ليست أجراس العودة التي ستقرع على بوابات القدس بعد أكثر من ستة عقود من الكفاح، وبعد هذا التاريخ الطويل والدامي من النضال وتأخير النصر ما زال الفلسطينيون يغرقون في مستنقع الخلاف والمنافسة التي لم تعد نظيفة بين الفصائل، بل سيقرعون الأربعاء القادم طناجرهم تعبيرا عن حالة ضجر لم تعد مقبولة من الواقع الذي أصبح عصيا على الفهم والاستمرار، هي صرخة كبيرة علها تعيد الرشد لمن فقد الطريق من سياسيين ضاعت بوصلتهم ويسيرون مركب الوطن على غير هدى . وكأن الجملة الشهيرة التي أطلقها الفيلسوف الفرنسي فولتير في إحدى رسائله " اللهم احمني من أصدقائي أما أعدائي فإني كفيل بهم " تنطبق تماماً على الحالة الفلسطينية التي دخلت في أزمة عميقة جدا لا من أعدائها بل من أصحابها وحماتها الذين تنازعوا فذهبت ريحهم ورياح وطن كان يجب أن تتحول إلى عاصفة واحدة تقتلع جذور محتليها، فكيف يستوي القول أن الانقسام مصلحة إسرائيلية ويستمر هذا الانقسام ؟ أليس من المحزن والمخجل أن نستمر بالمصلحة الإسرائيلية على جلودنا وبأيدينا ؟ فالإشارة التي أرسلها عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي الدكتور محمد الهندي قبل أيام عن تشاؤمه من تنفيذ اتفاق المصالحة تعكس قلقا كبيرا يستدعي الخوف . لا تٌترك فصائل الخلاف وحدها، فالتجربة قالت أنها لسنوات أعجز من أن تتمم مصالحة، وأعجز من أن تجد قواسم مشتركة، وهي في حالة من التربص الدائم للإمساك بكل هفوة من الآخر تساهم في تعزيز الانقسام، هذه التجربة وحدها ربما تشرعن السؤال حول جدارة هذه القوى بحمل المشروع الكبير ما دامت عاجزة عن التوحد أو توحيد الشعب خلفها، لهذا دائما يجب استدعاء كل عناصر الضغط عليها حتى لا تترك لأمزجتها ومصالحها مصير ومستقبل شعب يكاد يضيع بين أقدام فصائل تضخمت حتى أصبحت أكبر من الوطن . هي صرخة ألم يطلقها الشباب الذين هالهم ما وصل إليه الانحدار الوطني وأنهكهم الصراع الداخلي حد الاستنزاف، سيصرخون المرة بحناجر الطناجر تعبيرا عن رفض الواقع الممزق وتعبيرا عن عجز إمكانياتهم بإنهائه فقد حاولوا ذات مرة لكنهم اكتشفوا أن للانقسام أيادي وأقداما وأجهزة أمن وقوى ضاربة بعرض الحائط بطول الصراع الممتد منذ قرن، سينادون أملا بأن هناك حياة لمن ينادَي، أن ينضم نداؤهم بشكله الجديد إلى مئات النداءات التي كانت كلها أشبه بأصوات صارخة في البرية . منذ أيار العام الماضي اتفق على إنهاء الانقسام وللآن لم تتحرك الأمور بشكل جدي وهناك تشاؤم من قبل المراقبين وحتى أعضاء اللجان التي لم تنجز أياً من مهمات الحد الأدنى المكلفة بها ما يتطلب استدعاء الضغط الشعبي والمشاركة الشعبية للأخذ بيد الفصائل غير القادرة حتى اللحظة على الوصول إلى المحطة التي انتظر الجميع عندها للاحتفال بوحدة تأخر مولدها كثيراً لدرجة بدا كأنها بحاجة لمعجزة كي تتحقق، والوحدة يفترض في عرف الفصائل أحد ثوابت العمل، فمن لا يستطيع إيجاد قواسم مشتركة مع الكل بأي منطق يمكن أن يؤتمن على حكم الشعب وبأي عقل سيحكم .. سؤال كبير جدا . يأمل الشباب