تقديم أعقب "إعلان الدوحة" نقاشات مطولة انفردت وسائل الإعلام بمتابعتها وخلق هالة من الانفعالات حولها، كما ألقت بظلال من الشك توحي وكأن حركة حماس في ورطة كبيرة وهي على وشك التمزق والانشقاق..!! إن هذا "التسونامي" الإعلامي دفعني للدخول على خط ربما تجنب الولوج فيه أسلم، ولكنني تعودت أن أطأ بقلمي حقول الشوك من أجل الوصول للحقيقة أو التعريف بها. من هنا، جاء هذا المقال بهدف التوضيح ليس إلاّ. بداية ينبغي التنويه بأن حركة حماس هي واحدة من أكثر الحركات الإسلامية التي تتمتع بتحصينات فولاذية تحميها من ظواهر الانشقاق والتصدع، حيث إن المؤسسات الشورية للحركة - في الداخل والخارج - تشكل سياجاً واقياً يقطع الطريق أمام كل من يحاول ذلك، مهما بلغت مكانته التنظيمية أو الفكرية أو العسكرية. قراءة تاريخية: الخلاف ظاهرة عابرة في أواخر السبعينيات، حدث تململ لبعض الكوادر الإسلامية على خلفيات لها علاقة بالمواقف والتحولات التي وقعت في المنطقة، وخاصة عقب نجاح الثورة الإسلامية في إيران.. وقد جرى حول كيفية التعامل مع هذه المسألة الكثير من الحوارات والنقاشات الساخنة بين كوادر الحركة الطلابية – إخوان غزة - المتواجدة في الجامعات المصرية، وقد وقع – آنذاك - خلاف في الرأي وحدث شيءٌ من التحزب والاصطفاف. بعد عودة الكثير من الكوادر الشبابية إلى قطاع غزة، احتدم الخلاف بين الدكتور فتحي الشقاقي والشيخ أحمد ياسين، المرشد العام لحركة الإخوان المسلمين في قطاع غزة، وكانت الجامعة الإسلامية – في مطلع الثمانينيات – مسرحاً لمشاهد الصراع وتصفية الحسابات بالسلال والأقلام. كان خروج "مجموعة الشقاقي" من حركة الإخوان، والإعلان – رسمياً - عن تشكيل حركة الجهاد الإسلامي في بداية عام 1987، هي الحدث الأبرز داخل الإسلامية، إذا لم يسبق أن وقع مثل هذا الانشقاق من قبل. بعد ذلك، حدث أن غادر الحركة بعض الأفراد لاعتبارات مختلفة، وكان أكثرهم مكانة تنظيمية هو الأكاديمي د. خضر محجز الذي ترك في نهايات عام 1993، كما أن هناك من انخراط في مؤسسات السلطة - على غير رغبة الحركة - بعد منتصف التسعينيات مثل الأخ محمود أبو دان الذي أسس حزباً سياسياً، والمهندس عماد الفالوجي الذي عمل وزيراً للاتصالات، فتمَّ تجميد عضويتهم مع آخرين لمخالفة قرارات الحركة فيما يخص العمل بأجهزة السلطة. ظلت الحركة متماسكة برغم المحنة التي مرت بها عام 1996، ومظاهر الخلاف التي طغت على السطح بعد تأسيس حزب الخلاص بعامين، وعقوبات تجميد بعض كوادر الحركة القيادية في عام 1999، إلى أن تمّ تجاوز تلك "الفتنة"، حيث استعاد الإخوة مكانتهم داخل الحركة من جديد. في مطلع الألفية الثالثة، عاد الهدوء يخيم على الأوضاع التنظيمية داخل الحركة، ونجحت المجالس الشورية في الحفاظ على سرية التنظيم وتماسكه، كما تمكنت من إحكام قبضتها على آليات العمل داخله، الأمر الذي عزز من فرص تقدم الحركة في الانتخابات المحلية (2004 – 2005) والتشريعية في يناير 2006، بصورة فاجأت نتائجها كل المراقبين أو المتابعين للشأن الإسلامي في فلسطين. إعلان الدوحة: الرؤية والجدل أعقب "إعلان الدوحة" حراكاً سياسياً وإعلامياً واسعاً داخل الساحة الفلسطينية، كما فتح الباب لنقاشات مطولة بين كوادر الحركة الوطنية والإسلامية. المشاهد للتصريحات التي صدرت عن بعض قيادات حركة حماس في قطاع غزة يأخذه الاعتقاد بأن هناك بوادر انشقاق بدأت تدب داخل أوصال البيت الحمساوي، وأن هناك ما يوحي بوجود "شركاء متشاكسون"، وهذا مؤشر يستدعي مشاعر الخوف والقلق، حيث أظهرت بعض القيادات أنها لا تتفق مع اجتهاد الأخ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة، وأن المسألة تحتاج إلى مراجعة هذا الإعلان أو حتى الرجوع عنه، لأن هناك