على وقع الأحداث التي تتالت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول العام 2001، قام الشيخ الجليل يوسف القرضاوي، بإصدار عدة فتاوى. في حينها كانت مهمة، منها أن لا ضرر في أن تكشف المرأة عن شعرها في الغرب لأن الهدف من إخفائه في الشرق هو عدم لفت الانتباه، بينما إخفاؤه في الغرب يؤدي الى عكس ما يراد منه. لاحظنا التطور الفكري لدى علماء المسلمين باهتمام شديد، لأن البعض ممن يدعي العلم منهم، يريد أن يغلق منافذ التطور في الفكر الإسلامي. ولقد كانت حملة هؤلاء "صليبية" بكل ما تعنيه الكلمة، وأدت في مرحلة ما دوراً تحريضياً كريهاً وصل الى حد قتل المفكر المصري فرج فودة وطعن الكاتب العالمي نجيب محفوظ بسكين، وتهجير غيرهم من المفكرين مثل نصر حامد أبو زيد الذي رفض قرار المحكمة بتطليق زوجته بدعوى ارتداده عن الإسلام لأنه حاجج بأن العقل العربي إذا ما أراد التقدم فإن عليه التحرر من سلطة "النص"، أي نص. الشيخ القرضاوي تحرر من سلطة النص، بإعطائه معاني جديدة قابلة للحياة في عصرنا الحالي، وهو ما نقدره في الرجل ونحترمه. تيار الإخوان المسلمين أيضاً، في مصر وتونس تحديداً، اتبعوا نفس الخطوات. الغنوشي، مؤسس وزعيم حركة النهضة في تونس، صرح من واشنطن بأن الدستور التونسي لن يحتوي على مواد ضد الصهيونية أو ضد دولة إسرائيل. وهو تصريح يعكس حالة نضج سياسي، ليس لأن الغنوشي يقرّ باحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، ولكن لأن مواد كهذه مكانها ليس الدستور الذي يتعامل مع حقوق وواجبات المواطنين ومع شكل نظامهم السياسي وطبيعة العلاقات التي تنظم ممارسة الشعب لسلطته السيادية. البعض رأى في تصريحات الغنوشي ارتداداً عن مواقفه السابقة الداعمة للقضية الفلسطينية، لكننا نتفهم أن أولويات الشعب التونسي هي ترسيخ نظامه الديمقراطي وتحقيق التقدم الاقتصادي واجتثاث الفقر وترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية وهي قيم تعمق من تأييد الشعب التونسي للقضية الفلسطينية. كذلك أيضاً، وأثناء لقاء قيادات حركة الإخوان المسلمين في مصر مع جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي، أجاب الإخوان صراحة بأن لا نية لديهم لإلغاء أي من المعاهدات الدولية التي عقدتها الدولة المصرية. وهو ما يعني صراحة، بأن استلام الإخوان المسلمين للحكم في مصر، لا يعني أن معاهدة كامب ديفيد ستلغى، ولا يعني بأن السفير الإسرائيلي سيعود لبيته، كما اعتقدنا للحظة. بالكثير سيقوم الإخوان، وبحسب كلامهم لكيري، بمراجعة بعض النصوص التي تتعارض مع مصلحة بلدهم مثل اتفاقية تصدير الغاز لإسرائيل. هنا أيضاً، لا يجب تحميل "الإخوان" ومطالبتهم بأكثر من طاقتهم، فمصر همها الأول ليس إسرائيل، بعكس الأخيرة بالطبع، ولكن ترسيخ النظام الديمقراطي، والنهوض بمصر اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وإعادتها لتحتل مكانتها التي تليق بها في الإقليم وفي العالم أجمع. هذا لا يعني أيضاً بأن هنالك نية للتخلي عن فلسطين وأهلها، ولكن شكل التأييد سيأخذ الطابع السياسي والاقتصادي، وهذا إن حصل، فهو تقدم وانتصار كبير للشعب الفلسطيني، بعد أن تآمر النظام القديم على الشعب الفلسطيني وقضيته. بشكل مختصر، التقدم في فكر الإخوان ملاحظ، وهو تقدم يسمح لأبناء الشعب الواحد بالاتفاق وبتداول السلطة بشكل سلمي وحضاري، ويسمح بتوحيد أصحاب المنابع الفكرية المختلفة على جملة من