الموقف المُلتبس الذي عبر عنه ادونيس إزاء الثورة السورية في رسالته الشهيرة إلى "السيد الرئيس" في شهر حزيران الماضي ونشرتها صحيفة السفير ازداد التباساً في مقابلة مطولة مع "الغارديان" البريطانية في 28 كانون الثاني الماضي. ابتداءً، من حق ادونيس اتخاذ الموقف الذي يراه، كما من حق الآخرين انتقاد ما يراه بكونه مثقفا عموميا وصاحب رأي، وهناك ما يمكن ان يتم الاتفاق معه، وهناك ما يثير النقاش الخلافي. في المقابلة المذكورة يقول ادونيس إن "المُبدع يجب ان يكون دائما مع ما هو ثوري، لكنه يجب أن لا يتحدث كالثوريين"، وهو قول يتسم بالغموض وعدم الوضوح. ويورد ادونيس هذه العبارة، الموقف، في سياق توصيفه للالتزام والانخراط السياسي الذي يسم غالبية المثقفين والمبدعين العرب، مؤكدا أنه "ليس مثلهم". ويستطرد في رده على منتقدي التباس موقفه من الثورة السورية بأنه لا يتكلم لغتهم، فهؤلاء "مثل معلمي المدارس يملون عليك ما يجب قوله، وتكرار نفس الكلمات". الصحفية التي اجرت المقابلة ذكرت أن أدونيس في رسالته التي جلبت الانتقاد الواسع له طالب الرئيس بشار الاسد بالتنحي، وهي اقترفت بذلك خطأً كبيرا، واضافت "مجدا" غير حقيقي إلى التعالي الذي طغى على اجابات الشاعر وتصريحاته. ففي الرسالة المذكورة كان ثمة تأسيس مكرور ومثير للأعصاب لمرجعية "السيد الرئيس" ليس فقط السياسية بل وايضا التغييرية حيث اناط به ادونيس نقل سوريا الى الديموقراطية، وهو، اي "السيد الرئيس" حين يفعل ذلك فإن اعداءه واصدقاءه سيقولون عنه إنه أسس "لمرحلة سياسية جديدة في تاريخ سوريا وربما في تاريخ المنطقة العربية كلها". وعلى خلاف ما قالته "الغارديان" فإن ادونيس يومها لم يطلب من رئيسه التنحي بل ختم رسالته بإرسال التمنيات الصادقة "لسوريا، ولشعبها، ولك، السيد الرئيس". هنا يختلف كثيرون مع ادونيس، ومن حقهم ان يفعلوا، ففي اللحظات الحاسمة ليس هناك موقف وسط بين الضحية والجلاد، والانحياز يصبح مسؤولية اخلاقية قبل ان يكون سياسة وفكرا. لكن الاهم من ذلك هو تكرار ادونيس لنظرته التشاؤمية حول الثورة السورية بسبب كونها انطلقت من "الجامع"، وهو انطلاق يؤكد اختلاط الدين بالسياسة في بلاد ومجتمعات العرب، وهذا ما يستحق النقاش والتوقف عنده. أدونيس محق في ترسيم الشرط الاول والتأسيسي لقيام ديموقراطية عربية حقيقية وهو "الخروج بالمجتمع، ثقافيا وسياسياً من "زمن السماء الجمعي والإلهي" الى "زمن الارض، الفردي والانساني"، او هو باللغة السياسية المدنية: الفصل الكامل بين ما هو ديني وما هو سياسي". لكنه لا يقول لنا كيف يمكن ان يتم ذلك، ويتغاضى عن الاقرار الصريح بأن مثل هذا الخروج لا يتم إلا عبر عملية تاريخية، طويلة ومعقدة وليست إرادوية. وان الثورات العربية، برغم اسلاموييها وسلفييها، تمثل البوابة العريضة لبداية تلك العملية. المقارنة بين مرحلتي ما قبل الثورات العربية وما بعدها في البلدان التي قامت فيها هي مقارنة بين الجمود والتكلس وعدم الحراك، والتغير والحراك والصراع الاجتماعي والسياسي الذي بدأ بدينامية هائلة. في المرحلة الاولى، الجمود والتكلس، خرج العرب من التاريخ فعلا وتوقف زمنهم. في المرحلة الثانية، بداية دخول التاريخ وتحرك الزمن. رؤيوية الشاعر تفترض موضعة هذه النقلة الكبيرة في سياق تاريخي عريض ينفك من أسر اللحظة التشاؤمية الراهنة حيث سيطرة الخطابات الاصولية وترعرعها الواسع. في اللحظة الراهنة يسيطر الدين الذي صار ملجأً للمظلومين والمقموعين خلال عقود الانهيار الماضية، وتندفع تعبيراته وتياراته وشعاراته الطوباوية. ومن هذه اللحظة بالضبط يبدأ الاختبار الطويل والعسير وتحرر الوعي الشعبي من الاسر الطويل للخطابات الدينية. لم تكن هذه اللحظة مُتاحة في ما سبق – ومنذ بدايات عهود الاستقلالات العربية. كانت تلك الخطابات تراكم رأس مال رمزي مثالي نتيجة فشل الخطابات والسياسات الاخرى، القومية والاشتراكية والليبرالية وغيرها. تزاوج ذلك الفشل المريع للنخب الحاكمة مع انظمتها الديكتاتورية القامعة بما وسع من الهوة بين "خطاب السماء الجمعي" و"خطابات الارض العملية"، وانحازت الجموع للأول بسبب ترسخه في الوجدان اولا، وبسبب عدم اختباره على الارض ثانيا وهو الاهم. لا يمكن تحييد الدين تدريجيا عن السياسة بقرار فوقي، بل عبر التجربة، والتاريخ، والممارسة، وتطوير وعي عريض يتنامى مع الزمن. مثل هذه العملية التدريجية توفر امرين، الاول هو انتشار وتعمق قناعة عند الرأي العام مبنية على التجربة تفيد بأن خلط الدين بالسياسة لا يؤدي إلا إلى تشويه الدين وتعطيل السياسة. والثاني يتمثل في اقتناع الناس بأن تحييد الدين عن السياسة لا يعني معاداة الدين والممارسات الدينية الفردية والجماعية التي لا يمكن استئصالها من المجتمعات. وهذه قناعات لا تحدث في وقت قصير، كما لا تتم بالتنظير الاستعلائي ولا التمنيات. وافضل آليات ترسخها تتطور عندما تخرج عبر انتفاضات الاصلاح الديني الذي يصبح امرا لا مناص عنه كما حدث في التاريخ الاوروبي. جوهر الاصلاح الديني يتمثل في محاولة طمأنة الافراد على دينهم من غول السياسة، والحفاظ على السياسة من تغول الدين. فالسياسة والدين متعارضان بالتعريف، ذلك ان الاولى قائمة على "المتحول" في ما الدين يقوم على "الثابت"، وهذا التعارض تتفاقم اوجهه في الحياة الحديثة وتعقيداتها. الثورات اللوثرية والكالفنية التي اعادت تشكيل المسيحية وعملت على تحييدها عن السياسة خرجت من رحم الدين نفسه عندما واجه تعقيد الحياة والسياسة. مستقبل الدين والسياسة في البلدان والثقافة العربية والاسلامية الذي انفتح بعد الثورات العربية على مصاريعه سوف يتجه نحو مسارات شبيهة، لأن معضلات الحياة والسياسة تتشابه إن لم تتطابق شرقا وغربا. *كامبردج