تجاوزاً صريحاً لنص قانوني يوجب الفصل بين السلطات، فيما اعتبر البعض الآخر أن المسألة برمتها كانت تستدعي – فقط - المزيد من تبادل الرأي والمشورة بين قيادات الحركة في الداخل والخارج، حيث إن تسلم الرئيس (أبو مازن) لرئاسة الحكومة لم يكن - في السابق - خياراً مطروحاً في مداولات الحركة . لا شك أن ما ورد – إعلامياً - على ألسنة البعض في حماس أعطى انطباعاً بأن حجم المعارضة للقرار أكبر بكثير من الأصوات التي باركت التوجه واعتبرته مخرجاً وخطوة حكيمة تنم عن رشد القيادة وسداد موقفها. في الحقيقة، إن هناك أوساطاً كثيرة داخل الحركة – في الضفة الغربية وقطاع غزة -سرعان ما تفهمت الموقف - بعدما اتضحت لها التفاصيل - وهي تعمل على تهدئة الخواطر، وتسعى لإيجاد مخارج لما تمَّ النظر إليه كمخالفة قانونية للدستور أو تجاوزٍ لأعراف الحركة عند اتخاذ قرارٍ بهذا الحجم والحساسية. لا شك، أن جماهير حركة حماس والكثير من قياداتها قد فاجأها "إعلان الدوحة" بالاتفاق على الرئيس (أبو مازن) لرئاسة الحكومة، لذا كانت هذه الضجة والتصريحات التي حملت نبرتها الحادة وجود "نكهة خلاف" داخل صفوف الحركة وخاصة في قطاع غزة. إن أصل الحكاية ومنشأ الخلاف حول اختيار الرئيس (أبو مازن) هي أن الرجل كان - في مراحل سابقة - بالنسبة لحماس داخل دائرة المناكفة والاتهام في تحركاته وعلاقاته.. اليوم، وبعد الشروع في إجراءات المصالحة، المطلوب من الساحة الإسلامية - غير المهيأة أصلاً لمثل هذا التوجه - أن تحرف مسارها 180 درجة والتعاطي معه، باعتباره خيارها الأول والأخير..!! صحيح أن حالة الطهورية التي عليها كوادر الحركة الإسلامية لا تُمكنها من التكيف بسهولة مع المنطق السائد في العلاقات الدولية، والقائل: إنه "في السياسة، ليس هناك علاقات دائمة بل هناك مصالح دائمة".. وإذا كان هذا هو الحال بين الدول، فكيف بأبناء الوطن الواحد الذين تجمعهم المصلحة الوطنية الواحدة، والخوف على ضياع الأرض والمقدسات هي دافعهم للتوحد ورص الصفوف وطي صفحة الخلاف والتنازع. اليوم، الرئيس (أبو مازن) هو شريك لنا بكل معنى الكلمة، ونحن نخطط معه ونبني معاً مستقبل الشعب والقضية، فلما الخلاف عليه – إذن - في المرحلة الانتقالية.؟ لقد حاولنا خلال الشهور التي أعقبت توقيع حماس على "وثيقة إنهاء الانقسام المصرية" في مايو الماضي الاتفاق على شخصية رئيس الوزراء ولم نوفق، وصرنا نصبح ونمسي نراوح في نفس المكان، والشارع الفلسطيني كله بانتظار أن يشهد حراكاً على الأرض يمنحه الأمل بأن المصالحة قادمة، وأن الحكومة التي سترعى إعادة الإعمار على الأبواب..!! هذه الجهود الفلسطينية والعربية والإسلامية تتعثر بأشكال مختلفة أمام ما تضعه كل من فتح وحماس من عتلات في دولاب المصالحة.. وهنا، فإما أن يتقدم القائد باتخاذ القرار الحكيم – كما فعل الأخ خالد مشعل - وإما أن نظل كسراب بقيعة ننتظر النبت من الهشيم. التفكير خارج الصندوق في الواقع، إن النقاش ذو النبرة العالية الذي فاجأ الجميع هو في حقيقته ظاهرة صحية، وهو يعكس قوة ومتانة الحركة، وليس تعبيراً عن حالة ضعف أو بوادر انشقاق فيها، ولكن هذا أيضاً كونه ظاهرة صحية يستلزم أن تكون انتخابات الحركة الداخلية مفتوحة للنقاشات، وتتحمل طرح الأفكار والرؤى الجديدة، والتي قد تظهر – أحياناً - أنها خارج دائرة المألوف. وفي سياق المراجعات التي ينادي بها البعض داخل الحركة الإسلامية، قرأت - خلال الأسبوع الماضي - أكثر من ثلاثة كتب حول هذا الموضوع، حيث قام البعض بإجراء حوارات موسعة مع قيادات إسلامية في مصر والسودان والمغرب لإيجاد إجابات لأسئلة العصر وما يتطلبه الحال من اجتهادات على طريق التغيير والإصلاح، بهدف التكيف مع الظروف والمتغيرات الإقليمية والدولية، فالإسلاميون