الأهداف الوطنية، التي تمكن العرب من اللحاق سريعاً بالأمم المتقدمة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. على أن هذا الاعتدال الفكري الذي يخرج عن "النص" الى رحاب العالم الأوسع، لا يجب أن يذهب لحد التخلي عن قيم الكرامة الوطنية، و"تشريع" إعادة الاحتلال للعالم العربي، وهي ما تحاول الشعوب العربية الخلاص منه منذ اتفاقيات سايكس-بيكو وسان ريمو ووعد بلفور. وهو ما يدفعنا للتساؤل عن الحكمة من تشريع القرضاوي لطلب تدخل أجنبي في سورية "إن فشلت الدول العربية في حماية أهل سورية." لا نريد أن نجادل الشيخ بالادعاء بأن أكثر من نصف الشعب السوري غير مشارك في "الثورة" الى الآن.. ولا نريد أن نلفت عنايته الى أن ما يجري فعلاً اليوم في سورية لم يعد ثورة، بل تحول الى شبه حرب أهلية بفضل التحريض المستمر على حمل السلاح الذي حذر منه قيادات المعارضة الوطنية السورية مثل المالح ومناع الذين يرفضون التدخل الأجنبي أو استخدام السلاح ضد الجيش السوري. ولا نريد أن نذكر الشيخ بأن "تشريعه" للتدخل الخارجي في ليبيا قد كلف شعبها أكثر من خمسين ألف شهيد، ودماراً كلياً للجيش الليبي، ولبنى تحتية كلفتها عشرات المليارات، والأهم ربما، بأنه قد يؤدي الى تمزيق الدوله نفسها. أوَ لم يؤد التدخل الأجنبي في العراق الى تدمير الدولة. اليوم يوجد أكثر من خمسة ملايين عراقي خارج بلدهم بسبب الاحتلال الأجنبي له. عشرات الآلاف من أطفال العراق لا يذهبون الى مدارسهم خوفاً من تفجير "انتحاري طائفي"..الناس لم تعد آمنة لا على أموالها ولا على أعراضها.. الدولة، جرى تحييدها عن المشاركة في محيطها لعشر سنين قادمة على أقل تقدير.. وقد يحتاج الى عشرين عاماً ليعود الى ما كان عليه قبل احتلاله، هذا إن تمكن من ذلك. هل هذا هو ما تريده لسورية أيها الشيخ الفاضل. لا خلاف على حق الشعب السوري العظيم في اختيار نظامه السياسي.. ولا خلاف على حقه في الثورة على الظلم وفي السعي لتغيير نظامه السياسي، لكن للثورة أيضاً قوانين. دمشق وحلب لم تشاركا بعد في الثورة وهو ما قد يعني بأن الغالبية الشعبية تخشى من أن التغيير السياسي قد لا يكون في مصلحتها ليس بسبب قمع النظام لها، فهذا يدفعها للتغيير والثورة وليس الصمت الذي نشاهده الآن.. ولكن لأن "الثوار" قد تسلحوا وأصبحوا يهاجمون الجيش السوري، وينطلقون من دول خارجية تريد تصفية حسابات خاصة بها مع النظام السوري. الاعتدال ضرورة.. لكن الدفع بالاعتدال لتسويغ احتلال بلد وتدميره جريمة. نقدر بالتأكيد رفض إخوان مصر للتدخل الأجنبي في سورية، ورفض إخوان الأردن لتدخل "غير عربي" في الشأن السوري، بالرغم من أننا نعتقد بعدم أهلية وشرعية الجامعة التي تتعاطى مع الملف السوري لأسباب ذكرناها سابقاً، لعل أهمها، بأن هذه الجامعة لو كانت صادقة حقاً في دعمها للشعبين السوري والليبي، لكانت على الأقل قد طالبت بتدخل أجنبي لحماية الشعب الفلسطيني، لكنها لم تفعل ولن تفعل. ونستهجن موقف إخوان سورية الذين يطالبون بتدخل تركي. هنالك فرق بين الدولة وبين النظام البائس في سورية. التدخل الأجنبي لن يدمر النظام فقط، بل سيدمر الدولة. سيحول جيشها وبناها التحتية الى أنقاض. سيشرد الملايين من شعبها، وسيقوم بتغذية حرب طائفيه ستشمل بالإضافة لسورية لبنان والعراق، ولن يكون الأردن منه في مأمن ولا حتى دول الخليج العربي. لمصلحة من إذاً دعوة الشيخ الجليل بتدخل أجنبي!! بالتأكيد ليس لمصلحة فلسطين