اسلام اباد وكالات في بحثه عن الحقيقة حول أشهر ضيوف بلده، بدأ اللواء المتقاعد شوكت قدير من حيث انتهت الأمور.. الغرفة التي قتل فيها أسامة بن لادن. ففي أغسطس (آب) الماضي، بدأ قدير تتبع خطوات فريق الكوماندوز الأميركي الذي اقتحم مخبأ بن لادن في الثاني من مايو (أيار) الماضي. وأثناء صعوده الدرج متجها إلى الطابق الثاني، مر قدير برسم لجسد على الأرض يحدد الموضع الذي قتل فيه خالد، نجل بن لادن البالغ من العمر 22 عاما. ويقول إنه انتقل بعدها إلى غرفة صغيرة ذات سقف منخفض وبها خزانة فارغة وعدة ثقوب في أحد الجدران من آثار إطلاق النار، وفي السقف توجد بقعة باهتة من الدم أخبره مرافقه من المخابرات الباكستانية أنها لابن لادن. وقال قدير في حوار أجري معه: «كعسكري سابق، فوجئت بضعف مستوى الدفاع عن المنزل. لم تكن هناك إجراءات تأمين كافية، ولا توجد أي أجهزة حديثة، بل لا شيء أبدا مما يمكن أن تتوقعه في مثل هذه الحالات». لكن الامور تغيرت على ما يبدو في ربيع 2011 حين وصلت زوجة اخرى لبن لادن وهي ايضا سعودية وتدعى خيرية وكان تزوجها في ثمانينات القرن الماضي ولم يرها منذ نهاية 2001. فقد كانت لجأت إلى ايران حيث وضعت قيد الاقامة الجبرية حتى نهاية 2010 ثم امضت بحسب الجنرال قدير عدة اشهر في معسكر للقاعدة في افغانستان قبل الانتقال إلى ابوت اباد في آذار/ مارس 2011 قبل اقل من شهرين من الغارة الامريكية.ويقول الجنرال الباكستاني إن خيرية هذه هي التي خانت بن لادن. ويضيف "وهذا ايضا ما تعتقده آمال" وبلغته للمحققين.فعند وصولها إلى المنزل اقامت خيرية المعروفة بغيرتها المرضية في الطابق الاول. وقد أثارت على الفور الشكوك خصوصا لدى خالد. وقال الجنرال قدير نقلا عن آمال إن "خالد لم يتوقف عن سؤالها لماذا اتت؟ وماذا تريد من أسامة؟ واكتفت بالرد عليه بقولها (علي القيام بامر اخير لزوجي). وافضى خالد القلق لوالده بمخاوفه من الخيانة. لكن بن لادن المستسلم للقدر قال له (لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا)". بدأ التحقيق كمحاولة شخصية من قدير للتحقق من صحة الروايات المتضاربة حول سنوات بن لادن الأخيرة في باكستان، لكن عمله تعرض بالفعل للتحليل والنقد، وكان أبرز الانتقادات التي وجهت إليه هو أن اعتماده الشديد على المصادر العسكرية والاستخباراتية الباكستانية جعله عرضة للتلاعب من قبل المسؤولين. ولكن على الأقل، فإن النتيجة النهائية (وهي عبارة عن تقرير قصير لم ينشر رسميا بعد) تطرح الكثير من الاحتمالات حول الظروف التي عاش فيها بن لادن والشكوك التي وصلت بالعلاقات بين باكستان والولايات المتحدة إلى مفترق الطرق. فمثلا، يقول قدير إن خامس زوجات بن لادن وأصغرهن سنا، أمل أحمد السادة، أخبرت المحققين الباكستانيين بأن زوجها أجرى عملية زرع كلية سنة 2002، وهي معلومة إذا ثبتت صحتها، فقد تفيد في تفسير كيف تمكن مؤسس تنظيم القاعدة من البقاء على قيد الحياة بكلية مريضة كما هو معروف، لكنها تثير تساؤلات حول من كان يساعده. كما أنه سمع عن وجود حالة من عدم الثقة بين زوجات بن لادن، حيث أبلغته أن البيت الذي كان يعيش فيه بن لادن في أبوت آباد شهد توترات تفجرت بين الزوجة أمل، التي كانت توصف بأنها «الزوجة المفضلة»، وخيرية صابر، التي كانت أكبر منها سنا وكانت تسكن في طابق منفصل. وأثناء التحقيقات، اتهمت أمل ضرتها بالوشاية بزوجها لدى الاستخبارات الأميركية. كذلك، أخبرت أصغر زوجات بن لادن المحققين بأن زوجها حلق لحيته وتنكر في هيئة كهل مريض من البشتون أثناء تنقله بين المنازل الآمنة عبر شمال غربي باكستان، إلى أن أعاد إطالة لحيته في النهاية حين استقر في منزل أبوت آباد سنة 2005. ويعتبر العمل الذي قام به قدير إلى حد ما مدخلا جذابا في لعبة القط والفأر التي استمرت عقدا كاملا بين الجواسيس والضباط والصحافيين، والتي ظل الجميع خلالها يخمنون حول مكان وحالة أكثر هارب مطلوب في العالم. ورغم وفاة بن لادن، تظل هناك كثير من الأسئلة في منتهى الصعوبة: من ساعده على البقاء هاربا؟ وكيف تتبعته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية؟ ولعل السؤال الأهم هو: هل كان الجنرالات الباكستانيون على علم بأنه يعيش على مرمى حجر من أكبر أكاديمية عسكرية في بلادهم؟ تقول الحكومة الباكستانية إن الإجابات ستأتي على يد لجنة تحقيق رسمية، يرأسها واحد من قضاة المحكمة العليا، وهي تباشر القضية منذ مايو الماضي، لكن قليلين يعتقدون أن تلك اللجنة، المعروفة باسم «لجنة أبوت آباد»، ستنجح. وأحيانا كان يبدو أن الحكومة الباكستانية حريصة على تجاوز الأمر أكثر من البحث عن إجابات، حيث أرسلت السلطات المحلية في أبوت آباد ليلة 25 فبراير (شباط) الماضي جرافات إلى منزل بن لادن لهدمه تحت جنح الظلام، لتمحو بذلك رمزا مؤلما لملف مثير للحرج بالنسبة للجيش. وقد تكرر تأجيل نشر النتائج التي توصلت إليها اللجنة، التي كان من المقرر في الأصل أن تنشر في ديسمبر (كانون الأول)، ويشتم منتقدو الحكومة رائحة ضغوط سياسية تمارس للتخفيف من حدة تلك النتائج. وبعد أن اطلع مسؤول سابق بإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما على التقرير الذي أعده قدير، اتفق مع بعض ما جاء به من نتائج، مثل القول إن بن لادن ونائبه، أيمن الظواهري، وقعت بينهما خلافات كبيرة أدت إلى تهميش بن لادن. وقال المسؤول الأميركي، الذي طلب عدم ذكر اسمه: «زاد هذا الانقسام مع الوقت، وظل مصدرا للتوتر حتى يوم مقتل بن لادن، وقبلها كان دوره قد تقلص كثيرا». وقد حيرت المسؤول الأميركي الرواية المتعلقة بزوجات بن لادن، مشيرا إلى أن التقارير الاستخباراتية الأميركية السابقة كانت تقول إن أولى زوجات بن لادن، خيرية صابر، هي أقربهن إليه، ومنذ ذلك الحين قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية باستجواب السيدتين في باكستان، وتبين من الاستجوابات أن خيرية، كما قال المسؤول الأميركي، «كانت عنيدة وصعبة المراس ورفضت التعاون». وتعتبر العديد من الاستنتاجات التي توصل إليها قدير في تقريره مثار جدل كبير، ومنها مثلا الاعتقاد بأن رجال «القاعدة» وشوا بزعيمهم من أجل الفوز بالمكافأة التي أعلنتها أميركا. وقال المسؤول الأميركي: «كانوا يرغبون في رحيل بن لادن، وأرادوا الحصول على نصيب من مبلغ الـ25 مليون دولار». وقد وصف بيتر بيرغن، وهو محلل سياسي ومؤلف كتاب سيظهر في الأسواق قريبا عن سنوات بن لادن الأخيرة، تلك الفكرة بأنها فكرة «مثيرة للسخرية». ويعلق بيرغن على تقرير قدير بأنه «متخم بمؤامرات غريبة»، مضيفا أنه ينم عن ثقافة أوسع تقوم على نظرية المؤامرة في باكستان. وقال أيضا: «حينما كنت في أبوت آباد في يوليو (تموز) الماضي، أخبرني كثيرون أن بن لادن لم يكن يعيش هناك. ماذا تقول عن هذا؟ هذا بعيد تماما عن العقل والمنطق». من ناحيته، يسلم قدير بأن استنتاجاته تقوم على الحدس، ويعترف بأن من زودوه بالمعلومات في وكالة الاستخبارات الباكستانية ربما يكونون قد أخفوا عنه حقائق مهمة للغاية، مؤكدا: «سأكون ساذجا لو لم أدرك هذا. أنا لا أقول إن هذه هي الحقيقة الكاملة، لكنها أقرب ما يمكن أن تحصل عليه في هذه اللحظة». ويظل هناك سؤال واحد على وجه التحديد وثيق الصلة بحالة عدم الثقة المتبادلة بين باكستان والولايات المتحدة، وهذا السؤال هو: هل كان فشل وكالة الاستخبارات الباكستانية في تحديد موقع بن لادن الذي كان يعيش تحت سمعها وبصرها راجعا إلى عدم كفاءتها أم إلى تواطؤ منها في حمايته؟ وقال العديد من المسؤولين الأميركيين والغربيين في واشنطن وباكستان، طلبوا عدم ذكر اسمهم، إن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية فحصت ملايين الوثائق التي أخذت من أقراص الكومبيوتر التي عثر عليها في منزل بن لادن، لكنها لم تجد أي دليل على وجود دعم باكستاني رسمي له، وإن كان هذا في رأي بعض المحللين لا يثبت أي شيء. ويقول بروس ريدل، ضابط سابق بوكالة الاستخبارات الأميركية مستشار للرئيس أوباما: «لا يوجد أي دليل إثبات، ولكن كذلك لا يوجد أي دليل ينفي شبهة التواطؤ». وفي ظل دخول مصالح عسكرية وسياسية عليا في الأمر، يرى كثير من الباكستانيين أن الحقيقة ستظل مراوغة ومحيرة مثلما كان بن لادن يوما ما. ويقول قدير: «عليك أن تطرح الأسئلة الصحيحة كي تحصل على الإجابات الصحيحة. أنا أشك في أن هذا التقرير سيفسر أي شيء بصورة مرضية لأي أحد».