كان الجنرال ديغول يحرص على اصطحاب الخريطة، خريطة العالم في اللقاءات التي يعقدها مع الزعماء السياسيين، وهو الذي قال إن التاريخ يتغيّر، وفقط الجغرافية هي الثابت الوحيد. هيا نرى الخريطة إذن، لكي نعرف عن أي شيء نتحدث، لكي تدلنا على الطريق، فإذا كانت الإمبراطورية هي كرسي القيادة ومنها تصدر القرارات، التوجيهات، الخطط العملانية، فإن خطاً يخترق الأطلسي في شعبتين شمالية وجنوبية لا يحيط بكامل حوض البحر المتوسط فقط. من الخط الشمالي وصولاً إلى تركيا ومن الخط الجنوبي وصولاً إلى سورية. ولكن هذا الخط الذي يقف الآن عند حلقة سورية لإغلاقه هو بمثابة الطوق الحديدي أو الستار الحديدي الذي يراد له تطويق روسيا، الكتلة الأوراسية كما يعزل الصين ويكون بمثابة السياج الأمني، والجيو إستراتيجي لحماية آبار النفط والخليج العربي. وتالياً كسر القوس الإيراني الفارسي على حد سواء. هل قلنا إقامة الستار الحديدي نظرية الاحتواء والعزل والتطويق التي أدارتها الإمبراطورية في مستهل الحرب الباردة، لتطويق الاتحاد السوفيتي، ولكن في المرة الأولى من أوروبا وخاصرتها الإسلامية في آسيا الوسطى وتركيا. فالأحداث التاريخية لا تني تتكرر ولكن باختلاف التفاصيل والشخصيات، واليوم فإن ما يحدث في سورية إنما هو الحلقة الأخيرة في الحرب الباردة التي تأخر حدوثها، والتي يتضح الآن أنها لم تحسم بعد. إذا كان هذا الطوق الحديدي يحتاج لإغلاقه حسم الوضع في سورية. وهكذا يمكن إقامة الشرق الأوسط الجديد. بامتطاء حصان الربيع العربي نفسه عبر التحالف مع التيار الإسلامي السياسي الذي يمد سيطرته على طول الخط الجنوبي من المغرب إلى مصر، إذا كان الأموات، والمجانين هم وحدهم من لا يغيرون رأيهم.فهل نفهم بعد ذلك سر التشدد الروسي في الدفاع عن النظام السوري فيما يشبه استعادة موقف الاتحاد السوفيتي في أزمة السويس عام 1956. باعتبار سورية خطاً أحمر لا يمكن السماح بتجاوزه. والمسألة واضحة بالعودة إلى الخريطة، فإن بوتين الذي يعد نفسه اليوم لكي يكون الرجل الذي ترتبط باسمه عملية إعادة بناء الإمبراطورية الروسية الثالثة، بعد بطرس الكبير ولينين. وبعد تفكّك الاتحاد السوفيتي كان هو الذي قال إن هذا أكبر خطأ جيو إستراتيجي في القرن العشرين. بدعوته إلى إقامة الحلف الأوراسي. فإن سورية هي التي تشكل الكتف التي يطل منها الحلف على البحر المتوسط. وإذا انتزعت فإن الطوق الحديدي الذي ينغلق تماماً مع وصله بتركيا يصبح عندئذ مهدداً خاصرة روسيا الرخوة في آسيا الوسطى. ومن هذه النقطة يمكن التمدد شرقاً لتطويق الصين. هل نفهم إذن لماذا تعطل سيناريو المنطقة العازلة الأمنية على الحدود بين تركيا وسورية، كما الممرات الإنسانية التي دعت إليها فرنسا، وارتباك الجامعة العربية بعد زخم الاندفاعة، دبلوماسية المهل والإنذارات. ومحاولة جيفري فالتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية الذي يضطلع على ما يبدو بإدارة الخط الجنوبي والمدير التنفيذي في قيادة الصراع على سورية، التعويض عن ذلك عبر إقامة قواعد تدخل على الحدود اللبنانية السورية. ورد سورية في هذا التوقيت بالمناورة العسكرية النادرة أمام الإعلام لأسلحتها الصاروخية. فهل انتهت خطة التدخل الخارجي في سورية عند هذا الحد حينما أبانت روسيا عن لسانها وكشرت عن أنيابها؟ وهل هذا يعني أن الشرق الأوسط سوف ينتظر نهاية السنة لا للاحتفال بسقوط نظام الأسد في سورية وإنما بمشهد هزيمة الإمبراطورية في العراق . في الواقع قد تبدو الأزمة السورية بمثابة حرب "واترلو" الأخيرة، للإمبراطورية التي تجر أذيال الخيبة والهزيمة بعد حربين فاشلتين في العراق وأفغانستان، وحيث الهزيمة الثالثة في سورية سوف تخرجها نهائياً من الشرق الأوسط. إذا كان التحالف الأوراسي سوف يلتقي بالتحالف الإيراني السوري العراقي وصولاً إلى لبنان. لكي يعيد تركيب توازن القوى الجيو إستراتيجي الجديد ليشمل الهلال الخصيب، ويعيد إحياء الجبهة المشرقية في العالم العربي . على مصير الصراع الجاري في سورية وعليها إذن سوف يتقرر مصير التوازن العالمي، وكأنما القصة السورية