خبر : الاستثناء السوري..بقلم : حسين حجازي

السبت 03 مارس 2012 10:29 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الاستثناء السوري..بقلم : حسين حجازي



عشت لسنة واحدة في سورية، ولكنها سنة واحدة كانت كافية لكي افهم مبكراً في مستهل عملي الصحافي شاباً، كنه هذا الشيء الذي يمكن ان نسميه "المزاج السوري" . ان الانتقال من بيروت المترفة والباذخة بصرية الطبع، حتى وهي لم تخرج بعد من حربها الأهلية، الى الشام، دمشق، يبدو للوهلة الاولى كما لو انه انتقال بين عالمين من الغرب الى الشرق، من الحداثة المدينية الى التقليدية، هناك حيث فائض الاستهلاك، السلع، تحت تأثير ضخ المال، على أمراء الحروب، والطوائف والحارات وحتى الزواريب، وهنا حيث الاقتصاد الفطري المنزلي والتقشف، حين تصدمك الملاحظة، لأول مرة ان ميزان بائع البطاطا والخضرة، يتساوى مع ميزان الذهب حيث يجب الحرص على التوازن التام بين الكفتين دون طبشة الميزان الراجحة. وحين تتلقى أول ملاحظة، اغرب ملاحظة من نوعها، كوافد جديد الى البلاد من لدن صاحب البيت من ان ثمة خللا في ميزان مصروفاتك، بالنظر الى كمية المخرجات التي تصدر عنك، في سلة القمامة. لو شئت ان اقرب لكم الموضوع اكثر، لقلت ان المزاج السوري هنا، هو اقرب الى المزاج "المجدلاوي" أهل المجدل عندنا، انه مزاج اقتصادي تجاري واقعي، براغماتي بامتياز سواء في إدارة مونة البيت، ميزان المصروفات المنزلي، او التعاطي مع السياسة وفلسفة الحياة، وهذا هو بيت القصيد. انه مزاج مديني تقليدي قوامه أناس تمرسوا في السوق والتجارة، التجارة كانت تسري في دمائهم ولذا لم يكن غريبا الدعوة التي نادى بها اهل المجدل في حينه العام 1948 "يا ليتهم قسموا "انه كان من الأفضل لنا لو قبلنا بقرار التقسيم. ليس هذا مزاجاً متطرفاً، الكل او لا شيء، وان ما لا يدرك كله لا يترك جله. اي انه اقرب الى البراغماتية والنزعة الإصلاحية، العقلانية في السياسة، وليس النزعة الثورية الراديكالية. ليس مزاجا راديكاليا جذريا وانما محافظا توافقيا، بطيئا متثاقلا لا يميل الى تقبل الانعطافات الحادة او الانكسارات بطيئاً كما العلاج قطرة قطرة. لاحظوا كيف يتحدث وزير الخارجية وليد المعلم، ببطء تكاد الكلمات تنتزع انتزاعا منه كما لو انك تحتاج الى مفك لاخراجها . مزاج متوازن، توازن الابيض والاسود في السيراميك الدمشقي اليانع، العقل والقلب ومن اتحادهما، بامتزاجهما يتحدد مزاج الشجاعة، العاطفة والعقل، التي هي نقيض المغامرة والتهور، القفز في المجهول، واسم المدينة دمشق، يشي بطبعها، دَمشَق الشيءَ اي حسّنه ببطء. هذه هي سورية عبر التاريخ مصدر الصبوات، والتيارات الفكرية العظيمة، التي تشع على غيرها، ومن يملكها يملك مفتاح الشرق والعالم. الإغريق والرومان والإسلام الصليبين والعثمانيين، حيث بسقوط دمشق يسقط بيت المقدس، وهي لا زالت تشكل في معالمها بمثابة متحف التاريخ، مسار تحولاتها، فمزاجها كمزاج شعبها، دونما انكسارات، انقلابات حادة من اليمين الى اليسار، حين يتعايش الماضي مع الحاضر، البيوت الدمشقية، القديمة الفارهة، كما الحارات والبوابات الى جانب المعمار المعاصر الحديث . القدود الحلبية والتواشيح الى جانب الموسيقى الحديثة، حي المهاجرين الراقي بجوار الشيخ محيي الدين بن