حققت الثورات العربية، الى الآن، العديد من الإنجازات. في تونس جرت انتخابات ديمقراطية ومارس الشعب حقه في اختيار قادته، ويجري حالياً العمل على صياغة دستور جديد لتونس ستتبعه انتخابات جديدة. التركيبة الائتلافية للحكومة التونسية تعطي الانطباع بأن الدستور الجديد سيضمن الحريات المدنية والسياسية لجميع التونسيين.. في مصر يجري التقدم بثبات على طريق تكريس سلطة الشعب على نظامه السياسي. أحداث ماسبيرو وشارع محمد علي والتحرير يجب ألا تحجب الصورة الأهم وهي نجاح المرحلتين الأولى والثانية من انتخابات مجلس الشعب والمضي بخطى واثقة نحو المرحلة الثالثة منها. الأهم من ذلك أن الحوار الجاري الآن في مصر، يتمحور حول ضرورة تقصير الفترة الانتقالية وليس تمديدها. فبعد أن كان المجلس العسكري يفكر بتسليم مهامه لسلطة مدنية في نهاية العام 2012، أعلن بأنه سيقوم بذلك في منتصف العام، والآن يجري الحديث عن شهر نيسان. المهم أن الاتجاه العام هو أن المجلس العسكري يريد الوفاء بالتزاماته بتسليم الحكم لجهة منتخبة من الشعب ولا يرغب بالاحتفاظ بالسلطة. قناعتي بأن التيار الإسلامي في حزب الحرية والعدالة، صاحب العدد الأكبر من المقاعد، الى الآن، في مجلس الشعب، سيسعى لتعزيز النموذج التونسي، وسيقوم بعقد تحالفات مع القوى الوطنية الليبرالية لصياغة دستور يكفل الحقوق السياسية والمدنية للمصريين ويكرس مبدأ الفصل بين السلطات، ويحدد صلاحيات رئيس الجمهورية ويفرض رقابه عليها، وسيجعل من تداول السلطة السلمي أمراً مفروغاً منه. التقدم للأمام باتجاه دولة المواطنة ما زال بطيئاً في اليمن وليبيا بحكم الطريقة التي جرى فيهما التغيير السياسي، لكن الاتجاه العام هو أن لا عودة للوراء. حتى الدول التي لم تتعرض لهزات داخلية عميقة مثل المغرب، الجزائر والأردن أعادت قياداتها مراجعة حساباتها وأعطت هامشاً أوسع من الحريات السياسية وأعلنت نيتها في محاربة الفساد، وفي تكريس حكم القانون وهي خطوات على طريق الإصلاح السياسي. في المقابل هنالك تحديات كبيرة ثلاثة تواجه الثورات العربية وستقرر مصيرها: التحدي الطائفي، والتحدي التنموي، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. لا يمكن الزعم بأن هذه الثورات قد نجحت إن لم تتصدَ لهذه التحديات. التحدي الطائفي هو تحدٍّ مصيري يتوقف عليه استمرار عمل "الدولة" وقدرتها على توفير الأمن والرعاية لمواطنيها. ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا التحدي يجب أن يعطى الأولوية القصوى لأن وجود الدولة نفسها متوقف على قدرتها على التعامل معه. التحدي التنموي لا يقل أهمية لأن الثورات العربية قد قامت من أجل القضاء على الفقر والتخلف الاقتصادي والسياسي والثقافي. لذلك ستقيّم الشعوب العربية أداء قادتها الجدد بناء على إنجازاتهم في مكافحة البطالة، القضاء على جيوب الفقر، ورفع مستوى دخل الفرد واحترامهم لحقوق الإنسان السياسية والمدنية والاجتماعية. التحدي الثالث يكمن في استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وهي أشبه بجرح نازف للسيادة والكرامة والموارد. التحدي الطائفي- هنالك قوى إقليمية ودولية تسعى لمحاصرة الثورات العربية وإجهاضها عبر إشعال المنطقة العربية بصراعات وهمية لخدمة أجندة الحرب على إيران. هذه حرب، إن حدثت لا قدر الله، ستشمل بالإضافة الى إيران دول الخليج العربي، العراق، سورية ولبنان. التصعيد الطائفي في كل من سورية والبحرين والعراق ليس بريئاً، ويستهدف تهيئة المناخ لهذه الحرب. أو ليس غريباً، أن تتمتع "الثورة" في سورية بكل هذا الدعم الإقليمي "العربي الرسمي" والدولي