لقد استفزني كثيراً ما جرى مع زميلي وصديقي محمود أبو رحمة من اعتداء آثم هدد حياته، واستفزني أكثر الصمت المطبق الذي لف موقف كثير من المتنطعين بالحرية والكرامة والمقاومة وبالدفاع عن القانون. استفزني صمتهم المريب، فهل يعقل أن لا يصدر بيان إدانة واستنكار لهذه الفعلة التي تشكل مساساً بهيبة ومكانة الحكومة وأجهزتها الأمنية وإعلامييها والناطقين باسم دوائرها المختلفة قبل أن يكون مساساً بحرية الرأي والتعبير وحق الإنسان في الأمان على شخصه؟ أيعقل أن لا يصدر بيان أو موقف عن كل القوى والأحزاب السياسية، بأطيافها ومشاربها السياسية والفكرية والعقائدية، المختلفة يستنكر الفعلة ويدينها؟ لماذا لم يصدر موقف عن كثيرين هذا أمر برسمهم ولكنه يثير علامات استفهام كثيرة. وددت في هذا المقال أن أشير بإيجاز شديد لدور أبو رحمه وجرأته، حيث يعتبر محمود أبو رحمه من الأشخاص المحوريين في مركز الميزان، وهو ممن لعبوا دوراً جوهرياً في مهنية المركز وقدرته على العطاء، وبسبب جرأة أبو رحمه وأمثاله نجح المركز في أن يواصل عمله في أحلك اللحظات وأسوأ الظروف. أبو رحمه جاب أوروبا والتقى برلمانيوها وممثلي حكوماتها مرات عدة، كما لعب دوراً مهماً في التواصل الدائم مع المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، شارحاً الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون في قطاع غزة تحت الاحتلال وحصاره الجائر وفاضحاً جرائم إسرائيل المنظمة وسياساتها العنصرية، وكذا فعل في لقاءاته مع لجان التحقيق ولجان تقصي الحقيقة ومع مقرري الأمم المتحدة الخاصين الذين زاروا القطاع. وهو أحد الفاعلين في الشبكات والائتلافات الدولية، بل لعب دوراً في تشكيل مجموعات تضامن منذ عام 2001 في أمريكا قبل غيرها وأحياناً في مجتمعات يغلب عليها الطابع اليهودي، وكان يتحمل عبء المتابعة ومساعدة هذه المجموعات في الرد على افتراءات اللوبي الصهيوني في أنحاء مختلفة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. أبوة رحمه بهذه المعني يتجاوز دوره كحقوقي إلى الإعلامي والسياسي والدبلوماسي إلى المفقود في خطابات الثلاثة والذي يضعف موقف الشعب الفلسطيني. وربما كان العدوان الإسرائيلي على غزة في نهاية 2008 بداية 2009 واحدة من أهم المحطات التي سجل فيها أبو رحمة تاريخاً من العطاء والتضحية والإقدام، فمن اللافت أن أبو رحمه وعدد من زملائه اتخذوا قراراً شخصياً بالعمل تحت القصف ومن لحظة العدوان الأولى وبحكم تخصصه وموقعه فقد كان أبو رحمه يغادر المركز في أوقات متأخرة من الليل في ظل استمرار الهجمات الإسرائيلية ووسط ظلمة حالكة وغياب المارة أو المركبات، كان أبو رحمه يترك زوجته وأولاده وهم أحوج ما يكونون إليه لحظة القصف ليدافع عن عدالة قضيته وعن أبناء شعبه. ومن اللافت أن أبو رحمة كان يذهب بعيداً في جرأته فعندما قصفت قوات الاحتلال مساء الاثنين الموافق 29/12/2008 ورشة سمور في شمال غزة وهي ورشة للحدادة كان صاحبها وأقرباءه يحاولون إفراغها من محتوياتها بعد قصف قريب ألحق أضرار بمبناها. وادعت قوات الاحتلال في حينه أنها قصفت سيارة تنقل صواريخ محلية، آثر أبو رحمة أن يرافق الباحث الميداني يامن المدهون لمعاينة الموقع وتصوير اسطوانات الأكسجين التي تستخدم في اللحام والتي تشبه في شكلها الصواريخ المحلية، غامر أبو رحمه في أجواء يسودها القصف وسماء تغطيها الطائرات من أجل فضح جرائم إسرائيل والدفاع عنها، فهل يمكن أن يتصور أحد أن هكذا شخص هو عدو لمقاومة شعبه؟ لقد تولى أبو رحمه وزملاءه الدفاع عن الشعب وفضح وتقويض خطاب قوات الاحتلال أثناء العدوان، ومن لا يذكر الأوضاع في تلك الفترة فمفيد له أن يتذكر أن السياسيين والحكوميين قد غابوا في تلك الفترة بسبب الظرف الأمني وكان يجب أن تخرج رسالة غزة وأن يفهم العالم، صحافته الأجنبية ومؤسساته المختلفة، حقيقة ما يجري بالوقائع والحقائق التي تدعم الصورة التي خرجت من غزة، أليس هذا شخص حري بالتكريم؟ ومن المهم التذكير بعمل أبو رحمه اللصيق والمباشر مع كل لجان التحقيق التي قدمت، سواء التي خصصت للتحقيق في استهداف مقرات الأونروا، أو لجنة التحقيق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التي عرفت باسم لجنة جولدستون، ونشاطه الدءوب في الشبكة الأورومتوسطية لإثارة قضية حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وانتهاكات قوات الاحتلال الجسيمة والمنظمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة فهل هذا هو جزاءه؟ هذا بالإضافة إلى تاريخ من العمل الذي اضطر خلاله أبو رحمة عشرات المرات للنوم في المركز من أجل الحرص على وصول الصورة والوقائع، كان يؤثر النوم في مكان غير مخصص للنوم بسبب الحواجز الإسرائيلية والخوف على عدم التمكن من إنجاز عمل ما، فيضحي براحته وأن يكون بين أطفال من أجل القيام بواجبه المهني والوطني والأخلاقي، فهل يمكن لعاقل في المجتمع أن يهاجم شخصاً كهذا ويهدد حياته بداعي المصلحة الوطنية؟ أعتقد أن شخصاً كهذا وإن لم أورد سوى القليل من سيرته في الميزان فقط، حرياً بأن يحظى بالحماية والاحترام من المجتمع وكافة قواه الحية وفي مقدمتها الأحزاب السياسية وحركات المقاومة التي ترفع لواء المقاومة لانتزاع الحقوق وتحرير الأرض والإنسان وتعزيز كرامة الإنسان، ولكن عندما يهدد أبو رحمة وتصبح حياته على المحك ولا نسمع بيان استنكار أو إدانة، فإن هذا لعمري مجتمع يأكل مناضليه ويعلي من شأن ومكانة الجهلة فيها وأن أخص بالجهلة من يعتقدون أن المقاومة هي بندقية فقط، ولا يدركون أن العمل السياسي والدبلوماسي والحقوقي كلها ضروب من أعمال المقاومة، وأن المقاومة التي تحرص على تقوية وتمكين نفسها يجب أن تحرص أول ما تحرص على الإنسان، حياته وحبه وحضنه لأن عامل القوة الحاسم لأي مقاومة في التاريخ هو احتضان شعبها، وعامل النجاح الحاسم لأي حزب أو حكومة هو في تطبيق القانون على الجميع وضمان احترامه، وضمان تعزيز الحريات، فشعب ينعم بمناخ حر لا يمكن أن يستعبده محتل أو مستعمر أما الشعب الذي يستعبد ويستمرؤ الاستعباد يصعب أن يواجه محتليه وأعداءه، فهل تستفيق الأحزاب التي تدعي التضحية والفداء وترفع لواء المقاومة؟ وهل يستفيق الحكوميون الذي يدعون أنهم يطبقون مبدأ سيادة القانون وينتصرون للقانون والعدالة والحرية كقيم بعيداً عن المصالح الضيقة ويخرجون علينا بموقف؟ أخشى ما أخشاه أن يواصل المجتمع أكل أو قتل مناضليه بإدعاء الوطنية والمقاومة والدين، وحينها يصبح المستقبل أكثر سواداً بالنسبة للشعب برمته فاحذروا.