اليوم هم أحد المكونات الأساسية في الحياة السياسية، والعمل الحزبي غير العمل الدعوي والتربوي، وهذا يستدعي أدوات وبرامج وآليات وروح تصالحية غير التي سادت في مراحل تاريخية سابقة. إن حركة حماس بجذورها الإخوانية هي مشروع أمة تتجاوز تطلعاتها إنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية، فهي ضمن إطار منظومة إسلامية عالمية تتطلع إلى أن تأخذ أمتنا مكانتها بين الأمم، وما وقائع التغيير التي أحدثها فجر الشرق الجديد وربيع ثوراته إلا إرهاصات الظهور والتمكين الذي نرنو بشغف إليه، باعتبارنا أمة الشهادة التي تحمل رسالة الرحمة للعالمين. في هذا السياق، فإن ما قام به الأخ خالد مشعل هو خطوة في الاتجاه الصحيح، وستشهد الأيام والأسابيع القادمة أن هذا الاجتهاد يستحق الأجر مرتين، فالرجل الذي استوعب درس التاريخ، ووعى حركة الزمن، ترسم ما قام به الرسول (ص) في صلح الحديبية، فكان هذا الموقف والقرار الحكيم، ولعلي به يقول: "ما أصنع ذلك إلا لأنَّني رأيت العجم قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمرٍ ما". إن هذا الحراك الداخلي مع جمالية الجدل الذي صاحبه يدعو حماس للقيام بمراجعات تجنبها مستقبلاً الوقوع في عثرات الخلاف بسبب الاجتهادات السياسية التي لا ولن تنتهي. ختاماً: المهم الدرس لا شك أن الجرأة التي أظهرها البعض في الاعتراض، وهي حالة غير مألوفة أو معتادة داخل حركة حماس، توجب على الجميع في ساحاتنا الحركية إعادة النظر في آلية اتخاذ القرار وكذلك في طريقة اختيار الأشخاص، فنحن أيضاً لنا أراء حول كل ما يجري حولنا، ويشعر البعض – أحياناً - أنهم مُسيّرين وآخر من يعلم. إن من المفترض أن يتم إجراء الانتخابات داخل الحركة بناءً على برامج ورؤى وأفكار وليس على مكانة الأشخاص ومواقعهم التاريخية، وهذا يفسح المجال - في نهاية كلّ دورة انتخابية – للمراجعة والمحاسبة على "الانجازات والإخفاقات" بناءً على ما تمّ الالتزام به من تعهدات وبرامج، وعليه يحظى الأشخاص الذين نجحوا فيما عاهدوا الله عليه بفرصة أخرى، أو تحرمهم الانتخابات - في حال إخفاقهم - الاستمرار لدورة ثانية. إن التطورات التي تشهدها الساحة العربية من حولنا، ودخول الإسلاميين بقوة معترك العمل السياسي والحراك الحزبي، تفرض علينا إجراءَ تعديلات على نظامنا الانتخابي، بحيث تأخذ الطاقات الشبابية دورها، ونحفظ تجدد دورتنا الحركية بإبداعات وتنافس شريف، وحصول الكفاءات وأصحاب الأهلية على فرصة الوصول إلى مواقع اتخاذ القرار عبر حوارات تنظيمية موسعة، تمنح الأخ – كما في الحملات الانتخابية - الوقت لكي يعرفه إخوانه ويناقشونه قبل أن يمنحونه أصواتهم. صحيحٌ أن حماس هي حركة فتيّة، وعصيّة على الاختراق ومظاهر الانشقاق، ولكنّ تراكم مساحات النقد وأحاديث المجالس هي حالة توجب المراجعة والقيام بأعمال التحديث والصيانة المطلوبة. وإذا كان المولى (عزَّ وجل) يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، فإن الحركات تحتاج كل عقد أو عقدين من الزمان إلى القيام ببعض المراجعات التي تحفظ التوازن والتناغم والانسجام داخلها. إن ما جرى من جدل داخل حماس هو - بشكل عام - ظاهرة ايجابية يجب ألا تُقلق أحد، فهي - في المحصلة - جرس إنذار للممسكين بدفةِ الأمور أنَّ الوقت قد حان لإجراء المراجعات وتطوير الآليات وفهم المتغيرات، والعمل على إعادة النظر في طريقة أداء الانتخابات واختيار الأشخاص، وخاصة بعد انتقال الحركة من طور السرية إلى العمل العام بفضاءاته الواسعة، ودخولها مع الآخرين من فصائل العمل الوطني والإسلامي في تفاهمات وتحالفات على قاعدة من الشراكة السياسية والتوافق الوطني. ولعلي أختم بالقول إن ما جرى كان: "فلتة ألا وأن الله وقى شرها".