هذا هو موسمها، كما يحدث عادة مع نهاية كل عام، هو موسم البرامج التي تنهمك في قراءة طالع العام القادم، ليس من زاوية التحليل والمتابعة، ولكن من جهة المشعوذين والمشعوذات، الذين يحتلون مع اقتراب العام من نهايته البرامج الفضائية، هذا العام، وككل عام، حاولت أن أتذكر ماذا قال هؤلاء المشعوذون العام الماضي، لأصل إلى النتيجة ذاتها، وهو أنه لم يحصل أو يحدث أن صدقت هذه "النبوءة المشعوذة" وان صدق وان أصابت جزئياً، فإن ذلك لا يعود إلى الشعوذة بل إلى مآلات وتفسيرات الأحداث، هذا ليس موضوع اليوم الذي أنا بصدده، ولكن تذكرت ذلك وأنا أحاول أن أستعيد بدايات العام الجاري، 2011، لأتذكر، أن أحداً من المشعوذين والمشعوذات، لم يكن بإمكانه أو بإمكانها، التنبؤ عن طريق قراءة المطالع والشعوذة ما جرى هذا العام على امتداد الوطن العربي، بما بات يسمى بـ"الربيع العربي".وكما حدث للمشعوذين والمشعوذات، فإن مراكز البحث الاستراتيجية، ومؤسسات الاستثمار السياسي، من مراكز دراسات وأجهزة مخابرات، دولية، أميركية على وجه الخصوص، لم تكن بنتيجة تحليل البيانات والمعلومات والاستقراءات، ان تصل إلى حقيقة قدوم "الربيع العربي"، فوجئت الولايات المتحدة، التي تعتمد مراكز أبحاثها على كل ما وصل إليه العلم من بحث وتمحيص ودراسات، كما فوجئ متابعو برامج الشعودة بـ"الربيع العربي"، هذا لا يعني أنه يستوي العلم مع الخرافة، ولكن ما أذهب إليه، أن هذا "الربيع" جاء مفاجئاً للجميع من دون استئذان أو استثناء!لكن مصطلح "الربيع العربي" يذكّرني بربيع آخر وآخر، فهناك "ربيع براغ" عام 1968، والذي يشكل إيذاناً بتقرح الأنظمة الاشتراكية في "حلف وارسو"، كما كان إيذاناً بسطوة القوة الكبرى الاتحاد السوفياتي في ذلك الوضع، للسماح لأي ربيع أن يغزو خريف هذه المنظومة، وتم سحق الربيع بالدبابات، كما هناك "ربيع دمشق" عندما تسلّم بشار الأسد الحكم في خلافة والده عام 2000، باعتبار أنه شاب، كان ينال تعليمه في الخارج، ومطلع على محاسن الديمقراطية والليبرالية، وإن صغر سنه وتجربته في الخارج تسمح له للانتقال ببلاده إلى خلاف ما كانت عليه من قبل، وبالطبع، فإن هذا الربيع، كان واهماً وكاذباً وخادعاً، بل أكثر دموية من أن يتصوره أي عقل. كما كان هناك "ربيع لبنان"، عام 2005، عندما اضطرت سورية إلى سحب قواتها من لبنان بعد احتلال دام لعقود طويلة، تحت ضغط إقليمي ودولي، لكن سرعان ما عادت سورية، ومن خلال أدواتها المهيمنة على الساحة اللبنانية من التسلل لإعادة احتلاله بطرق مختلفة.أما "ربيعنا العربي" الحالي، فهو مصطلح غير عربي، فأول من استخدم هذا المصطلح وشاع فيما بعد هو الكاتب البريطاني ايان بلاك في صحيفة "الغارديان"، في الثاني من كانون ثاني هذا العام 2011، في صحيفته، حيث استخدم هذا المصطلح للمرة الأولى، وبات مشاعاً ومتكرراً في كافة وسائل الإعلام على مستوى العالم، لكنه كان إشارة مبكرة إلى أن "ربيع تونس" كان إيذاناً بالامتداد ليطال المنطقة العربية كلها، مستوحياً ذلك من أن استخدامه لهذا المصطلح بعد فرار الرئيس التونسي السابق بن علي في ذلك الوقت، ليشير الكاتب، الى ان على عدد من زعماء العرب أن يبكروا في حزم أمتعتهم والفرار قبل أن يسحقهم "الربيع العربي".