ليس هناك من شك، و بغض النظر عن الرغبة الفلسطينية في انجاح اتفاق المصالحة الذي تم توقيعة مؤخرا في الدوحة، و قدرة كل فصيل، خاصة حركة حماس، في التغلب على العقبات و تجاوز الخلافات، فأن هناك لاعب اساسي اسمه اسرائيل قادر على التخريب اذا اراد ، سيما انه يتدخل في تفاصيل الحياة اليومية وقادر على التاثير في مجرياتها سواء كان في غزة او الضفة الغربية التي تخضع من الناحية العملية للاحتلال الكامل.ليس هناك من شك ايضا، ان اسرائيل هي من اكثر المستفيدين ، ان لم يكن المستفيد الوحيد من استمرار حالة الانقسام الفسطيني، حيث يعتبر هذا الوضع هو المثالي بالنسبة لحكومة اسرائيلية يمينية تبني استراتيجيتها على اساس انهاء فكرة اقامة دولة فلسطينية على حدود 67 يربط بين شطريها ممر آمن يؤمن تواصلها الجغرافي و الديموغرافي. يخدم هذه الحكومة في منطقها الاحتلالي الذي يردد ليل نهار ان لا ممثل واحد للفسطينيين لكي نتنازل له عن شيئ، و لا يوجد سيطرة للقيادة الفسطينية على كل الفسطينيين، و ان الدرس الذي لا ينسى هو ان اي انسحابات اخرى من الاراضي الفسطينية ستتحول الى مخازن للسلاح و ذراع لايران و مرتع للمتطرفين.تغيير هذا الوضع من خلال تشكيل حكومة فلسطينية و احدة و اعادة الوحدة السياسية و الادارية بين شطري الوطن و اجراء الانتخابات التشريعية و الرئاسية و اعادة فتح المؤسسات المغلقة، خاصة في الضفة الغربية، هو امر يتناقض تماما مع المصلحة الاسرائيلية التي تعبر عنها حكومة نتنياهو الحالية. استمرار الوضع الحالي للفسطينيين هو الوضع المثالي بالنسبة للاسرائيليين على المستويين المنظور و المتوسط.اذا كان الامر كذلك، ما الذي يجعل اسرائيل تُسهل تنفيذ الاتفاق؟ ام ان هناك اعتقاد ان الارادة الفلسطينية في انهاء الانقسام ستكون كافية في تجاوز العقبة الاسرائيلية في اجراء الانتخابات، خاصة في القدس؟ و ما الذي يستطيع الفلسطينيون فعلة اذا ما منعت اسرائيل اجراء الانتخابات في القدس و فرضت الكثير من العقبات امام سير الانتخابات في مناطق "سي" و اقدمت على اعتقال اعداد كبيرة من كوادر حماس في الضفة و خاصة اؤلائك الذين سيرشحون انفسهم و نصبت الحواجز العسكرية بحيث يعيق عمل لجان الانتخابات و لجان المراقبة و حركة المرشحين و الدعاية الانتخابية؟ ما الذي يمكن فعلة في هذه الحالة سوى الاعلان عن تأجيل هذه الانتخابات الى اجل غير مسمى؟لقد سمحت اسرائيل، لا بل سهلت في السابق، اجراء الانتخابات التي جرت في العام 1996، حيث كانت العملية السياسية في ذروتها و اجراء الانتخابات كان احد مركباتها الاساسية. و سمحت اسرائيل، و سهلت ايضا اجراء الانتخابات الرئاسية عام 2005 و فيما بعد الانتخابات التشريعية عام 2006، و التي شاركت بها حماس ، و تم اجرائها في القدس ايضا، و ذلك في ظل ضغط امريكي و دولي شديدين على اسرائيل.