غير المسبوق، في حين أن الثورة في البحرين قد جرى قمعها بغطاء "عربي رسمي" وصمت دولي. ليس هذا حباً في الشعب السوري العظيم، ولكنه التحضير لتلك الحرب المجنونة على إيران. مهمة الوطنيين العرب سواء أكانوا إسلاميين او ليبراليين هي في إعلان موقف صريح برفض الحرب على إيران من حيث المبدأ وبالعمل إقليمياً على منع العوامل المؤدية لها. هذا يتطلب محاصرة الخطاب الطائفي وتجريمه أياً كانت القوى التي تقف خلفه، ويتطلب ثانياً تجريم التحريض على التدخل الخارجي في الأقطار العربية. الخطاب الطائفي هو نقيض خطاب "المواطنة" الذي قامت الثورات من أجله، هو خطاب تفتيتي يسهل على القوى "الخارجية" عملية اختراق الشعوب العربية وإجهاض ثوراتها من الداخل. دعونا نتذكر بأن الطائفية هي لغة القوى الاستعمارية للهيمنة على المنطقة. كل ما يقال عن الصراع بين "السنة" و"الشيعة" هو نتاج الحرب على العراق العام 2003. سابقاً لذلك، لم نكن نسمع هذا الخطاب. حتى صدام حسين في أوج حربه مع إيران، لم يستخدم هذا الخطاب الكارثي، وحاول تغليف حربه، دون أن ينجح، بلغة "العرب" مقابل "الفرس." من أجل تحقيق السيطرة على العراق قامت الولايات المتحدة بحل الجيش العراقي، وأعادت بناء النظام السياسي على أسس طائفية. في البداية اعتمدت أسلوب دعم القوى "الشيعية" للقضاء على بقايا النظام العراقي، وعندما تبين أن ذلك قد أدى الى تحريض "السنة" على مقاومتها، قامت بدعم ما سميت الصحوات العراقية، وهي مجموعات قبلية سنية ساهمت في محاربة "القاعدة" لكنها في المقابل عمقت الاصطفاف الطائفي. اليوم يطالب البعض بتقسيم العراق الى دويلات: واحدة للسنة، وثانية للشيعة وثالثة للأكراد. بالمثل، التقسيم الطائفي في لبنان هو تركة استعمارية فرنسية تعود للعام 1943 عندما جرى تقسيم النظام السياسي اللبناني بين المسلمين والمسيحيين على أرضية تعداد سكاني يعود للعام 1932. كان من نتيجته أن لبنان عاش في ظل حرب أهلية لأكثر من خمسة عشر عاماً (1975-1990) ولا يزال يعيش في أجوائها منذ اتفاق الطائف "الطائفي" أيضاً العام 1990. على القوى الوطنية العربية التي ناضلت وقدمت الشهداء من أجل الحرية والكرامة والتقدم الاجتماعي والاقتصادي أن تجعل من محاربة الطائفية أولى أولوياتها لأن الخطر الذي يتهدد إنجازاتها اليوم يأتي من ذلك التحريض المنظم على إبراز الهوية الطائفية والعرقية وحتى القبلية في مواجهة هوياتهم الخاصة بهم وهي أن جميعهم مواطنون سوريون أو مصريون أو لبنانيون، وأن هنالك تاريخاً وتراثاً ولغة وجغرافيا ومصالح مشتركة تكرس هويتهم كعرب. وأن الهوية القطرية والقومية أكبر وأهم من أية هوية أخرى طارئة- ولا يوجد في ذلك تجنّ على غير العرب من الأكراد والبربر وغيرهم إن تمتعوا بحقوق المواطنة الكاملة وإن تمكنوا من الحفاظ على ثقافاتهم الخاصة بهم. نحن لا نستطيع أن نفهم كيف يمكن للدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا ان تنعم بهذا التنوع الهائل في الطوائف والإثنيات العرقية وأن يكون هذا التنوع عنصر قوة لهذه الدول بينما يشكل ذلك في الدول العربية الأقل "تنوعاً" بكل المعايير عنصر ضعف. ما يجب أن تدركه القوى الوطنية الجديدة، وهي تأخذ مكان قوى الظلام القديمة، أن التحريض على الطائفية هو عمل منظم وممنهج وله أهداف محددة وهنالك أموال وماكينات إعلام، ومراكز أبحاث قد سخرت جميعها لخدمته. وهذا يفرض عليها أن ترتفع لمستوى التحدي وان تقابل ذلك بخطاب يقوّض الشحن الطائفي بالتركيز على مبدأ المواطنة في الحقوق والواجبات وتكريس ذلك في الدساتير التي تجري صياغتها. ولهذا الحديث بقية.