في خطابه السنوي عن حالة الاتحاد، بدا الرئيس الأميركي باراك أوباما، متحمساً جداً للدفاع عن إسرائيل وحمايتها بالقوة، وهو الدفاع الذي استزاد فيه غزلاً بالعلاقة مع إسرائيل، وفي نفس الوقت، تبيان موقف معادي ضد إيران بعدم السماح لها بالحصول على السلاح النووي. جزئية الخطاب الأوبامي التي ذهبت لصالح إسرائيل، تنسجم تماماً مع مخرجات ما يسمى باللقاءات الاستكشافية، التي انعقدت بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في عمان، والتي انتهت حسب الموقف الفلسطيني بعدم التقدم فيها خطوة واحدة. أوباما في خطابه قبل نحو أسبوعين، أكد على التزامه الحديدي بأمن إسرائيل، وأن هذه العلاقة تجسد أوثق تعاون عسكري في التاريخ. إذاً هذا خطاب يعيد إنتاج السياسة الأميركية القائمة على دعم إسرائيل والوقوف بجانبها، وهو خطاب لا يقتصر على إسماع الطرف الفلسطيني فحسب، وإنما باقي الجيران العرب الذين يجاورون إسرائيل، فضلاً عن إيران. الكارثة أن الطرف الفلسطيني يدرك تماماً موقف السياسة الأميركية من إسرائيل، ومع ذلك وافق هذا الطرف على الدخول في مفاوضات ثنائية، تم إطلاق مصطلح "اللقاءات الاستكشافية" عليها، على أن تتناول مدى إمكانية تحقيق نجاح ملموس في عملية التسوية، قد يحيلها إلى مستوى متطور من التفاوض. قيل قبل التفاوض هذا، إن الرئيس عباس أغلق الباب أمام المفاوضات، لأن إسرائيل لم تستجب لصوت السلطة وموقفها الثابت من ضرورة وقف الاستيطان، وذهب الفلسطينيون إلى الأمم المتحدة طلباً بدولة يتم الاعتراف بها هناك، فهل العودة إلى التفاوض يعني الفكاك تدريجياً من النضال الدبلوماسي الفلسطيني في المحافل الدولية؟ أولاً، لابد من الاعتراف أن هناك ضغوطات هائلة يفرضها الغرب على السلطة الفلسطينية، مرةً بالابتزاز السياسي ومرات بالابتزاز المادي، وربما كان الضغط الأكبر من الولايات المتحدة والرباعية الدولية، لتحويل مسار النضال الدبلوماسي الفلسطيني إلى مفاوضات ثنائية مع الطرف الإسرائيلي. ثم صحيح أن هذا الضغط يحرج السلطة كثيراً، لكن لم يكن ينبغي عليها أن تقبل مثل هذه المفاوضات، خصوصاً وأن إسرائيل معنية تماماً بإفشالها، وهو ما حدث صراحةً في آخر جولة لقاء في عمان، جرت الأربعاء قبل الماضي، واختتمت بإنهاء اللقاءات، وفقاً لمعيار الثلاثة أشهر التي حددتها الرباعية. الولايات المتحدة ترغب في إخراج الفلسطينيين من مربع النضال الدبلوماسي، وهي تدفع بقوة لإعادة إطلاق المفاوضات، لأن ذلك حتماً سينعكس على العلاقات الفلسطينية الداخلية، خصوصاً وأنهم منشغلون بإعادة توحيد أنفسهم ولم شملهم. والحقيقة أن المفاوضات التي جرت في عمان، تشبه إلى حد كبير، كل أنواع التفاوض التي سبقت الموقف الفلسطيني الرافض للعودة إلى هذا الخيار، ذلك أنه في الوقت الذي يتمسك فيه الفلسطينيون بدولتهم على حدود الرابع من حزيران 1967، تقول وتؤكد إسرائيل عكس ذلك، وتربط هذا القول بالفعل. فقط خلال هذا التفاوض القصير، شنت إسرائيل عدوانات سريعة وكثيرة على قطاع غزة، واعتقلت مواطنين وقيادات فلسطينية في المجلس التشريعي، وكثفت حملتها المتواصلة في بناء المستوطنات والوحدات السكنية، ولم تبدي موقفاً واضحاً وإيجابياً تجاه الدولة الفلسطينية. لقد ابتلت فلسطين بالمستوطنات قبل أوسلو، لكن أعدادها زادت