فاجأت أحداث الربيع العربي في كلٍّ من تونس ومصر العالم الغربي، وتباينت ردّات الفعل تجاهها، حيث صدرت تصريحات تطالب بتفهم مطالب الشارع وحركة الجماهير ومنح المزيد من الحريات والتعاطي الديمقراطي، وأخرى تحذر من عواقب هذا التصعيد على الأمن والاستقرار في الكثير من بلدان الشرق الأوسط.. وبنظرة تاريخية، فإن الدوائر الأمنية والبحثية الغربية كانت تتخوف من الانفجار الذي يمكن أن يحدث بسبب مظاهر الاستبداد والقمع والاضطهاد السياسي وما استشرى من فقر وبطالة، وتهميش للحياة السياسية الذي تمارسه الدكتاتوريات والأنظمة الحاكمة في معظم الدول العربية... ولكن يبدو أن الدكتاتوريات العربية قد نجحت في أقناع الغرب بأن الإسلاميين (الإرهابيين) هم البديل القادم إذا ما استرخت قبضتهم الأمنية، وسمحت لهم بالعمل السياسي والمشاركة في الانتخابات.. وفي ظل حالة العداء تجاه التيارات الإسلامية والخوف من تعاظم وجودها أو حضورها السياسي، أذعن الغرب لرغبات الأنظمة المستبدة وغض الطرف عن كل مظاهر الاضطهاد والظلم والجرائم التي ترتكبها هذه الأنظمة بحق الإسلاميين، الأمر الذي عاظم من حالات الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام من أركان النظام العربي وسدنته.لقد كانت الأجهزة الأمنية في الغرب تدرك بأن الانفجار قادم، ولكن التوقيت هو "السر المكنون" الذي جاءهم من حيث لم يحتسبوا.كانت الثورة في تونس هي الشعلة الأولى التي اتقدت ثم تطايرت شرارتها على باقي ساحات الظلم والطغيان، فأنتجت هذا الحراك الواسع الذي غدا "تسونامي العام 2011"، حيث شهدنا تعاقب الليل والنهار بثورات جديدة وانتفاضات شعبية امتدت من اليمن وليبيا إلى البحرين وسوريا، والمؤشرات كثيرة إلى أن عام 2012 سيكون امتداداً لعام سبق وسيكون فيه الخير على منطقة الشرق الأوسط بأسرها، حيث ستكيف الكثير من الأنظمة من سياساتها لتتناغم مع مطالب شعوبها، كما أن ممالك الظلم ستتداعى، وستجد الديمقراطية والقسطاس المستقيم طريقهما إلى الخارطة السياسية الجديدة، والتي ستعكس ملامحها مكونات التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والشراكة السياسية التي تجمع بين الإسلاميين والليبراليين واليساريين في سيمفونية وطنية تبني ولا تهدم ويشعر معها الجميع بتحقيق الكسب والفوز المبين.الغرب: ترقب وحذرخلال الشهور الأربع الماضية شاركت في أربعة مؤتمرات، كانت عناوينها ومحاور النقاش فيها تدور حول التحولات التي تشهدها المنطقة وطبيعة المشهد الإسلامي الحركي الذي يتشكل فيها.. كان اللقاء الأول في تركيا/استانبول بتاريخ 6-7 أكتوبر 2011، برعاية رئاسة الوزراء التركية وجامعة جورج تاون الأمريكية، وشارك فيه حوالي ثلاث وستون شخصية من أمريكا وأوروبا وتركيا، إضافة إلى عدد من المختصين بالشأن الإسلامي وقيادات من مصر وتونس مثل: د. عبد المنعم أبو الفتوح، والأستاذ فهمي هويدي، ود. نادية مصطفى، ود. عماد شاهين، د. نبيل مصالحة، والشيخ راشد الغنوشي، والسيد فرجاني...الخ، وعدد من شباب الثورة يمثلون مختلف الأطياف الفكرية والحركية من إسلاميين وليبراليين.