في نبرة الصوت وتمنح الصوت قوة، قوته المؤثرة، حتى يمضي بنا إلى الأعماق الدفينة للنفس، الشعور بالجلال الفطري، بل السحري للصوت، حينما يبدو هذا الصوت، تعبيراً خالصاً عن هذا التوافق مع النفس. لبعض الأصوات شذى كروائح الورد والعطور، "أنا سوسنة" تقول فيروز. وللعطر أصوات تحاكي ذبذبات السمع، عطر يهمس إليك، عطر يتمتم بالكلام، وآخر يصرخ، وعطر يصمت عن الكلام عطر يناديك وآخر يستفزك بالكلام. لكني أحب لو أداعبها، لأقول إن صوتها "تمرة الحناء" كما أغنيتها التي يشتكي منها ورد الجناين. هذا صوت يحمل عبق ماض بعيد، كما لو أنه يلقي علينا تحية الوداع سلاماً معطراً قبل أن يغيب. صوت يأتي صداه من حواري مصر، وهي لم تزل تنثر ابتساماتها، عطرها أغنيتها على صبح جديد، صبح مصر الخارجة لتوها من سور خدر الحريم، لتنثر، توزع الفجر أغنيات نشيداً عذباً لعهد لزمن واعد جميل. لها سلاماً حينما نقوم اليوم على وقع صوتها بتقدمة الورود إلى كل بيت. هذه السورية، التي أخذتنا بصوتها منذ وعينا على الدنيا كألوان الصبح، "يما القمر ع الباب" عن الصبية بنت البلد، كما لو أنها توقظ بصوتها الحياة، الرغبة التي تكشف تحايلها اللذيذ في التصريح عن الحب، في الزمن الجميل. وفي هذا اليوم عيد الأم، أغنية الأم التي لم يستطع أحد أن ينساها، مع لحن عبد الوهاب "أبو التعبيرية" في الموسيقى العربية الحديثة، وست الحبايب إنما هي الأغنية التي تضفي على هذا العيد، عيد الأم بهجته. توقفوا لحظة، عند برهة الصمت، "زمان..." اختزال المعنى في كل شيء جمال الأداء، الصوت كما اللحن. ليرحم الله هذه السيدة، ويبارك روحها، الصوت الذي لا يزال يشدنا كالورد الندي، إلى يومنا. فايزة أحمد وليرحم الله أمهاتنا ويبارك كل الأمهات. وقد كتب نزار قباني من أجمل قصائده الأولى إلى أمه بعد سنتين من غربته، وكذا كتب محمود درويش "أحن إلى خبز أمي" وغنى سميح شقير واحدة من أجمل أغنيات الأم، وكذا فيروز "أمي يا ملاكي" وكتب عبد الرحمن الأبنودي إلى أمه "تأخذني المدينة"، ولكن هنا علاقة الأبناء الرجال الغائبين في الحنين للعودة إلى رحم الأم، بيد أنه هنا فقط نحن أمام الحياة التي محورها الأم، في علاقة البنت والأم الصورة الأكثر تعبيرية، التي تستحضرها الذاكرة، في الوجدان العاطفي الشعبي. أغنية بمثابة أيقونة فقط معلقة على جدار الزمن. التسوية الوحيدة الممكنة انصاع الغرب لمشيئة روسيا في بيان مجلس الأمن الدولي حول خطة الخروج من الأزمة السورية. في الأزمة السورية الحل بيد روسيا، تماماً كما في الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية، الحل أميركي. تدعم روسيا النظام السوري حتى النهاية، وتدعم أميركا إسرائيل حتى النهاية، وهناك لا حل، لا مخرج سوى الحوار، وهنا لا حل سوى المفاوضات. مجمع أصدقاء سورية مقابل مجمع الدول المانحة، والتعريف المزدوج في كل حالة، للمجموعات المسلحة هناك والفصائل هنا. فهل حلنا، مصيرنا، رقبتنا يوم قيامتنا مرهون الآن بانتظار توافق أميركا وروسيا على حل الأزمة السورية، وحيث ياللمفارقة، يحدث أن نعود إلى نظرية وحدة المسارات، المسار السوري والفلسطيني من دون إرادتنا. هل الأمر يتعلق بنتائج هذا الكباش العالمي حول سورية لكيما يتم الاتفاق على خارطة الطريق خاصية التسوية في الأزمة الفلسطينية؟. لكن هل هو كباش سياسي قابل للتسوية هناك؟ حتى تنتقل إلى هنا عدواه، أغلب الظن كلا. ولذا في الانتظار ليس لنا يا حماس غزة سوى مغادرة هذا التلكؤ وإتمام التسوية الداخلية بإنهاء الانقسام، فهل استعصاء أزمة المحروقات والكهرباء يدلنا عن أن الحل ليس بتوجيه المسيرات إلى معبر رفح، لأن مصر تعاني الأزمة ذاتها وإنما باستعادة الوحدة الوطنية وإقامة الحكومة الواحدة.