عربي، الصناعات الحرفية اليدوية، وسوق الحميدية الى جانب بوتيكات سوق الصالحية . ريف دمشق وحلب حماة النواعير القديمة الى جانب المدن. الأصالة الى جانب المعاصرة، والبلد الوحيد تقريبا في العالم الذي لا يزال يتدفأ في الشتاء القارس على مدافئ عمرها من عمر الثورة الفرنسية . وعلى تماس مع حضارات امم قومية كبرى ومتطلعة، تركيا وبلاد فارس، وساحل يطل على المتوسط اعتادت ان تتعرض منه للغزوات، فان الروح السورية، هي الوطنية وتقديس هذه الوطنية على حد سواء، لا يمكنها ان تمزح حينما يتعلق الأمر بالوطن، مصير الوطنية السورية، ولا يمكنها ان تغفر تواطؤ اي من ابنائها مع الأجنبي الخارجي، ولذا هي بعكس الممالك القديمة، التي يكفي الاتفاق مع احد النبلاء لاحتلالها، وان على العدو الخارجي ان يحتلها بالكامل ليسقطها. وهكذا لم يجد المستعمر الفرنسي اميرا واحدا يتواطأ معه، من بين آباء الاستقلال. وربما اليوم كان هذا هو مقتل المعارضة السورية الخارجية، حيث يقدس جميع السوريين على اختلافهم حكامهم، آباء استقلال سورية، لهذا السبب فارس الخوري، سعد الجابري، يوسف العظمة، إبراهيم هنانو، وصالح العلي، وسلطان باشا الأطرش دروز ومسيحيون وأكراد وعلويون وسنة . هل ضربت الثورة الأولى في حماة، أوائل الثمانينات والثانية في حمص، على هذا المفصل، الوتر الخفي، ولكن الحاسم، ولم يتم الانتباه له، وهكذا كانت المشكلة، في المرة الأولى كما الثانية هي في الوعي، الإدراك، غير التاريخي بل وغير المواتي المطابق للواقع، شرط الثورة الموضوعي والتاريخي في الاستثناء السوري. ولقد تحدث ابن خلدون عن اثر المناخ على امزجة الشعوب، والبلدان، لكن في سورية لم يتم الحديث عن اثر التنوع، والتضاريس الذي يشبه تنوعها الاثني والطائفي، 23 طائفة اثتية وعرقية، الذي طالما حدد مصيرها وتصورها عن ذاتها على حد سواء. بحيث يتوجب غالبا فهم هذا التصور، ارتباطا بالقرينة الأوسع لسورية، اي الفكرة القومية العربية الأشمل. الفكرة الجامعة التي تستطيع اختراق هذا التنوع وإعادة تأطيره، تشكيله في تصور أوسع عن الهوية. والحفاظ على الوحدة السورية، بالتوحد مع كيان أقوى منها، إما لمواجهة غزو خارجي، او انقلابات داخلية، يمكن أن تهدد وحدتها، تماسكها، كما الحفاظ على هويتها . هل نفهم الآن، محاولة شكري القوتلي، عقد الوحدة مع مصر عبد الناصر، في مواجهة اضطرابات عقد الخمسينات في لبنان والعراق والانقلابات الداخلية، ولوضع حد لمحاولات الـ "سي اي ايه" تدبير الانقلابات الداخلية انطلاقا من لبنان . وهل نفهم اليوم ولهذا السبب، الطابع التدرجي الفوقي، التصحيحي الذي اتخذ أسلوب، شكل الانقلاب الصامت الذي قاده الاسد الاب على الفريق البعثي اليساري المتطرف الذي كان يحكم سورية. وإعادة التاريخ نفسه بالانقلاب، الثورة من فوق قمة الهرم، التي يقوم بها الابن اليوم، باقصاء حزب البعث نفسه عن قيادة وحدانية الحكم في سورية، بعد الاستفتاء الاخير على دستور سورية الجديد. طوال تاريخها الحديث تقريبا، حافظت على هذا التقليد في مواصلة التحالف الاقليمي مع قوة اكبر منها، وان هذه التقاليد هي التي جعلت سورية في ظل حكم الاسد الأب تخوض الحرب الوحيدة ضد إسرائيل لتحرير الجولان فقط بالتحالف مع مصر، وبعد خروج مصر، ابتعاد مصر عنها، وجدت هذا البديل في