وتضاعفت في حضرة المفاوضات، ثم إن التسوية نفسها غابت في مرحلة المفاوضات، وبقيت هذه الأخيرة واجهة شكلية للقاءات فشلت بعد استهلاك أكثر من ثمانية عشر عاماً على توقيع أوسلو. الإسرائيليون لم يعطوا جواباً على هذه اللقاءات التفاوضية، وقتلوها بالفعل، لأن تل أبيب تدرك أن السلطة الفلسطينية غير قادرة على فعل شيء، وأكثر من ذلك، ترغب إسرائيل الذهاب بممارساتها العنصرية حد إثارة النقمة الفصائلية الفلسطينية، وإعادة استدعاء مفهوم المقاومة المسلحة، من أجل نقل الصراع إلى ميدان مختلف تماماً، يعطي إسرائيل ذريعة ضرب المصالحة أولاً، وتنبيه المجتمع الدولي أن السلطة غير قادرة على تحمل أعباء دولة ناضجة سياسياً وسلامياً. هذا الموقف تدعمه الولايات المتحدة الأميركية، ويدعمه الصمت الأوروبي الذي ما ينفك يطالب بعودة المفاوضات، والمتاجرة بالكلام، مرة بتنديد إسرائيل لمواصلة الاستيطان، وأخرى بضرورة رفع الحصار، ونفسه الموقف الذي تبديه بعض الدول العربية، التي استشرست ضد أنظمة مجاورة تقاربها في السلوك، بينما لا يوجد انتقاد يؤدي إلى فعل فاعل ضد إسرائيل. إذا كانت السلطة الفلسطينية لا تعول على واشنطن في تعديل سياستها وتبني موقفاً متوازناً تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فإن هناك من يمكن تعديل موقفه، لكن لا ينبغي فلسطينياً وفي الوقت الحالي، المراهنة على المواقف العربية والأوروبية، وإنما المطلوب الآتي: أولاً، مطلوب من السلطة الفلسطينية أن توقف المفاوضات مهما بلغت درجات الضغط الأميركي والإسرائيلي، وثانياً، من المهم تفعيل أدوات المقاومة الشعبية تمهيداً لإطلاق حملة مقاومة جماهيرية سلمية تفضح إسرائيل في المحافل الدولية، وثالثاً، ينبغي توفير كافة الأجواء التي تدعو إلى مصالحة حقيقية وراسخة، وليس مصالحة فاسدة ومبنية على مصالح معينة. لقد تغزل أوباما بإسرائيل ووفر مظلة أمنية لحمايتها، لأنه يدرك بأن مصلحته ومصلحة سياساته عند اللوبي الصهيوني، الذي يستطيع فعلاً تعديل المزاج الانتخابي الرئاسي، والاتحاد الأوروبي تربطه مصالح بالولايات المتحدة وإسرائيل، هي أعمق من مصلحته مع السلطة الفلسطينية، ثم إن بعض العرب نائمون ولا يرغبون بالتأثير عبر أدواتهم، لتعديل ميزان القوى لصالح فلسطين في صراعها مع إسرائيل. كل الرهان أولاً وأخيراً يقع في الداخل، ذلك أن على الرئيس عباس أن يدرك تماماً بأن المصلحة العليا تقتضي فعلياً وضع حد حاسم للانقسام الفلسطيني، وتوجيه كل طاقات المفاوضات في قناة واحدة، هي قناة الحوار الداخلي، مع ضرورة أن يتمتع العقل الفصائلي بشكل عام، بمرونة وقدرة على التكيف مع متطلبات الحالة الراهنة. أخيراً، إن المراهنة على إسرائيل هي مراهنة على "حصان خاسر"، لأن الدولة الفلسطينية لن تقوم بالتفاوض، وتجربة سنواتها خير دليل على ذلك، لكن ومع ذلك، هناك رهان على الهيئات الدولية، وهو رهان يحتاج إلى "طولة بال" وصبر جيد، أقله أن يلتئم الشمل الفلسطيني. نعم، نحن بحاجة إلى استراتيجية لوقف المفاوضات مع إسرائيل، واستدعاء استراتيجية المقاومة الشعبية التي ترتعب منها إسرائيل والحال كذلك المجتمع الدولي، ثم الثبات والثبات والثبات على خط النضال الدبلوماسي في الهيئات الدولية، لتأكيد الحق الفلسطيني. هذا ما نحتاجه، وهذا ما تخافه إسرائيل.