كان عنوان الملتقى هو "التحول من الديكتاتورية إلى الديمقراطية..". وقد تحدث وزير الخارجية التركي د. أحمد داود أوغلو في لقاء خاص شرح فيه منطلقات الثورات العربية والقاسم المشترك فيما بينها، وأنها تطور طبيعي أفرزته المظالم التي تمر بها شعوب المنطقة، وأن الذي يمكنه النجاة منها هو من يحاول تفهمها والوقوف في الجانب الصحيح من التاريخ، وأن الذي يعاند حركيّة هذه التحولات سيجد نفسه في الجانب الخطأ وسوف تطويه الأحداث.. وإذا كنا نُسلم بأن ما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين هو عملية تطور طبيعي للحراك الذي تمر فيه المنطقة، فلماذا إذا تمر التعريج على سوريا يقولون إنها مؤامرة.؟!! كان الملتقى الثاني في القاهرة بتاريخ 30-31 أكتوبر 2011، برعاية مؤسسة باغواش الدولية ومركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بالقاهرة، تحت عنوان: "التطور الديمقراطي والأمن الإقليمي في الشرق الأوسط"، وقد شارك في اللقاء شخصيات أوروبية وأمريكية وروسية ونخبة من المفكرين والإعلاميين والسياسيين ومرشحي الرئاسة المصرية عن القوى الإسلامية والليبرالية، أمثال: الشيخ صلاح أبو إسماعيل، ود. عصام العريان، ود. عبد المنعم أبو الفتوح، والسيد عمرو موسى..الخ. وقد تناول الملتقى كذلك أهم التطورات على الساحة الفلسطينية ومدى انعكاس ما يحدث في المنطقة على المصالحة الفلسطينية.اللقاء الثالث كان في أوسلو/النرويج بالتنسيق بين مجموعة (Nyon Process) والخارجية النرويجية بتاريخ 2- 4 نوفمبر 2011، وقد تناول الملتقى عدة قضايا وانشغالات مرتبطة بالتطورات التي تشهدها المنطقة العربية، ومدى التأثير الذي يشكله دخول الإسلاميين على خط العمل السياسي، باعتبارهم أهم القوى التي ستتصدر مشهد الحكم القادم، وطبيعة العلاقة التي ستسود مع الدول الغربية ومصالحها الحيوية بالمنطقة، وكذلك انعكاس هذا الحراك العربي ومخرجاته الإسلامية على مجمل رؤية الصراع مع إسرائيل..الخوقد شارك في النقاشات أكثر من 50 شخصية من أمريكا وأوروبا على مختلف مستوياتها السياسية والأكاديمية والأمنية، وكذلك قيادات إسلامية وليبرالية من مصر وتونس والعراق والأردن وفلسطين والمغرب.أما اللقاء الرابع فكان في الدوحة/قطر، والتي احتضنت الملتقى الرابع لتحالف الحضارات بتاريخ 11-13 ديسمبر 2011، حيث انعقدت الكثير من الجلسات وورش العمل على هامش المؤتمر لمراكز أبحاث عالمية، أهمها مؤسسة "بروكنز" الأمريكية، والتي كان للربيع العربي حظاً وافراً من نقاشاتها، وخلصت المجموعة إلى ضرورة أن تراجع أمريكا سياساتها تجاه المنطقة وخاصة تجاه حركات الإسلام السياسي، وأهمية الانفتاح على حركة حماس باعتبارها أحد المكونات الفاعلة في محيط الحراك العربي والإسلامي.هذه المؤتمرات واللقاءات التي كان لي شرف المشاركة فيها لم تكن هي وحدها المعنية بتطورات الحالة العربية وفجر الشرق الجديد، بل هناك الكثير من ورشات العمل التي عقدتها مراكز الدراسات الغربية مثل (Chatham House) في بريطانيا و(Carnegie Endowment) و(RAND Corporation) الأمريكية، ومجموعة الأزمات الدولية (ICG) السويسرية لمتابعة الظاهرة ومحاولة استشراف أبعادها، ناهيك عن الأبحاث والدراسات والتحليلات الإسرائيلية التي تعكس حالة الهلع والقلق والتوتر التي تنتاب المؤسسة السياسية والعسكرية في هذا الكيان.