ايران، ومحاولة السيطرة على لبنان، والصراع على امتلاك ما سمي آنذاك بالورقة الفلسطينية، مع عرفات على القرار الفلسطيني، لجعل المقاومة الفلسطينية كما اللبنانية لاحقاً، أدوات استراتيجيتها في مواصلة الضغط والاشتباك غير المباشر مع إسرائيل، دون الإقدام على مخاطرة الحرب بنفسها منفردة. ان ما لم يفهمه الكثير من المراقبين وحتى السياسيين الذين انخرطوا في اللعبة السورية، لعبة الامم الجديدة، كما الثوار السوريين انفسهم، انه ما كان ممكنا للثورة ان تنجح في سورية بذات الاسلوب، والطريقة التي حدثت فيها في مصر وتونس وليبيا، واليمن لأن نجاح الثورة هنا كان يعني تفكيك عقد وحدة سورية، وهدم تصور سورية عن نفسها، اي الفكرة الجامعة، المؤطرة لوحدتها وبقائها على حد سواء، دولة موحدة. هل هذا يعني ان المزاج السوري اقل ثورية، ويمكن ان يقبل البقاء الى مالا نهاية مع حكم الاستبداد، استبداد الحزب الواحد والعائلة، والجواب هو كلا. ولكن وعياً جمعياً لدى السوريين، وعياً مدينياً تاريخياً، ربما كان هو العامل غير المرئي، الذي أدي الى إجهاض هذه الثورة، او محاصرتها وعزلها، بأقل ما أسهمت به التكتيكات الحاذقة الذكية، التي اتبعها النظام الذي تفوق في إدارته للازمة بصورة ملحوظة، على غباء وتهور واندفاع، خصومه الدوليين والعرب الإقليميين مجتمعين. الى جانب قوة تحالفاته الدولية التي كونت له درعاً واقياً حين برزت الأزمة وحتى التغيير الثوري في سورية، ليس تهديدا لوحدة البلاد فقط وتفككها ولكن كنقطة اشتباك مصيري في التوازن العالمي، لا على مصير الشرق الاوسط ولكن آسيا نفسها، والعالم برمته. هنا عند هذه اللحظة تقرر مصير الثورة السورية التي انطلقت من الارياف بصورة سلمية بريئة وعذرية، تحت تأثير الموجة السيكولوجية الصدمة التي أطلقتها ثورتا تونس ومصر، ولكن ليحولها عن هذا المسار، تدخل خارجي إقليمي ودولي، كان بمثابة مقتلها. بعد ان راهن الغرب ودول الخليج، لجعل هذه الثورة المدخل للسيطرة على سورية وإسقاطها . وهنا مقدار ما كان التدخل الخارجي يبرز في المسألة السورية، كانت قاعدة النظام، الروح الوطنية السورية، تصطف خلف النظام، كما تعميق الاصطفاف الدولي المقابل، روسيا والصين وايران في مواجهة هذا التدخل . فهل كان لثورة أن تبدأ في الريف وتظل محصورة في الأرياف، دون ان تخترق، ان تصل الى المدن الكبرى، ان تنتصر. لاحظ هذه المرة، شاعر سورية العظيم ادونيس هذه المسألة، وهل كان للكلاشينكوف ان يتفوق على جيش عقائدي .. تساءل روبرت فيسك. وهل كان يمكن للإعلام ان يكون بديلا عن الواقع، طرحنا هذا السؤال قبل وقت هنا. لقد انتهى مصير الثورة المجهضة في بابا عمرو، يوم الخميس الماطر والعاصف، كمأساة وهم يواجهون مصيرهم امام زحف الدبابات، جيش النظام. اين الشعب السوري في المدن، أين النخبة السورية، أين المثقفون السوريون، صرخ نشطاء الثورة في بابا عمرو. ولكن دون صدى او رجع الصدى. فقد كانت هذه الثورة ضحية الأدوار الخارجية، لعبة الأمم، تحويلها الى لعبة امم، كما فكرتها المضللة والخاطئة عن الثورة الممكنة في بلد كسورية لا تحدث فيه الثورات من القاعدة ولكن من رأس الهرم، والمفارقة اليوم ان هذه الثورة كانت المحرض على التسريع بإحداث هذا التغيير، الثورة من فوق وهذه كانت مأثرتها وفضلها.