خبر : ثورات "الربيع العربي" والأحكام المتسرّعة ...بقلم: د. عبد المجيد سويلم

الخميس 27 أكتوبر 2011 06:57 م / بتوقيت القدس +2GMT
ثورات "الربيع العربي" والأحكام المتسرّعة ...بقلم: د. عبد المجيد سويلم



كلما شهدنا حدثاً منغّصاً في أحداث "الربيع العربي" تعالت الأصوات من أطراف عدة ومن زوايا مختلفة في المنطلق والخلفية والأهداف حول الأخطار المحدقة بأهداف هذا الربيع وفي النتائج التي يمكن أن ينتهي إليها. بعض هذه الأصوات لا يرى فيه "الربيع العربي" أكثر من مجرد "مؤامرة" تمت حياكتها في الظلام وفي عواصم الغرب ولدى مؤسساته السياسية والأمنية، وان ما سيؤدي إليه ليس أكثر من مجرد إعادة اقتسام غربي للنفوذ في هذه المنطقة، وكأن العالم العربي قبل "الربيع العربي" كان مستقلاً وليس تابعاً ومرتهناً للغرب في أدق تفاصيل حياته، أو كان العالم العربي قبل هذا "الربيع العربي" على أبواب إنجاز وحدته القومية وجاء هذا الربيع كي يقطع على هذه الأمة وحدتها. وكلما تصاعدت أصوات الشارع العربي باتجاه إنجاز ثورات ديمقراطية حقيقية تنهي واقع الدولة الاستبدادية وتؤسس لمرحلة جديدة عنوانها العقد الاجتماعي الجديد القائم على الحرية والعدالة الاجتماعية ومجتمع المواطنة ودولة المؤسسات والتداول السلمي للسلطة وإعطاء كل قوة سياسية واجتماعية حقها في المشاركة، وحتى في قيادة العملية السياسية في هذه المرحلة، خرج علينا من يقول لنا إن مشاريع التنمية في هذه المنطقة ستتوقف جراء "الخسائر" الباهظة التي دفعتها الاقتصاديات العربية بسبب "الربيع العربي" وكأن عجلة التنمية العربية كانت تقوم على قدم وساق، وكأن الدولة العربية القطرية حلت منذ أمد بعيد مشكلات الفقر والبطالة وشيدت المصانع الكبيرة وحلت مشكلة الغذاء العربي وتخلصت من ديون بلدانها التي وصلت إلى معدلات مفزعة. هؤلاء ومن قبلهم، أيضاً، لا يرون على ما يبدو أن أهم محركات الربيع هو هذه الدرجة المرعبة التي وصلت إليها حالة الاستبداد والفساد والإفساد في هذه المنطقة، وحالة الارتهان الذي حول هذه المنطقة إلى "مزارع" خاصة للعائلات والأحزاب الشمولية والطوائف وجماعات المال والأمن فيها حتى أصبحت الثروة والسلطة والقرار دائرة مغلقة مفتاحها موجود أصلاً في الخارج وعلى حساب الملايين من الفقراء والمعدمين والشباب العاطل عن العمل والأميّين الذين تزيد نسبتهم على 35% من سكان هذا الوطن العربي الكبير أكثر من نصفهم من النساء. وكلما تصاعدت في الشارع العربي الأصوات باتجاه منطق الحق والعدل والسلم في هذه المنطقة، وكلما تحركت الجماهير ولو بصورة رمزية ضد البلطجة الإسرائيلية واستهتارها بأمة بكاملها خرج علينا من يقول لنا إن "الربيع العربي" أصبح يهدد السلم والأمن والاستقرار في كامل هذه المنطقة، وكأن هذه المنطقة قبل "الربيع العربي" كانت تعيش في "رغد" هذه الفضائل وجاء "الربيع العربي" ليهددها! في الواقع "الربيع العربي" يحتاج لأسباب كثيرة للدعم الدولي، والدعم الدولي الفاعل هو الدعم الغربي. وفي الواقع، أيضاً، فإن الغرب يستخدم هذا "الاحتياج" لتكريس مصالحه وتوطيدها والحصول على أعلى درجة ممكنة من المكاسب المرتبة على الدعم الذي يقدمه مادياً ومعنوياً وعلى الوسائل التي يمكن أن يلجأ إليها والآليات التي بوسعه اللجوء إليها لتقديم هذا الدعم وتسخيره لوضع سقوف معينة حتى لا يتحول "الربيع العربي" إلى تهديد لتلك المصالح الغربية الإستراتيجية في هذه المنطقة، وهذا شيء طبيعي ومفهوم وهو لا يشي بمؤامرة أو بأي شيء خارج المنطق والمألوف. لا يوجد هنا مؤامرة بل يوجد غرب يبحث عن تكريس مصالحه وعن غرب يخاف على هذه المصالح، وهو يسعى جاهداً لاحتباس أية اندفاعات منظمة نحو استقلال القرار السياسي في هذه المنطقة واستقلال القرار التنموي على حد سواء، وهو (أي الغرب) يعمل جاهداً لكبح جماح التطور الديمقراطي بما يمنع مشاركة الشعوب العربية في هذا القرار، ولمعرفته المؤكدة بأن مثل هذه المشاركة ستعني بالضرورة خروج القرار السياسي والتنموي من دائرة التحكم الغربية. إذا تجذرت التحولات الديمقراطية في هذه المنطقة ووصلت إلى حدود خارجة عن دائرة التحكم الغربي بها فإن الغرب سيقف في طريقها، ولن يتوانى عن تقسيم هذه المنطقة وإعادة تفتيتها جغرافياً، بل إن هذا الغرب لديه الاستعداد للمباشرة في هذا التقسيم وإعادة التقسيم من على قاعدة تدمير البنى الاجتماعية، في هذه