في عقد الخمسينيات تعاود الظهور من جديد. كتاب ضابط المخابرات الأميركية الشهير "حبال على الرمال"، إستراتيجية حقيبة المال بين لبنان وسورية، زمن الأخوين فوستر والان دالس، والحديث عن أن مصير التوازن العالمي يتقرر في سورية. وكتاب باتريك سل الشهير عن حقبة الخمسينيات أيضاً يحمل العنوان نفسه "الصراع على سورية" . هنا عقدة الوصل والقطع، نقطة الاشتباك الحاسمة في الصراع بين الأيديولوجيات القومية العروبية والإسلام. الساحل والصحراء، الثورة والثروة، النظام القديم والنظام الجديد. كما اختبار الأفكار والصبوات التاريخية والأحلام وتحديد الهوية. وهذا هو اللقاء العاصف الأخير في الاشتباك، الأيديولوجي لتقرير الهوية، القومية العربية مع آخر ممثل لها، "البعث" في موطنه الأصلي سورية، حيث تقف الفكرة القومية وقفتها الأخيرة. ولذلك قد نفهم لهذا السبب أن إدارة الصراع كما الأزمة تتخذ هذا الشكل والأسلوب المختلف عما حدث قبل الآن عبر هذا الاستقطاب المحتدم على مستوى العالم كلحظة اشتباك كما في العام 1956. روسيا والصين ومجموعة "الايبسا" الهند البرازيل جنوب إفريقيا، ودول أميركا اللاتينية، مجموعة اليسار. وفي الصف المقابل التحالف الغربي الرأسمالي القديم. وهل رأينا في أزمة سابقة منذ إنشاء الجامعة العربية، تفعيل دور هذه الجامعة كأداة في الأزمة إلى هذا الحد؟ فهل نتحقق بعد ذلك مما كنا ذهبنا إليه من قبل، لماذا تبدو المعارضة السورية هنا أو الثورة في أزمة حقيقية يعبر عنها انقسام المعارضة نفسها. حول الهوية والتمثيل والتدخل الخارجي بل وفي عدم قدرتها على سحب البساط من تحت أقدام النظام في الالتفاف والاستقطاب الشعبي، والمسألة واضحة لأن النظام أياً تكن الانتقادات ضده فإنه يمتلك اصطفافاً هويةً ورسالةً واضحةً. بينما المعارضة أين تقف في هذا الاستقطاب حول سورية؟ والذي يكاد يشطر العالم كما يشطرنا نحن معه. وقد جاء الجواب في أقوال برهان غليون قبل أيام، الأقوال التي كانت بمثابة الهزيمة والانتحار الذاتي للمعارضة نفسها. قال برهان غليون لصحيفة "وول ستريت جورنال" إنهم حين يتسلمون السلطة سوف يفكون تحالفهم مع إيران وحزب الله وحماس، وإنهم سوف يتبعون المفاوضات كخيار وحيد لاستعادة الجولان. لاحظ الكثيرون أن الرجل بهذه الأقوال كمن يقدم أوراق اعتماد المعارضة السورية إلى الأميركيين والإسرائيليين. ولكننا نفضل أن نناقش المسألة من زاوية براغماتية. لماذا أيها الفيلسوف والمفكر التخلي عن أوراق قوة سورية وتحالفاتها هكذا مجاناً، ودون مقابل، إذا كنت ستدخل في معركة تفاوض حتى وليس معركة حربية وإن هذا يشبه إلى حد بعيد ما فعله السادات وأدهش كيسنجر في قصة طرد الخبراء الروس الشهيرة. ثم يا أخي كيف تبعث رسالة إلى العالم العربي ولنا نحن الفلسطينيين بقطع العلاقة مع حماس. إذا كان الأميركيون أنفسهم يسعون إلى التقرب من الإخوان المسلمين. ولديكم شركاء في المعارضة من الإخوان المسلمين، وما هي الضمانة أن لا تكون حماس مجرد عنوان وغطاء لاستعداء الفلسطينيين في سورية، وقد حصلوا في ظل النظام الأسدي والبعثي على معاملة هي الأفضل بين مواطن اللجوء الأخرى . ونفهم في الواقع أن رئيسنا أبو مازن وعرفات قبله، تبنيا خيار التفاوض لأسباب تتعلق بتوازن القوى، وحتى مع ذلك فإن عرفات لم يستبعد خيار القتال ووصل أبو مازن أخيراً إلى طريق مسدود وأوقف التفاوض، فلماذا تقزيم الموقف السوري وإضعافه إلى هذا الحد. صحيح أن الأسد الابن فاوض إسرائيل لكنه لم يقل إن التفاوض هو الخيار الوحيد، ولم يعط إسرائيل أي ضمانات أو إشارات بعدم اللجوء إلى الخيار الحربي، بل إنه واصل الاشتباك في الواقع بوسائل وطرق وأدوات غير مباشرة عبر دعم حزب الله وحماس والمقاومة في العراق. هذه إذا هوية النظام الجديد، التخلي عن ثوابت سورية الوطنية وإعادة سورية إلى حقبة ماضية في عقد الخمسينيات والانقلاب، الرجوع عن التحول العظيم الذي أحدثته الأسدية بانتقال سورية كلاعب إقليمي كبير. فأي سورية يفضل السوريون والعرب؟ سورية التي قوتها في ضعفها كساحة يتلاعب بها الآخرون أم سورية كلاعب كبير في المنطقة.