الظروف الحالية تختلف عن الحالتين السابقتين. العملية السياسية ماتت منذ زمن دون ان يمتلك احد الطرفين الجُرأة او المصلحة في الاعلان رسميا عن مفارقتها للحياة و لكن جرافات الاستيطان و اعتداءات المستوطنين تتكفل بذلك. و لا يوجد امل في ان تمارس الولايات المتحدة و المجتمع الدولي اي نوع من انواع الضغط على اسرائيل لتسهيل اجراء الانتخابات، خاصة في القدس، لاسباب كثيرة اهمها توقف المفاوضات و تعثر عملية السلام و انشغال العالم بقضايا و ملفات اكثر سخونة من الشأن الفلسطيني.اسرائيل التي تراقب عن كثب و بمناظير مختلفة ما يجري في الساحة الفلسطينية بشكل عام ، و لدى فتح و حماس بشكل خاص، و على الرغم من بعض التقديرات الاسرائيلية ان مصير اتفاق الدوحة لن يكون مصيرة بأحسن حال من مصير اتفاق مكة و اتفاقات القاهرة و غيرها من الاتفاقات التي ماتت دون الحاجة لتدخل اسرائيلي فعلي او مباشر، حيث هناك قناعة اسرائيلية ان حالة الانشطار و الانقسام في الساحة الفلسطينية اكبرمن ان تتغلب عليها رغبات و مصافحات و اتفاقات تصطدم بواقع متشابك و معقد و صراع بين تيارين مركزيين يسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان ان لم يكن خطين يسيران في اتجاهين متناقضين.على الرغم من ذلك ، فأن اسرائيل تأخذ بعين الحسبان دائما اسوء الاحتمالات، و الاحتمال الاسوء بالنسبة لها هو ان تنجح محاولة الدوحة و تستطيع حقا ان تضع الفلسطينيين على سكة انهاء الانقسام. في هذه الحالة، بالنسبة للاسرائيليين ما يهم هو استحقاقات هذا الاتفاق و مدى قدرتة على تغيير الوضع الحالي و على طبيعة العلاقة القائمة بين اسرائيل و الفلسطينيين، خاصة في الضفة الغربية.ما تخشاه اسرائيل اذا ما نجح الاتفاق هو:اولا: تغيير الوضع الامني القائم. ان ما يهم اسرائيل ، سواء نجح الاتفاق او لم ينجح، هو الحفاظ على الشيئ الذي يكاد يكون وحيداً مما تبقى من اتفاقات اوسلو، وهو الوضع الامني، خاصة في الضفة الغربية. الذي يحدد السلوك الاسرائيلي في التعاطى مع هذا الاتفاق، ليس التصريحات النارية التي يطلقها هذا المسؤول او ذاك بل ما قد يحدث من تغيرات على الارض في كل ما يتعلق بالعلاقة ما بين الاجهزة الامنية الفلسطينية و علاقتها سواء كان مع أسرائيل او في طريقة تعاملها مع اعضاء و كوادر حماس في الضفة الغربية.اي تغيير في الوضع القائم ، سواء نتيجة لتطبيق الاتفاق او كنتيجة لقرار فلسطيني نظرا لتعثر المفاوضات سيؤدي الى اجراء تغيير جذري في السياسة الاسرائيلية القائمة وسيكون حينها موضوع الانتخابات غير ذي صلة في ظل حالة الصدام التي قد تنشاء و التي ستخلق بيئة غير مناسبة لممارسة عملية ديمقراطية و المتمثلة في اجراء انتخابات تشريعية و رئاسية.ثانيا: استمرار تعثر المفاوضات او ايجاد صيغة للتحايل عليها. منذ زمن اكتشف الفلسطيني ان ما تريدة اسرائيل، خاصة في السنوات الاخيرة ، هو ان يكون هناك نوع من المفاوضات تصلح للاستهلاك المحلي و الدولي، ليس مهم اسمها او مكان حدوثها، المهم ان يكون هناك انطباع بأن هناك مفاضات تُجرى و ان المحاولات لحل الصراع مستمرة، و من غير المسموح به ان يكون هناك فراغ تفاوضي. تعثر او توقف المفاوضات بشكل كامل لا يساعد في ترجمة الاستراتيجية الاسرائيلية القائمة على تثبيت الحقائق الاستيطانية على الارض و المشاركة الامنية في الميدان لتخفيف اعباء الاحتلال و بغطاء تفاوضي يوحي بأن هناك جهود متواصلة لحل الصراع.