المنطقة، والغرب على استعداد للعمل بكل الوسائل العلنية والسرية، المشروعة وغير المشروعة، المعروفة وغير المعروفة بل والمبتكرة لتدمير الدولة العربية القطرية نفسها وإعادة هيكلة مشروع الدولة مع مشروع الطائفة والمذهب ووفق أية انقسامات سيتم استحداثها لهذا الغرض. والغرب لديه من الإمكانيات والوسائل ما يمكنه من إحداث تحولات في هذه البنى لإقامة كيانات عرقية وإثنية ودينية وقبائلية، ما يحول مشروع الدولة والهوية والبنية الاجتماعية وحتى الاقتصادية إلى مشروع سياسي جديد تكون فيه إسرائيل القاعدة وليس الاستثناء، وتكون الدول المحيطة بها وحتى غير المحيطة على شاكلتها، وهو ما سيخلق دفعة جديدة للمشروع الصهيوني ويعيد تجديد "شبابه" وحيويته بعد أن وصل هذا المشروع إلى مأزق استراتيجي يصعب تصور الخروج منه من دون عملية إعادة اقتسام هذه المنطقة وفق المنطق القائم على إعادة الهيكلة التي أشرنا إليها. هذه الرؤى الغربية التي كانت قائمة قبل ثورات "الربيع العربي" وهزيمة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة هي التي أجبرت الغرب على التراجع عنه، وإن كان من فضل للربيع العربي (من بين فضائل أخرى كثيرة) فهو فضل إنهاء هذا المشروع باعتبار أن الديمقراطية والتحول الديمقراطي والوصول إلى دولة المواطنة هو السبيل الوحيد لقطع الطريق على هذا المشروع التدميري. كما أن صعود التيارات الإسلامية في إطار هذا "الربيع العربي" هو أمر طبيعي لأن قوى الإسلام السياسي هي الأكثر تماسكاً وتنظيماً وشعبية في الواقع العربي القائم اليوم. هذه القوى وعلى الرغم من كل محاولاتها السابقة لطرح مشروعها الشمولي في المنطقة (الإسلام هو الحل) ثم إقامة دولة الشريعة الإسلامية" ثبت فشله وعدم واقعيته وثبت أن الشارع العربي أصبح اليوم وأكثر من أي وقت مضى يسعى لإقامة نظام ديمقراطي تعددي مدني قائم على أساس المواطنة وسيادة القانون والفصل بين السلطات والتداول السلمي الدستوري للسلطة، وهو مشروع يتناقض بالكامل مع المشروع الشمولي الذي كانت تطرحه حركات الإسلام السياسي، وهذا هو الأساس للتحولات التي جرت في خطاب الإسلام السياسي وتحول هذا الخطاب نحو الدولة المدنية ونحو القبول رسمياً بعشرات المقولات التي تنتمي للفكر العلماني والعقلاني، وهي في مطلق الأحوال خارج منظومة المقولات الشمولية. وفي واقع الأمر، أيضاً، فإن الإسلام السياسي في المنطقة العربية ليس أمامه سوى النموذج التركي أو النموذج الإيراني وعليه أن يختار في نسخته الوطنية أو القومية الشاملة بين هاتين المدرستين، و"الربيع العربي" أصبح يجبر الإسلام السياسي على اختيار النموذج التركي حتى وإن جرت هذه العملية بصعوبات كبيرة وبتردد معين وتمنّعٍ ما. ولا يجب أن نخاف من هذه العملية على الإطلاق، لأن الإسلام السياسي بهذا المعنى يأتي إلى معسكر العلمانية ويقترب منه وهو يدخل عبر قنوات عدة إلى ميادين هذا المعسكر، وكل محاولة لقراءة تطور أفكار الإسلام السياسي خارج إطار هذا المسار يحتاج إلى التدقيق وإلى المراجعة. هذه عملية صعبة وقد تشهد الكثير من التراجعات، وقد تشهد، أيضاً، الكثير من الفرز والتمحور والاصطفافات الجديدة لكنها نزعة تتحول إلى ظاهرة تكاد تشبه التحولات التي شهدتها الأحزاب الشيوعية واليسارية والحركات القومية على مدى زمني طويل وكانت محطة "البريسترويكا" أحد تجلياتها الفاقعة. من المبكر جداً الوصول إلى أحكام على نتائج نهائية للربيع العربي، ومن المجحف انتظار ثورات من دون منغّصات ومنعرجات ومن دون أخطاء وهفوات ومن دون تسرّعات واشتطاطات على الرغم من أن بعض هذه الممارسات تبقي في جسم الثورة جروحاً لا يتم الشفاء منها بالسهولة والسرعة الكافيتين. لا يوجد حلول ناجزة للمسألة الديمقراطية في هذه المنطقة من دون أن ندفع أثماناً عالية لأن البنية الأبوية، والكثير من مضامين الثقافة الشعبية وحجم التجهيل والقمع الذي مورس على شعوبنا يحتاج إلى الكثير من الجهد والصبر والإيمان العميق بالتراكم، فنحن لسنا أمام مشروع عقاري سيتم بناؤه وإنما نحن أمام مشروع ثقافي يولد لتوه ويحتاج للرعاية الخاصة ومعرفة عميقة بالاختلاف الجذري بين شمول الظواهر المادية وتحولات الظواهر الاجتماعية، حيث المدى الزمني مختلف، وحيث التعقيد أكبر بما لا يقاس، وحيث المسار لولبي وليس مستقيماً، وحيث التأثير والنتائج أبعد أثراً وعمقاً في الزمان والمكان على حدٍ سواء.