يصادف في هذه الأيام ذكرى اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى التي ابتدأت بتاريخ 8/12/1987 والتي توقفت عام 1993 مع توقيع اتفاق أوسلو وتشكل السلطة الفلسطينية .لم يكن سبب الانتفاضة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالأراضي الفلسطينية المحتلة ، حيث شهد عام 87 ، أعلا نسبة ارتفاع في نصيب الفرد السنوى والناتج المحلي الإجمالي ، وانتشار المقتنيات الاستهلاكية حتى بين صفوف الطبقة العاملة ، رغم أن هذا النمو والارتفاع لم يصاحبه نمو مماثل في عمليات التنمية والإنتاج، حيث بقى سوق الضفة الغربية وقطاع غزة استهلاكياً للمنتجات الإسرائيلية، ومنعت به إسرائيل عبر القوانين العسكرية والإجراءات البيروقراطية أية آفاق لتحقيق مشاريع إنتاجية وتنموية من اجل ترسيخ عملية التبعية واحتجاز التطور الاقتصادي الفلسطيني .إن السبب المباشر وراء اندلاع الانتفاضة كان يكمن بالنضال من اجل تحقيق الكرامة والعزة الوطنية عبر تحقيق الهوية الوطنية الفلسطينية التي عمل الاحتلال الإسرائيلي على تقويضها خلال سنى احتلاله وذلك عبر محاولاته لتنفيذ مشاريع سياسية بعيدة عن حق شعبنا في تقرير المصير مثل التقاسم الوظيفي، وألون ، وروابط القرى ، والإدارة المدينة … إلخ من المشاريع التي كانت تستهدف منع قيام شعبنا بممارسة حقه بالحرية والاستقلال عبر إقامة دولته الفلسطينية المستقلة .لقد ساهمت القوى السياسية المؤمنة بالخيار الجماهيري وعبر الأطر الاجتماعية التي شكلتها بالأراضي المحتلة مثل الأطر العمالية ، والطلابية ، والثقافية ، والنسوية ، والزراعية، والصحية … إلخ في تعزيز الوعي الوطنى لدى الفئات الاجتماعية المختلفة بأهمية ممارسة الكفاح الوطني ومقاومة الاحتلال بوسائل النضال الشعبي من أجل دحره عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 ، وضمان حق شعبنا بالحرية والاستقلال والعودة .وعليه فإن ديناميات العمل الشعبي المقاوم هي التي كانت الرافعة للانتفاضة الشعبية الكبرى وكان الوعي الوطني بمثابة الصمغ اللاصق لوحدة شعبنا و نسيجه الاجتماعي في مواجهة الاحتلال ، حيث شارك بهذه الانتفاضة كافة الفئات العمرية من أطفال ونساء ورجال وشيوخ وكافة الفئات الاجتماعية من عمال ومزارعين ومرأة وشباب ، الأمر الذي رسخ طابعها الشعبي ، كما عمق من محتواها الديمقراطي من خلال تشكيل اللجان الشعبية والأهلية والمحلية التي كانت بمثابة أدوات للتنظيم الجماهيري ببعده الديمقراطي والقائم على المشاركة وتحشيد الطاقات من اجل تنظيم الانتفاضة وخلق التكاملية في بنيتها لتصبح عصية عن الكسر عبر إجراءات وممارسات الاحتلال القمعية .لقد شكلت الانتفاضة الشعبية 87-93 علامة ضوء نوعية في مسيرة النضال الوطني ، من حيث مواصفاتها القائمة على طابعها الشعبي وعمقها الديمقراطي وأهدافها الوطنية ، فهي كانت بعيدة عن النخبوية والبيروقراطية على الأقل في سنواتها الأولى وكانت تعبيراً عن إرادة الجماهير بكافة فاعلياتها السياسية والاجتماعية من اجل الهوية الوطنية التي يمكن تجسيدها في إقامة الدولة المستقلة ، والتي كان إعلان الاستقلال في 15/11/1988 تعبيراً مكثفاً عن تلك الأهداف الوطنية بطابعها الديمقراطي التعددي والحقوقي .إن التدخلات البيروقراطية الفوقية والتنافس الداخلي الحاد بين بعض القوى والفصائل وعدم الاستمرار بالطابع الشعبي للانتفاضة وتوقيع اتفاق أوسلو كانت من العوامل الرئيسية التي عملت على إجهاض الانتفاضة وعدم استمراريتها لتحقيق أهدافها .لقد شكلت تجربة الانتفاضة مدرسة يستلهم منها أبناء شعبنا مسيرتهم النضالية والتي استمرت بأشكال أخرى من المقاومة بالعديد من المحطات ، ومنها العمل الشعبي المقاوم في مواجهة جدار الفصل العنصري ، ونشاط قوى التضامن الشعبي الدولي ضد الجدار في بلعين ونعلين وغيرهم من القرى إلى جانب مسيرات السفن لكسر الحصار الظالم عن قطاع غزة … إلخ من تلك الوسائل والأشكال والتي تنتمي لفلسفة المقاومة الشعبية الفلسطينية والتي كانت الانتفاضة الكبرى إحدى محطاتها الهامة، كما تم استلهام تجربة الانتفاضة والمقاومة بطابعها الشعبي السلمي في مواجهة أنظمة الفساد والاستبداد بالعديد من البلدان العربية والتي استطاعت ان تسقط عروش تلك الأنظمة على طريق التحول الديمقراطي وتحقيق قيم الحرية والكرامة والعدالة .لقد أثبتت تلك التجارب بأن أنظمة القمع الاستعمارية ولدى الأنظمة المستبدة لا تستطيع مهما تسلحت بترسانة الإرهاب المنظم وأدوات التنكيل أن تمنع الشعب من ممارسة حقه بالحرية والكرامة والعيش الكريم ، خاصة مع انتشار قيم ومفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ومراقبة العالم للممارسات القمعية التي ستؤدي هذه المراقبة عبر وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة إلى مقاضاة مرتكبيها أمام المحاكم الدولية بوصفهم مجرمي حرب .إن نجاح تجارب العمل الشعبي بالعديد من البلدان والحالات يؤكد أهمية الحاجة لإعادة تبنى هذا الخيار داخل الحركة الوطنية الفلسطينية من اجل الاستمرار في مواجهة الاحتلال على طريق نيل شعبنا لحقه بالحرية والاستقلال والعودة .