المشرفون على المبادرة بأن يشكلوا قوة ضغط على النظام السياسي ليعيد تصويب نفسه بعد الشرخ الذي أصابه خلال السنوات الماضية وأصاب معه مشروع التحرر بضربة مؤلمة، يهدفون من خلال مبادرتهم أيضا إسماع صوتهم للنظام الذي تجاهل رغبتهم طويلا، بعضهم وجزء كبير منهم كان دون السن التي تسمح لهم بالمشاركة في اختيار ممثليهم .. كبروا وأصبح ذلك من حقهم ليكتشفوا أن هناك من يغتصب هذا الحق بقوة السلاح وقوة العسكر وبحجة الانقسام الذي تتلكأ أطرافه حتى اللحظة في إنهائه دون إدراك لتغول مشروع الاستيطان، ودون إحساس بأهمية الزمن الذي عمل كالسيف الذي أوغل في الجسد الفلسطيني لسنوات كانت قاسية ومريرة . قبل حوالي أسبوعين احتج بعض الغاضبين من سياسة فياض التقشفية وزيادة الضرائب مستخدمين وسيلة القرع على الطناجر كشكل احتجاجي في وجه سياسة الحكومة، والآن يعممون الوسيلة للاحتجاج على ما هو أكبر من ضرائب، على ضريبة ينزفها الوطن كل يوم وكل صباح وكلما غابت الشمس خلف ذلك الجدار الطويل الذي ترسخه إسرائيل كحدود سياسة في ظل ملهاة الانقسام التي تشغل الفلسطينيين . شكلت وسيلة القرع على الطناجر الملحمة الأبرز في تاريخ الحرب العالمية الثانية والتي على ما يبدو أن الشباب القائمين على المبادرة استقوا تجربتهم منها، فمنذ ما يقارب من سبعة عقود كان النازي يحاصر مدينة ستالينغراد الروسية وفي ليلة ما بدأ أحد المواطنين بقرع طنجرة ومن بيت إلى بيت لتنهض المدينة كلها على صخب الطناجر ومن تحت الركام وتبدأ بالهجوم على القوات النازية لتشكل تلك نقطة التحول الكبرى وبداية دحر النازي، لقد كانت الطنجرة هي من أعاد الروح لمدينة مدمرة، يأمل الشباب الفلسطيني أن تعيد أيضا الروح للنظام السياسي الفلسطيني الذي فقد روحه الدستورية منذ أكثر من عام والكارثة أنه يرفض كل محاولات إعادته للحياة ويحكم بقوة العسكر غير آبه لا لرغبة الشعب ولا لحقوقه التي نصت عليها الدساتير التي تحتكم لها الحياة السياسية. الفلسطينيون بحاجة إلى إعادة صياغة منظومة العلاقات التي تحكمهم من جديد لأن من الواضح أن فهمهم لممارسة السياسة لم يكتمل بعد بحكم حداثة تجربتهم التي لا زالت تحبو وهم بحاجة لمن يساعدها بالوقوف على قدميها، ويجب ألا يتركوا وحدهم هكذا قالت تجربتهم القاصرة فمن السهل إيقاعهم بالكمائن التي يحفرها غيرهم، وسيثبت التاريخ يوما وبالوثائق حين يأتي زمن كشفها أن هذا الانقسام لم يكن بعيدا عن تخطيط تل أبيب، هناك حاجة لإشراف مصري على أدق التفاصيل فاللجان الفلسطينية وحدها لن تتمكن من العمل، ومصر الجديدة لها مصلحة كبيرة بإنهاء الانقسام لأنها لن تستطيع ابتلاع الطعم الإسرائيلي باحتضان غزة وأخذها ولن تستطيع أيضا استمرار إغلاقها في كلا الحالتين استمرار الانقسام هو ضربة للنظام الجديد بمصر، وهو على درجة من الوعي بقراءة الأهداف والمصالح الإسرائيلية وتتابع مراكز الأبحاث بالقاهرة كل التفاصيل وبالتأكيد سيضع ثقله لإنهاء الانقسام مهما بلغت الممانعة الفلسطينية للمستفيدين منه، ومهما بلغت أيضا قوة إسرائيل بترسيخه . !