خبر : كم شاليط لتحرير شعب؟ ..توفيق وصفي

الأربعاء 19 أكتوبر 2011 08:47 ص / بتوقيت القدس +2GMT
كم شاليط لتحرير شعب؟  ..توفيق وصفي



كان الله والمواسون في عون زوجات وأبناء وبنات وآباء وأمهات وأشقاء وشقيقات وأصدقاء وجيران من لم يرد اسمه في قائمة الصفقة، فوحدهم ومن مثلهم يتذوقون طعم الأسى والخيبة والغيظ والغضب في آن، لأن أحبتهم الأسرى والأسيرات لن يُنيروا ليلهم الطويل، ولن تتحول منازلهم الصامتة سنوات ثقيلة إلى ساحات للفرح والضحكات الباكية والعناقات المتأججة احتفالاً بعودة الغائبين الأعزاء، وسيكون الحزن شديداً عند قيامهم بواجب التهنئة لأمثالهم من ذوي الأسرى الذين تملأ الفرحة وجوههم ورحابهم، لكن الواجب واجب، على أمل ردِّه ذات يوم آخر، ربما بشاليط آخر وصفقة أخرى!لا تُغطّي الفرحة بتحرير من أسعدهم القدرُ وكانوا من الناجين على متن مركبِ شاليط الغُصَّةَ الجارحة التي يتجرعها ذوو الذين ما زالوا أسرى حتى إشعار آخر، ولعلها لا تُلغي الحقيقة الوحيدة القاسية في لجة كل حدث، أن شعباً بأسره ما يزال في الزنزانة، حدودُ حريته لا تتجاوز زيارة المستشفى أو "فورة" مشروطة، و"أخو أخته" من ينتقل عندما يظن أنه حر من قفص إلى قفص، ومن كان عليه أن يفرح لبرهة لا ينجح في الاحتفاظ بفرحته برهة أخرى، حين يكتشف بأسى أن داخل السجن الصغير والكبير العزلةَ نفسها، مضاعفا باكتشافه المتأخر عذابه القديم، الذي لم تلتئم جروحه بعد.يقرأ من يُفترض أن يكون الآن خارج سجون الاحتلال الإسرائيلي حريته الراهنة بعينين تفهمان العزلة وتفاصيلها، ولا أخاله يقع في وهم "نهاية الأحزان" لحظة الإفراج عنه، حين يرى من جديد الشمس والغيوم ضمن المدى المطلق للرؤية، وحين تُداعب خياشيمه رائحةُ القهوة ومنقوشةُ الزعتر، حتى حين يقشعر بدنه جذلاً بسماع نداء "يا با" ودعاء أمه "يرضى عليك" وتلقيه ربتة على كتفه بيد أبيه الذي شاخ في غيبته، لن يُصدم بأن حريته فقاعة في فراغ الأسر الكلي، فإما الذهاب إلى حياة تناكفه فيها زوجته حول طبخة الغد، والتعود على الوضوء قبل كل صلاة، لتعويض قلة الماء في السجن واضطراره للتيمم، وإما البحث عن الخطوة التالية، على طريق الحرية الجمعية، والخلاص من العزلة الفردية.عزلة الأسير الذي عليه مواصلة رحلة الأسر لا تقتله، ينجح في الخروج منها حياً، لكنه لا يُمجّد الأسر، حيث لا صديق ولا ونيس ولا رئيس، وحده يرسم ملله ويهندس فراغه، هو الطاهي والآكل في مطبخ وهمي، تنقصه نكهة أي بهار أو إدام.. يُهمل الحسابات حيناً ويراجعها حيناً آخر، ثم ينسى إن كان ثمة ما يستحق الحساب، فيذهب في محاولة لاستعادة ملامح الوجوه خشية تبدد معالمها، في حضرة البحث عن عنوان لحلم جديد.. يبكي لأتفه الأسباب، سراً في البداية، ثم دون خجل من العيون، فمن يراه سوى الجدار، ونملة تتزحلق على أرضية خشنة قاتمة، أقصى أمانيه أن يشاهد كل الأفلام القديمة، التي يكاد يحفظها عن ظهر قلب، بأغانيها وقبلاتها ونكاتها.يود حيناً أن يموت، على أن يحيا بعد حين، يتوق إلى أن يرى "وهو ميت" كم بكاه الأحرار، ثم يبكي معهم على نفسه وعليهم، يقلب الصفحة، لأنه يمقت في سره البطولة والمجد والمديح، عائداً إلى موسيقاه البطيئة، على إيقاع عزلته الفطرية الآن، سرير ومنفضة وجدار، بانتظار الخلاص، دون أن يحسد من سيرقدون الليلة بين أحضان ذويهم الدافئة، متمتماً "مبروك"!tawfiqwasfi@yahoo.com