تفهم واحتواء.!!لقد طوى العام 2011 أشرعته، وشعرنا نحن من خلال متابعاتنا ومشاركتنا في العديد من هذه المؤتمرات والحوارات التي كانت تجمعنا مع شخصيات رسمية من أمريكا وأوروبا لها تأثير في صناعة القرار داخل الدوائر الغربية، بأن الجميع معني بالاستقرار في المنطقة، كما أن القناعة قائمة لدى الكثير من الأوروبيين بأن إيجاد حلٍّ للقضية الفلسطينية هو مفتاح الاستقرار والأمن والازدهار بالمنطقة، وأنه آن الأوان لتلزيم إسرائيل بانهاء احتلالها لأراضي الضفة الغربية، والعمل على قيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967.إن هناك من حالة من الفهم والتفهم في الغرب لكل ما يحدث في الشرق الأوسط، ولكن ما ينتاب الغرب من هواجس هو أن تخرج الأمور عن السيطرة فتصبح مصالحه الحيوية بالمنطقة في دائرة التهديد والخطر.وهذه توقعات دفعته للتحرك لاحتواء الثورات إما بالالتفاف حولها أو ضمان إمساكه ببعض خيوطها، حتى لا تذهب – حسب تقديراته - في الاتجاهات الخاطئة، بحيث يصعب التحكم في مساراتها المستقبلية، والتي هي - بلا شك – ستؤثر على وضعية حليفه الإسرائيلي، وعلى استقرار المنطقة برمتها.لا شك، بإن مخاوف الغرب مشروعة، وجهوده لاحتواء هذه الثورات أو تعديل اتجاهاتها بما يحفظ للغرب مصالحه مسألة لا تغيب عن وعي أحد.وختاماً يمكن إجمال القول بأن المطلوب من الغرب بشكل عام، وأمريكا على وجه الخصوص هو إحداث تحول جذري (Paradigm - Shift) في سياساتها تجاه المنطقة؛ فهي التي منحت الغطاء للاضطهاد والاستبداد السياسي للدكتاتوريات والأنظمة القمعية في بلادنا، كما أنها غضت الطرف عن الوجه الاستعماري للحركة الصهيونية والانتهاكات التي تمارسها إسرائيل الدولة المارقة (Rouge State) ضد الشعب الفلسطيني.إن الغرب مطلوب منه التصالح مع شعوب المنطقة إذا ما أراد الحفاظ على مصالحه الحيوية والإستراتيجية في الفضاء الواسع للشرق أوسطي، والقضية التي تتطلب منه سياسات جادة هي القضية الفلسطينية؛ بالعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وقيام الدولة الفلسطينية الحرة والمستقلة، وتسريع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم.إن مركز الثقل في الثورات العربية – بعد استقرارها - هو القضية الفلسطينية، فهي المحرك للحميّة الإسلامية والمشاعر القومية، وإذا ما أراد الغرب تحقيق احتواء ايجابي يحفظ مصالحه ومواقعه الإستراتيجية بالمنطقة فإن عليه واجب كبح جماح الأطماع الاستيطانية لحليفه الإسرائيلي في أراضي الضفة الغربية، والتسليم بما أجمع عليه المجتمع الدولي بحق الفلسطينيين في دولة لهم، حدها الأدنى - الذي وافق عليه الكل الوطني - هو الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 والقدس عاصمة لها، وإيجاد حلٍّ عادلٍ لقضية اللاجئين الفلسطينيين كما جاء في القرار الأممي (UN- 194) والخاص بحق العودة.