الاصرار الفلسطيني على عدم الذهاب للمفاوضات الا وفق الاسس التي حددها الرئيس عباس و هي الوقف الكامل للاستيطان بما في ذلك القدس و حدود 67 و الافراج عن المعتقلين هو امر لم يقبله نتنياهو من قبل، و ليس من المتوقع ان يقبله في القريب الا اذا تعرض الى ضغوط خارجية لا احد يراهن على وجودها في الوقت الراهن. اسرائيل بطبيعة الحال لن توافق على تسهيل مهمة الرئيس عباس في تشكيل حكومة الوفاق و اجراء الانتخابات في الوقت الذي يُصعب عليها الرئيس عباس المهمة و يكشف اللثمام عن هذه الاكذوبة التي طال امدها.ثالثا: تغيرات محتملة في قواعد اللعب على جبهة غزة. اسرائيل لا تراقب فقط التطورات السياسية على الساحة الفسطينية، ما يهمها هو التغيرات و التطورات الامنية التي قد تحدث نتيجة الاتفاق سواء كان في حال الفشل او النجاح. تتابع عن كثب ما يجري من جدل علني فلسطيني داخلي حول الموقف من اتفاق الدوحة. ما تخشاه اسرائيل هو ان يؤدي ذلك الى حالة من التفكك في موقف حماس تجاه التهدئة غير المكتوبة بين الطرفين. التخوف ان تؤدي هذه الخلافات في المواقف الى ترحيل المعركة بأتجاة اسرائيل من خلال تخفيف القبضة الحديدية على المجموعات التي تسعى الى اختراق حالة التهدئة. ما يهم الطرف الاسرائيلي من ما يجري من تطورات سياسية هو مدى انعكاس هذة التطورات ميدانيا على الارض سواء كان في الضفة او القطاع. عمق هذا التغيير هو الذي سيحدد عمق التدخل الاسرائيلي في انجاح او افشال الاتفاق.رابعا و اخيرا: استمرار المعركة الدبلوماسية الفلسطينية في محاصرة اسرائيل دوليا. اسرائيل التي تعتبر الرئيس عباس و السلطة الفلسطينية تمارس "ارهابا" سياسيا و دبلوماسيا ضدها و تعمل على عزلها دوليا من خلال التوجه الى المؤسسات الدولية، خاصة مؤسسات الامم المتحدة، تتابع عن كثب ما اذا استمرت السلطة في تبني هذا الخط بعد ان تم تجميدة خلال المفاوضات، التي اصطلح على تسميتها هذه المرة " بالاستكشافية". السلوك الاسرائيلي تجاه اتفاق الدوحة سيحددة السلوك الفلسطيني ايضا تجاه مطاردة اسرائيل في الاروقة الدولية. بالنسبة لاسرائيل اتفاق مصالحة و اجراء انتخابات و تشكيل حكومات لا يستقيم مع حالة الصدام السياسي و الدبلوماسي و الميداني الذي قد يحكم العلاقة بين الطرفين في المرحلة المقبلة.خلاصة القول، ليس هناك مصلحة اسرائيلية في تسهيل مهمة الفسطينيين، و لديها القدرة على التخريب، و ليس هناك ما يكفي من ادوات محلية و اقليمية و دولية تستطيع ان تحد من هذا التدخل، و ان اتفاق مصالحة و تشكيل حكومة و اجراء انتخابات و تغيير جذري في العلاقات الامنية القائمة هو امر لا يستقيم مع اجواء الصدام المرتقب. المرحلة المقبلة تستوجب اتخاذ قرارت استراتيجية مؤلمة جدا، و لكن لا مفر منها اذا كان هناك ما يزال امل في انقاض المشروع الوطني الفلسطيني. szaida212@yahoo.com