بعد الفيتو الروسي ـ الصيني المزدوج سيئ الصيت في مجلس الامن إزاء سورية ارتفع مباشرة معدل القتل اليومي وتضاعف من قبل النظام الاسدي الحاكم، ودخلت الدبابات والمدفعية إلى المعركة التي يخوضها النظام ضد شعبه من طرف واحد. وفر الروس والصينيون درع حماية دبلوماسية وسياسية لاستمرار الجريمة عن طريق تكبيل العالم برمته وشل حركته. وفي نفس الوقت تكفل العراق وايران بالدعم اللوجستي الميداني والاستخباراتي والمالي الذي يعزز من قدرة النظام على مواصلة حربه للبقاء على صدر الشعب السوري ولو على حساب عشرات ومئات القتلى يوميا. وبعد ذلك الفشل الاممي الفاضح في حماية الشعب السوري، قدم العالم هدية اخرى للنظام وضوءا أخضر جديداً تمثل في نتائج "مؤتمر اصدقاء سورية" الذي انعقد في تونس مؤخرا. وكما تفاقمت وحشية القتل الرسمي في اعقاب الضوء الاخضر الاول الذي منحته روسيا والصين للحكم في دمشق، تتفاقم الآن تلك الوحشية بعد المؤتمر الكارثي الذي لم يخرج سوى بمناشدات لوقف العنف "فورا". وربما جاز القول إنه لو لم ينعقد هذا المؤتمر لكان افضل للشعب السوري وثورته العظيمة والدموية. لو لم ينعقد لبقي في الافق ثمة غموض "تهديدي" ما قد يحسب النظام حسابا له ولو في الحدود الدنيا من الحسابات. لكن ما حدث في تونس كشف المدى الهائل الذي يمكن ان يصل إليه العجز الدولي والعربي امام مشهد جريمة يومية معلنة تمارس على مرآى ومسمع العالم يوميا ولحظيا ومن دون ادنى شعور بالتردد او الخشية من الحساب. بعد مشهد مؤتمر تونس المجلل بالعجز لنا ان نتوقع تضاعفا آخر في معدل القتل اليومي. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة بدا وكأن العالم يدخل مرحلة جديدة تضعف فيها الاسس العصبوية لمفهوم السيادة إن قام على انقاض الشعب وترافق مع بطشه وقمعه بل وحتى ابادته. في تسعينيات القرن الماضي ومع تفكك يوغسلافيا الديكتاتور جوزيف تيتو انطلقت كل الرغبات الصربية الشوفينية لبناء صربيا الكبرى ولو ادى ذلك إلى ابادة المسلمين في البوسنة والهرسك وكل البلقان. ثم تبع ذلك الحرب الصربية في كوسوفو وضد شعبها ولذات الاهداف. تلطى العالم يومها طويلا وهو يراقب وحشية الجيش الصربي في المجازر التي نفذها ضد البوسنيين ثم الكوسوفيين لاحقا. كانت "صربيا" تبرر ما تقوم به بكونها الوريث الطبيعي للدولة اليوغسلافية وبكونها تحافظ على وحدة و"سيادة" الوطن وتمنع انقسامه، وهي ممارسة "مقبولة" بحسب سياسات الحرب الباردة المتوحشة والمريرة. آنذاك تطور مفهوم التدخل الانساني الخارجي الذي يقوم على واجب العالم ممثلا في الامم المتحدة في التدخل لنصرة الشعوب التي تتعرض لبطش وقمع وابادة حتى لو كان ذلك التدخل ضد مفهوم السيادة كما هو معروف تقليديا. لكن ورغم تطور هذا المفهوم إلا ان آليات تطبيقه وتنفيذه بقيت قاصرة ولم تتطور بالشكل الكافي والمقنع. من ناحية اولى ظل "التدخل"، المنبثق اساسا من الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة الذي يشرع لمجلس الامن استخدام القوة في الحالات التي يتعرض لها امن وسلام العالم للخطر، مربوطا بموافقة الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس والتي لها حق الفيتو. معنى ذلك ان مفهوم "التدخل الانساني" بقي مرهونا في منظومة مصالح القوى الكبرى وحساباتها الاستراتيجية وتحالفاتها. وهذا، بطبيعة الحال ومن ناحية ثانية، يقود إلى سوء استخدام هذا المفهوم وتوظيفه لخدمة تلك المصالح، ومحاولة تطبيقه في حال، ومنعه في حالات بحسب المصالح وازدواجية السياسة. رغم الاختلالات الكثيرة كان وما زال مفهوم "التدخل الانساني" انتقالا مهما في السياسة الدولية يفتح آفاقا اكثر انسانوية في حقل السياسة البشع، ويدفع الى الامام حقوق الشعوب وحرياتها ولو خطوة على حساب الانظمة المستبدة. اتاح ذلك كله مساحات جديدة ايضا للتدخل من دون موافقة مجلس الامن وتجاوز معضلة الفيتو كما حدث في البلقان حين عارضت موسكو (دائما وايضا!) التدخل لوقف المجازر ضد البوسنيين والكوسوفيين. لو استمر عجز العالم يومها وتكلس الفعل الدولي وراء مجلس الامن لتمكن متطرفو الصرب وقواتهم العسكرية من ابادة كل من تبقى في تلك المناطق من غير الصرب. ماذا يفيدنا كل ذلك اليوم في ما خص الشأن السوري؟ يفيدنا في ضرورة اجتراح وسائل دولية واقليمية جديدة تتبنى مفهوم التدخل الانساني (العسكري) بآليات جديدة تتجاوز التكلس الذي يواجهه العالم بسبب عجز مجلس الامن وارتهانه للفيتو الروسي والصيني. الفيتو المذكور، اولا، تقوده الشوفينية الروسية المتطرفة التي يقودها فلاديمير بوتين المهووس بالقومية والامجاد الروسية ويريد اعادتها الى الخريطة بكل الاشكال وعلى حساب كل القضايا، وبوصلتها معارضة الغرب في كل مكان وفي كل وقت. بوتين القى خطابا منذ عدة ايام في تجمع انتخابي في روسيا توعد فيه العالم ب "روسيا المنتصرة" دوما، وقال لتجمع من المتطرفين القوميين الروس من مؤيديه ان "النصر والمجد يسريان في الجينات الروسية" وان الوقت قد حان لإظهار ذلك للعالم. وان احد ميادين اظهار ذلك حاليا وعولميا يتمثل الآن في سورية، ذلك ان المسألة ليست مصالح روسية في سورية بل صورة روسيا البوتينية في العالم كما يريدها رجل مهووس بالسلطة وجنون العظمة. إذن ما دخل السوريين الذين يعانون من القتل اليومي على يد النظام الاسدي في مطامح بوتين وجنونه السلطوي، ولماذا يدفعون ثمنا باهظا من اجل ذلك؟ هنا يصبح تطبيق "التدخل الانساني" مسألة لا بديل عنها لأنه الآلية الوحيدة التي تستطيع ان توقف الاجرام الحاصل يوميا ضد الشعب السوري. والجدل الذي صار فارغا من ناحية عملية ضد التدخل العسكري لا يقدم اي بديل يمكن ان يوقف الابادة الحالية. مر عام كامل على الثورة السورية التي بدأت واستمرت سلمية ودافعت عن سلميتها شهورا طويلة، في ما اصر النظام على عسكرتها ودفعها دفعا نحو استخدام السلاح كي يسوغ قمعه وبطشه. ليس هناك اسرار ولا عبقريات تحليلية في فهم واستيعاب ما يحدث. نظام حكم عائلي قائم على الزبائنية والفساد والبطش والقتل يعلن من دون مواربة انه مستعد لتدمير مدن سورية وشعبها من اجل البقاء في الحكم والسيطرة ومواصلة نهب مقدرات سورية واذلال الشعب السوري. من كان عنده بديل عن التدخل الخارجي فليطرحه على السوريين؟ رأينا تلك البدائل فاضحة ومكشوفة في مؤتمر اصدقاء سورية، وهم اصدقاء كثر، لكن فعلهم قارب الصفر في وقت ظلت فيه الدماء السورية العزيزة تسيل في كل يوم وكل لحظة. ـ كامبردج