ما لم يدركه صاحب هذا المصطلح، ان "الربيع العربي" هو ذاته الذي كان سبباً في عدم امتداده على طول الخارطة العربية، رغم أنه امتد فيما بعد إلى مصر وليبيا والبحرين واليمن وسورية، إلاّ أنه كان ربيعاً دموياً، فأي ربيع هذا الذي ترافق مع إراقة الدماء، ذلك أن فرار بن علي، ومحاكمة مبارك، ومقتل القذافي، أسهمت في تمسك القادة العرب بكراسي الحكم، إذ لم يعد هناك من خيار سوى استباحة دم الشعب ومواصلة القتل في محاولة لضمان حياتهم، فالثورات القصيرة، كما حدث في تونس ومصر، لم تعد لتتكرر في مناطق "الربيع العربي" الأخرى، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن سطو التيارات الإسلامية و"الإسلام السياسي"، على هذه الثورات ونتائجها، ومصادرة حقوق الثوار أنفسهم الذين ضحوا بالدم من أجل هذه الثورة، جعل من الثوار المحتملين في دول أخرى، للتفكير أكثر من مرة قبل أن يكرروا الأمر، وكي لا يصبحوا ضحايا ثورتهم، أما ثالث عناصر امتناع "الربيع العربي" عن الشمولية والتمدد، هي في قراءة متسرعة لنتائج الثورات التي نجحت في اقتلاع الزعامات الأولى، إذ دبت الفوضى المنظمة وتعالت أصوات فئات شعبية التمست الانتقام والحصول على حقوق كانت ضائعة في العهد السابق، أي أن هذه الفئات، اعتقدت أن زوال الرئيس هو نهاية الثورة، دون أن تدرك أن مآلات الثورة طويلة وصيرورة تحتاج إلى سنوات وربما عقود، لتحقق أهدافها، وفي هذا السياق، فإن تنازع الثوار فيما بينهم، إلى درجة اللجوء للسلاح لحسم الخلافات، هو أحد المظاهر التي تحيل "الربيع العربي" إلى ما هو غير ذلك!!البعض، لا يرى في "الربيع العربي" ربيعاً، بل يذهب إلى ما هو أكثر من ذلك بالقول بـ "الخريف العربي"، اما لأن هذا الربيع، كان ولا يزال دموياً يسوده العنف، واما لأن الفوضى هي بالنسبة لهذا البعض أسوأ من الدكتاتورية، وربما لأسباب عديدة أخرى، لكني أرى أن الخريف ليس مسمى طائشاً، وعندما يسمى باللاتينية Fall، أي تساقط أوراق الشجر، فإن ذلك إيذان بالتجديد والتغيير، تسقط الأوراق اليابسة والميتة، لإتاحة المجال أمام أوراق جديدة يانعة لتأخذ مكانها، فالخريف هو الذي يهيئ للولادة الجديدة، وبطبيعة الحال، فإن أصحاب مصطلح "الخريف العربي" لا يأخذون بهذا التفسير!!مع ذلك، فإني أعتقد، أن الملمح الأساسي لـ "الربيع العربي"، لا يتعلق بكل ذلك فقط، بل بعنصر التغيير الذي أحاط بكل شيء، أقصد تحديداً، إنه لم يعد بإمكان أي قوة، مهما امتلكت من إمكانيات السيطرة، الاستمرار في الهيمنة، وعلى سبيل المثال، وحتى لو تسلم "الإسلام السياسي" الحكم في أي بلد من بلدان "الربيع العربي"، فإنه قدرته عل الانتقال من دكتاتورية الشخص إلى دكتاتورية الفكرة والحزب، لم تعد قائمة، بفضل ما تم من تغيير حقيقي على البنية المجتمعية، وما يحدث في "ميدان التحرير" الآن، رغم سلبيته من نواح عديدة، فإنه موجه إلى ما يمكن أن يحدث في المستقبل إذا ما استمرأت جهة مهيمنة البقاء في الحكم، أو إقرار قوانين لمصلحة معتقداتها الخاصة، فإن ذلك سيتم مواجهته على المستوى الشعبي وإن الناس باتت مستعدة للتضحية، حتى لا تتكرر الدكتاتورية حتى لو كانت بوصفات أخرى، أو من خلال المتاجرة بالدين، ولعل تراجع "الإسلام السياسي"، من جماعة "الإخوان" أو "السلفيين"، عن ثوابتهم السياسية، كما عقلانية "الإسلام السياسي" في تونس والمغرب هو دليل على إدراك أهمية هذا الملمح الذي اعتقد أنه عنوان السنوات القادمة، فعام يمضي، ولكن "الربيع" مستمر!!كHanihabib272@hotmail.comwww.hanihabib.net