بثقة القابض على زمام المبادرة إلى شن الحروب في المنطقة، والواثق من دعمِ الحلفاء وتغطيتهم، ( لا سيما دعم الولايات المتحدة وتغطيتها)، بادرت حكومة نتنياهو، ودون سابق إنذار، إلى تصعيد العدوان ضد غزة بشن عملية عسكرية موضعية محدودة ومدروسة، (مع استعداد لاحتمالات توسُّع نطاقها السياسي والميداني)، بدأتها باغتيال أمين عام "لجان المقاومة الشعبية"، القيسي، وقيادي آخر فيها، بذريعة تخطيطهما للقيام بعملية عسكرية على الحدود المصرية انطلاقاً من سيناء. لكن، وبما يُكذِّب هذه الذريعة، ويكشف عن ما يختفي خلفها من أغراض سياسية، أثنت آلة الحرب الإسرائيلية على اغتيال عشرة من كوادر حركة الجهاد الإسلامي، بل، وواصلت عمليات الاغتيال، لتكون النتيجة موجة جديدة من التقتيل، طال حياة العشرات من المدنيين بين شهيد وجريح، فضلاً عن تدمير عشرات المباني السكنية والعامة والحقول الزراعية.هنا يثور السؤال: هل كانت حكومة نتنياهو، رغم فائض عدوانيتها وتطرفها وثقتها بدعم الحلفاء وتغطيتهم، لتتجرأ على هذا التصعيد لولا: 1: اطمئنانها إلى أن تصعيدها لن يواجهَ بهبة فلسطينية سياسية وميدانية موحَّدة، لا على مستوى الوطن والشتات، ولا على مستوى كامل الأراضي المحتلة العام 1967، بل، ولا حتى على مستوى قطاع غزة أيضاً، ذلك لأن هذه الحكومة لم تواجه شيئاً من هذا القبيل، على الرغم من تماديها في ممارسة حرب التقتيل والتهويد والاستيطان في الضفة، وفي القدس بخاصة، فضلاً عن تصعيد سياسة الاعتقال والتنكيل بالأسرى في السجون. يحيل هذا الاطمئنان إلى يقين القيادة الإسرائيلية بأن تصعيدها لن يفضي إلى انفراط شروط "التهدئة" مع "حماس"، التي حولت هذه "التهدئة" من تكتيك سياسي مؤقت مشروع لحركات التحرر الوطني ممارسته أحياناً، إلى إستراتيجية سياسية دائمة، تلتزم بشروطها من طرف واحد، بل، وتُلْزِمُ بقية القوى بمستوىً معين من الرد الدفاعي على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة المتصاعدة والمتمادية، مقابل، وبسبب، تشبثها بـ"حصتها" من "السلطة" الفلسطينية الوهمية. 2: واطمئنانها إلى أن تصعيدها لن يواجهَ ردَّ فعلٍ سياسيا عربيا رسميا يتجاوز مألوف مبادرة مصر للتوسط وإعادة تثبيت "التهدئة" من طرف واحد، بل، واطمئنانها إلى أنه لن يواجهَ حركة شعبية عربية، ليقينها أن حركة الإخوان المسلمين القادمة إلى السلطة في أكثر قُطر عربي، وفي مصر بخاصة، ليس في وارد المبادرة إلى استنهاض حركة شعبية عربية كهذه. واستطراداً، لقد كان غريباً، بل، لافتاً، فيما انطوى عليه من مفارقة، أن يقتصر ردُّ حركة الإخوان المسلمين في مصر على التنديد بالتصعيد على غزة، ومطالبة المجلس العسكري بوصفه رئيساً مؤقتاً لمصر بطرد السفير الإسرائيلي في القاهرة، واستدعاء نظيره المصري في تل أبيب، وهو ما كان يقوم به أحياناً حتى "الذخر الإستراتيجي لإسرائيل"، الرئيس المصري المخلوع، مبارك، بينما كانت حركة "الإخوان" المصرية قد هددت بالنزول إلى الشارع، وإشعال لهيب تحرك شعبي عربي وإسلامي عارم وواسع، ضد دولة الإمارات العربية بسبب رفضها لفتاوى القرضاوي السياسية المُصمَّمة، شكلاً ومضموناً، على مقاس سياسة دولة قَطر الداعية مع السعودية إلى تسليح طرفٍ من المعارضة السورية، وإلى تدخل حلف الناتو لمصلحة هذا الطرف، رغم ثبوت تواطؤ هكذا سياسة وكارثية نتائجها، لا في العراق فقط، بل، أيضاً في ليبيا، التي أوصلها تواطؤ سياسة دول الخليج العربي عموماً، ودولة قَطر تحديدا، إلى ما وصلت إليه، حيث صار بادياً للعيان خطر إعادة تقسيمها إلى ثلاث ولايات، برقة شرقاً، وطرابلس غرباً، وفزان جنوباً، أي تماما كما كانت عليه الحال في الفترة بين العام 1943، (تاريخ انتهاء الاحتلال الإيطالي بهزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية)، والعام 1951، (تاريخ إعادة توحيدها تحت عرش ملكها السنوسي كسلطة مركزية واحدة).