لا يتوقع أحد أن تسفر المفاوضات أو المحادثات التي تجري في العاصمة الأردنية عمّان وتحت رعاية القيادة الأردنية، عن اختراق حقيقي في العملية السياسية، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يزال يحلم بالبقاء في السلطة إلى أقصى مدة ممكنة، وهو يعلم أن بقاءه على الأقل حتى انتهاء فترة ولاية البرلمان (الكنيست) الإسرائيلي مرتبط بدعم اليمين واليمين المتطرّف. وهو لن يجرؤ على إغضاب جمهور اليمين وخاصة قطاعات المستوطنين الذين يبدون شراسة غير معهودة ليس فقط في التنكيل بالمواطنين الفلسطينيين وأرضهم وممتلكاتهم، بل وكذلك، أيضاً، في العمل ضد الجيش الإسرائيلي. وأخيراً وصل التهديد حتى رأس نتنياهو نفسه الذي تلقى تهديداً بالقتل عبر شبكة الـ "فيس بوك". ولا يبدو أن الحكومة الإسرائيلية الحالية في وارد إدراك واستيعاب ما يحدث من تطورات في الإقليم، وخاصة الثورات الحاصلة في العالم العربي والتغيير المتسارع لتركيبة الأنظمة. وهذا ما اعترف به باحثون إسرائيليون وخاصة ما ورد في التقرير الاستراتيجي الذي صدر عن معهد أبحاث الأمن القومي في إسرائيل والذي يعيب على المستوى السياسي عدم إجراء بحث معمّق لتطورات "الربيع العربي" وانعكاساته على إسرائيل مرحلياً وعلى المدى البعيد. والتقرير المذكور الذي عكس صورة قاتمة لمستقبل إسرائيل في المنطقة، وقد تعرضنا له في مقال سابق من زاوية مختلفة، يقول: إنه يوجد خطر جدي لصبّ جام غضب الجماهير العربية على إسرائيل عند أول مواجهة مع الفلسطينيين وخاصة إذا ما حصل تصعيد في قطاع غزة. وهذا الاستنتاج الذي يستند كذلك إلى فقدان إسرائيل للشرعية الدولية في أي عدوان تقوم به بعد ضعف مكانة الولايات المتحدة في المنطقة والعالم وعزلة إسرائيل على المستوى الدولي، وإلى تآكل قوتها الردعية، على ما يظهر لا يعني صنّاع القرار في إسرائيل فالتحضيرات لحرب على قطاع غزة تجري بأوامر من رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال، بل إن هذا الأخير يتمادى في غطرسته إلى درجة تشبيه الوضع القائم الآن على الساحة العربية بما كان قائماً قبل حرب حزيران العام 1967، وأكثر من ذلك التهديد بإعادة سيناريو الحرب نفسها أي احتلال الأراضي العربية ربما في مصر والأردن وسورية ولبنان أو في بعضها على الأقل. تصريحات رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي والقرارات بالاستعداد للعدوان على قطاع غزة تشير إلى استنتاجات عكسية لما يفترض أن تفعله إسرائيل كي لا تتأثر سلباً أو تكون أكثر الأطراف تضرراً من انعكاسات "الربيع العربي". فبدلاً من أن تذهب إسرائيل نحو صنع سلام حقيقي مع الشعب الفلسطيني وتحظى بسلام وأمن وعلاقات جوار حسنة وتعاون مع جميع الدول العربية، على قاعدة ما تنص عليه المبادرة العربية للسلام التي لا تزال مطروحة على الطاولة في هذه المرحلة، نجدها تفكر فقط في إضاعة الوقت أو في الهروب إلى الأمام بعمل عسكري عدواني أو حرب جديدة واسعة النطاق ضد قطاع غزة وربما مناطق عربية أخرى، إذا استبعدنا خطر مهاجمة إيران بسبب الضغوط الأميركية. لا يدرك القادة الإسرائيليون حجم التغيير الذي تشهده البلدان العربية، وهم يبنون سياساتهم على ما يسمعونه من تطمينات من القادمين الجدد إلى السلطة ونقصد هنا الحركات الإسلامية وعلى رأسها حركة "الإخوان المسلمين". فالبعض في إسرائيل مطمئن إلى أن مصر تحت قيادة "الإخوان" لن تلغي اتفاقية "كامب ديفيد"، وهذا حال "الإخوان" الأردنيين والتونسيين وغيرهم. مع العلم أن وصول الحركات الإسلامية أو غيرها من الأحزاب الليبرالية أو القومية أو اليسارية للسلطة بعد انهيار الأنظمة الدكتاتورية سيقود إلى تغيير عميق في السياسات العربية تجاه إسرائيل. وبطبيعة الحال هذا التغيير لن يظهر في ليلة وضحاها، فالحكام الجدد يريدون الحصول على الشرعية الدولية لتوحيد سلطاتهم وأركان حكمهم، وبعد ذلك سيكون بوسعهم أن يعلنوا عن سياسات جديدة مختلفة تماماً عما عهدناه وعهدته إسرائيل في سياسات الأنظمة العربية التي تحكمها العلاقة مع الولايات المتحدة والتحالف أو الولاء لها. نحن أمام واقع مختلف، ليس فقط لأن الأحزاب الحاكمة الجديدة لها سياسة ومواقف مختلفة من الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي، بل الأهم من ذلك أنها خاضعة لمزاج الرأي العام والجماهير العربية وهذه الأخيرة تناصب إسرائيل العداء وترى أنه لا يمكن صنع السلام مع دولة الاحتلال. وبالتالي حتى لو أرادت الأنظمة الجديدة أن تبدو معتدلة وتقبل بالسياسة العربية المعتادة منذ العام 1967، باستثناءات قليلة، لن تمكنها الجماهير من أن تكون كذلك. الفرصة أمام إسرائيل أضيق بكثير مما يعتقد قادتها. صحيح أن إسرائيل متفوقة عسكرياً، وربما تستطيع احتلال دول عربية أخرى، وقد تتغلب على كل الجيوش العربية كما يقول رئيس أركان حربها، ولكن هل تستطيع إسرائيل فعل ذلك في ظل عالم اليوم؟ وما هو الثمن الذي ستدفعه مقابل ذلك؟ الإجابة هي بالقطع أن إسرائيل لا يمكنها فعل ذلك والقيام بعدوان واسع على الدول العربية، ولو فقد قادتها عقولهم وقاموا بمثل هذه الحرب المجنونة فلن يحصلوا على أي دعم دولي بما في ذلك دعم الولايات المتحدة الحليفة الأكبر لإسرائيل، وسيكون ثمن هذا العدوان باهظاً جداً سيحدث انقلاباً جذرياً في وضع إسرائيل ومكانتها وقوتها وقدرتها على الصمود.