ميتة القذافي على سلاحه تظل أشرف من ميتة صدام على حبل المشنقة. أعرف أن لعامة الناس رأياً مخالفاً.. سوى أن صدام حظي بمحاكمة، مهما قيل فيها، فهي تظل أكثر عدالة من محاكم المهداوي "العراقية القراقوشية" الشهيرة.الى هذا، لا يحتاج الأمر لحدس وبراعة المفتش "كولومبو" لتسفيه رواية (روايات؟) الثوار الأشاوس المتناقضة حول موته اغتيالاً، واضح أن موكب القذافي الهارب من سرت، مدينة ولادته وموته (كان يحلم أن تكون عاصمة الاتحاد الأفريقي) تعرض لقصف جوي، فلجأ الى عبارة سيول أمطار (وليس قنوات مجارٍ) ثم خرج، كما قيل، ببندقية في اليد ومسدس في اليد الأخرى.ما جعلني أعقد مقارنة بين ميتتين للرئيسين العراقي والليبي هو عبارة قيل إنها وردت على لسان القذافي: "شنو صاير"، وهي قريبة من اللهجة العراقية "شنهو".. وأمر آخر هو أن ميتة العقيد الليبي بالإعدام تذكر بمصرع الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، الذي قاد "ثورة" قتلت الملك فيصل الثاني ورئيس وزرائه نوري السعيد (بابا نوري!).. وثالث "القتلى" كان صدام حسين.أرجو ألا تكون دولة ليبيا العادية (مجردة من اسمها من اسمها الخماسي الفخم) عراقاً آخر أو صومالاً آخر، فإذا كان ثوار بنغازي وزحفهم الأحمر الى طرابلس وبني الوليد وسرت، استلهموا الانتفاضة التونسية، فإن التوانسة يذهبون، غداة مصرع القذافي، الى صناديق الاقتراع.. وستلحقهم مصر التي استلهموا منها ثورة "ميدان التحرير".أمر ثالث وأخير، وهو أن عبد الكريم قاسم (الذي هتف انصاره: لا زعيم إلا عبد الكريم) اقترح إقامة دولة فلسطينية (وحارب في فلسطين 1948) قبل انطلاقة الثورة الفلسطينية.. لكن، العقيد الليبي اقترح "اسراطين".. وهذا الأمر الثالث يقودني الى أفضل تحليل لشخصية أجنبية عن العقيد الليبي جاء في مذكرات طازجة لكوندوليزا رايس، التي حظيت "بإعجاب غريب" من العقيد. قالت: "خرجت من هذه الزيارة بعدما أدركت الى أي حدّ يعيش القذافي في عالمه الخاص".إذاً، كان عبد الكريم قاسم يعاني من "مرض التوحّد" وعانى العقيد القذافي بشكل مضاعف من هذا المرض.. ولهواة السينما أن يتذكروا فيلم "رجل المطر" من بطولة داستين هوفمان (المريض بالتوحد) وأخيه توم كروز. إنه مرض غير الشعور بالعظمة بالذات (بارانويا) أو الانفصام النفسي (شيزو فرينيا).مع ميتة القذافي الشنيعة يمكن القول إن الانقلابية العسكرتارية العربية وصلت نهايتها (تونس، مصر، ليبيا...) وتوشك أن تصل نهايتها (اليمن وسورية).. لكن "ربيع الشعوب" العربية يبقى مبكراً عن ربيع ديمقراطي عربي حقيقي، يبدأ، اليوم، من تونس، ومن مصر الشهر المقبل.هل التدخل الجوي الأوروبي-الأميركي (ناتو) تعلم درس التدخل البري الباهظ في أفغانستان والعراق، أم أن قادة دول الغرب يكذبون في ريائهم بتفضيل محاكمة دولية عادلة لمجرم الحرب، قد تحمل قضايا وفضائح تدين ازدواجيتهم!مهما يكن، فالثوار الذين نعتهم زعيم الجماهيرية الليبية العربية الاشتراكية العظمى بـ"الجرذان" انتصروا على الطاغية، ولولا طائرات "ناتو" ما تمكنوا من الانتصار، علماً أن دمار العراق، شعباً وبلداً ونظاماً وجيشاً، لا يقارن حجمه الكبير بخراب ليبيا، غير أن الشركات الغربية سوف تجني أرباحاً كبيرة من "إعادة إعمار" البلدين، علماً أن إدارة الحاكم الأميركي السامي، بول برايمر، لعراق ما بعد صدام جعلته واحداً من أكثر بلاد العالم فساداً (17 مليار دولار منهوبة في عهد برايمر).. والحبل على الجرار! (بالمناسبة، أعلن أوباما عن انسحاب عسكري شامل من العراق بنهاية العام الجاري.لعل خير ما يفعله المجلس الانتقالي الليبي، اتقاء للفوضى والحرب الأهلية، هو أن يعود بالبلاد الى المرحلة الملكية السنوسية، ليس بالعلم وحده، ولكن بملكية دستورية (تملك ولا تحكم) وستكون هذه هدية ليبيا الى عالم عربي يتقاسم زعامته الطغاة العسكريون أو الملوك والأمراء مطلقو الصلاحية.. وقد سارع الملوك الى إصلاحات ترقيعية خشية امتداد فوضى الربيع العربي الى بلادهم.كان لعبد الناصر نظرية الدوائر الثلاث لدور مصر (العربي-الأفريقي-العالمي).. وما الذي تبقى عنها؟ وجاء "خليفته" القذافي ليخلط هذه الدوائر، من داعية للوحدة العربية، الى داعية للاتحاد الأفريقي.. الى "نظرية ثالثة" عالمية ليست ليبيا (ولا مصر ولا العالم العربي) مؤهلاً لها.طويت صفحة من سجل الزعامة العربية، على أمل بعيد أن تفتح صفحة جديدة من سجل الشعوب العربية.