قد يروق لكثيرين، عرباً وفلسطينيين، وأولهم "حماس"، وحركة الإخوان المسلمين عموماً، تفسير، بل تبرير، تقاعسهم عن المشاركة الميدانية في التصدي الدفاعي ضد تصعيد العدوان الإسرائيلي على غزة، بذات المعزوفة السياسية إياها، أي تجنيب غزة ويلات توسُّع نطاق هذا التصعيد إلى عملية عسكرية واسعة وشاملة على غرار ما وقع لها، وعليها، من عدوان في نهاية عام 2008. وهذا تبرير كان يمكن للمرء أن يأخذه على محمل الجد، بل، ويتبناه بالكامل، لو أن المبادرة إلى هذا التصعيد قد جاءت من طرفٍ فلسطيني، أو مجموعة أطراف فلسطينية، لكن الأمر يختلف تماما عندما يأتي هذا التصعيد دون سابق إنذار، وبمبادرة إسرائيلية تامة وكاملة، لا تنفصل عما تقوم به آلة الحرب الإسرائيلية من عمليات استباحة واعتداءات وتهويد واستيطان وتقتيل متواصلة متصاعدة ومتمادية ضد كامل الشعب الفلسطيني وأرضه، ومصادر رزقه، ومقدساته الإسلامية والمسيحية، بل، وضد أسرى حريته أيضاً، المؤكد عدم امتلاكهم لأي سلاح، سوى سلاح إرادتهم الحرة.أجل، إن المرء والحالة هذه لا يمكنه إلا أن يشير بأصبع الانتقاد إلى هذا التقاعس، الذي يشي بدوره إلى واقع الانقسام والتشرذم، وتقديم، وترجيح، حسابات مصالح الذات الفئوية، الحزبية والشخصية، الضيقة على حسابات الموضوع الوطني العليا والعامة، التي تقتضي، أول، وأكثر ما تقتضي التوحيد السياسي للصف الوطني الفلسطيني، الذي دون بلوغه يصعب، (كي لا نقول يستحيل)، توحيدَ الفعل الوطني الميداني ووسائله وأدواته، حتى في ظل تمادي حكومة نتنياهو واستباحاتها غير المسبوقة لكل ما هو فلسطيني، لمجرد أنه فلسطيني. وهي الحكومة التي تتمادى في استخدام التلويح بشن حربٍ ضد إيران تعجز في الواقع عن ترجمته عملياً، وسيلةً لتحقيق هدفين سياسيين إستراتيجيين مترابطين، الأول هدف مباشر، ويتمثل في الضغط على حلفائها، وعلى الولايات المتحدة بخاصة، ودفْعِهم أكثر فأكثر، ولو بالابتزاز، نحو تبني خيار الحسم العسكري مع إيران سياسة رسمية معتمدة، والتعجيل في تنفيذها ما أمكن. وهذا ما تتوق إلى حدوثه عدة أنظمة رسمية عربية، بقيادة سعودية وقَطَرية، ومفتيها القرضاوي، انطلاقاً من مصالح خلقت، وفي أقله ضخَّمت، عداء هذه الأنظمة لإيران، ما يساهم بالنتيجة، بل، وبالقصد من بعضها، إلى تعميق عجزها إزاء عدو العرب الحقيقي، إسرائيل، وإلى تهميش "قضيتهم الأولى"، قضية فلسطين، وهذا هو الهدف الإسرائيلي الثاني غير المباشر لجعْلِ الملف الإيراني الشغل الشاغل للمنطقة والعالم، مع كل ما يعنيه ذلك من تغطية على ما يرتكب بحق الشعب الفلسطيني من جرائم حربٍ متصاعدة متمادية، وآخرها ما وقع من تصعيد عسكري موضعي محسوب ومدروس ضد غزة. هنا، فقد أصابت حركة "الجهاد" وبقية الفصائل، حيث تصدت ميدانياً، بشكل محسوب، وكلٌ منها بما يمتلك من إمكانيات، للعدوان، وحاولت، بجهدٍ سياسي محسوب أيضاً، استثماره لتعديل شروط "التهدئة" الظالمة، بينما أخطأت حركة "حماس"، حيث تقاعست عن المشاركة الميدانية في التصدي المفروض للعدوان، ما فوت فرصة استنهاض حركة شعبية عربية، وفي مصر تحديداً، كان من شأن حدوثها، أن يفضي إلى قَلْبِ السحر على الساحر، أي إلى مكسب سياسي وطني فلسطيني، أقله إحراز تعديلٍ فعلي على شروط "التهدئة"، خاصة وأنه كان واضحاً أن حكومة نتنياهو قد أقدمت على هذا التصعيد بصورة محسوبة، تمنع ما أمكن تحويله إلى عملية عسكرية واسعة وشاملة.