تطالب الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة برئاسة نتنياهو (وتلحّ في المطالبة)، تماماً كما طالبت الحكومة السّابقة برئاسة أولمرت (وألحّت في المطالبة)، بأن يعترف الطّرف/الممثّل الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهوديّة أو كدولة قوميّة لليهود. لكن الطّرف/الممثّل الفلسطيني، كما نعرف جيّداً، يرفض ذلك أو يتمنّع عن ذلك. والسّؤال الذي يثور، أو يثار، في هذا الصّدد هو التّالي: ما الذي تريده إسرائيل اليهوديّة حقّاً من هذا الاعتراف الفلسطيني؟ بكلمات أخرى، ما هي تبعات مثل هذا الاعتراف إذا حصل؟ لكي تتمّ الإجابة على هذا السّؤال/الهاجس، علينا أن نحاول أوّلاً استكناه مفهوم الدّولة اليهوديّة الذي تلوّح به وتصرّ عليه حكومات إسرائيل المتعاقبة.إنّ تعريف إسرائيل معياريّاً كدولة يهوديّة أو كدولة قوميّة لليهود يعني، من بين ما يعنيه، أموراً كالتّالية:إنّ دولة إسرائيل هي (ويجب أن تكون وأن تظل) دولة لليهود أينما كانوا أو تواجدوا. هي دولة اليهود داخلها (مواطنيها الفعليّين) ودولة اليهود خارجها (مواطنيها المحتملين). قانون العودة (1950) وقانون الجنسيّة (1952) يكفلان لأيّ يهوديّ يهاجر إلى إسرائيل ويقرّر الإقامة الدّائمة فيها الحصول على الجنسيّة الإسرائيليّة (والمواطنة الكاملة) بصورة شبه فوريّة. وعمليّاً، فإنّ دولة إسرائيل مفتوحة الأبواب أمام كلّ اليهود، بينما هي موصدة الأبواب في وجه غيرهم (الفلسطينيّون أساساً).إنّ اليهود مواطني دولة إسرائيل الفعليّين يجب أن يكونوا وأن يظلّوا للمدى المنظور الأغلبيّة العدديّة، الواضحة والسّاحقة، من مجموع مواطني الدّولة، وكذلك من مجموع سكّان مدينة القدس.إنّ طابع الدّولة يجب أن يكون وأن يظلّ يهوديّاً، وإنّ أهدافها العليا وأولويّاتها، والسّياسات العامّة المشتقّة من ذلك، يجب أن تكون لصالح اليهود ولخدمتهم في المقام الأوّل (والأهمّ). وهناك تبعات/مشتقّات أخرى لتعريف إسرائيل معياريّاً كدولة يهوديّة (على مستوى الرّموز وملكيّة الأراضي، مثلا)، لا يتّسع المقام هنا لتعدادها.أمّا أهمّ ما يتبع أو ينتج عن هذا التّعريف المعياريّ فيمكن إجماله بالتّالي:التّمييز الملازم، وعلى أساس إثنيّ، ضدّ الأقليّة الفلسطينيّة داخل إسرائيل. هذا التّمييز الملازم يزداد أو يقلّ وطأة حسب الظّروف، وحسب ما تمليه مصالح وأهواء الأكثريّة اليهوديّة الحاكمة. هذا التّمييز الملازم يعني أيضاً أنّ هناك نوعين من المواطنين في الدّولة: مواطنون من الدّرجة الأولى (اليهود) مقابل مواطنين من الدّرجة الثّانية أو أشباه المواطنين (الفلسطينيّون العرب). غنيّ عن القول بأنّ هذا التّمييز الملازم، والذي يتخلّل جميع مجالات توزيع الموارد الماديّة وغير الماديّة، ينتقص من ديمقراطيّة الدّولة، إذ أنّه ينطوي على خرق فاضح وموجع لمبدأ المواطنة الدّيمقراطيّة المتساوية في الحقوق.إنّ الطّريق أمام عودة اللاجئين الفلسطينيّين إلى قراهم ومدنهم، والتي تمّ اقتلاعهم منها ظلماً عام 1948، سوف يظلّ مسدوداً. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ أيّ حلّ لقضيّة اللاجئين، من وجهة النّظر الإسرائيليّة، يجب أن يتمّ خارج حدود الدّولة اليهوديّة. قد يتمّ تعويض اللاجئين بهذه الطّريقة أو تلك، حسب هذه المعادلة أو تلك، لكنّ عودتهم لا تكون إلى داخل حدود الدّولة. إذ أنّ عودة اللاجئين بأعداد كبيرة إلى "ديارهم" قد يفقد الدّولة أغلبيّتها اليهوديّة، وطابعها اليهوديّ، آجلا إن لم يكن عاجلا، خاصّة وأنّ منابع الهجرة اليهوديّة إلى إسرائيل تعاني من الجفاف الواضح خلال السّنوات الأخيرة.إنّ الحفاظ على يهوديّة الدّولة يتطلّب فصلا جغرافيّاً، سياسيّاً وديمغرافيّاً حادّاً يسدّ الطّريق على اختلاط الإثنيّات، وكذلك على حلّ الدّولة الواحدة (ثنائيّة القوميّة أو المفدرلة) مستقبلا.في مواجهة هذا الموقف/الإلحاح الإسرائيلي، لا يكفي أن يقول الطّرف/الممثّل الفلسطيني: أرفض ذلك لأنّه يجحف بحقّ الفلسطينيّين داخل إسرائيل، ويسدّ الطّريق أمام عودة اللاجئين وأمام الدّولة الواحدة مستقبلا. بل عليه، ومن واجبه تجاه الأطراف المعنيّة، أن يضيف قائلا، بوضوح وبصوت عالٍ، ما يلي:إذا كنّا بصدد حلّ الدّولتين المتجاورتين بسلام، فلا نقبل بأقلّ من دولتين تكون كل منهما دولة ديمقراطيّة حقّة، تساوي بين مواطنيها في الحقوق (الفرديّة والجماعيّة على السواء)، دون تمييز أو تهميش، ودون إلغاء أو إقصاء. هذا الحقّ للفلسطينيّين داخل إسرائيل يقابله واجب على الطّرف/الممثّل الفلسطيني، لا يجوز التّعامي عنه أو السّكوت عليه.إذا كنّا بصدد حلّ الدّولتين المتجاورتين بسلام، وإذا كنّا نسلّم بأنّ دولة إسرائيل ستبقى بأغلبيّة يهوديّة للمدى المنظور، فلا ينتج عن ذلك ضرورة سدّ الطّريق بإحكام أمام عودة اللاجئين إلى "ديارهم" بأعداد لا تهدّد الميزان الديمغرافيّ الذي تظلّ كفّته راجحة لصالح اليهود في الدّولة. وفي المقابل، لا يرفض الطّرف/الممثّل الفلسطيني أن يبقى من يريد من اليهود، حسب شروط يتم تحديدها، داخل حدود الدّولة الفلسطينيّة المتجاورة بسلام مع إسرائيل. وتلتزم الدّولة الفلسطينيّة بدورها بمعاملتهم كمواطنين متساوين في الحقوق (الفرديّة والجماعيّة على السّواء).إذا كنّا بصدد حلّ الدّولتين المتجاورتين بسلام، وبكلّ منهما أقليّة إثنيّة من الطّرف الآخر، فهذا لا ينسجم أو يتوافق مع فصل جغرافي/سياسي/ديمغرافي حادّ كالذي تريده وتصرّ عليه حكومة إسرائيل حاليّاً. ومن جهة ثانية، على الطّرف/الممثّل الفلسطيني أن يؤكّد في هذا الصّدد على أهميّة تعاون وتكامل وتشارك الدّولتين (خاصة في تلك الأمور التي لا تقبل التّقسيم أو لا يجدر تقسيمها)، وكذلك على عدم سدّ الطّريق في وجه الدّولة الواحدة والتي قد ينجذب إليها الطّرفان، أو يضغط باتّجاهها الواقع، مستقبلا.وختاماً، ومن باب الإجمال:إذا كان الطّرف/الممثّل الفلسطيني يسلّم ضمناً ببقاء دولة إسرائيل ذات أغلبيّة واضحة من اليهود للمستقبل المنظور، فعليه أن يصرّ في ذات الوقت على أمرين هامّين هما:ضرورة إلغاء التّمييز، القانوني وغير القانوني، ضدّ الفلسطينيّين داخل إسرائيل.ضرورة عدم سدّ الطّريق أمام عودة لاجئين فلسطينيّين إلى دولة إسرائيل (على أن يظلّ اليهود أغلبيّة واضحة فيها). وفي جميع الأحوال، وليس لأسباب دعائيّة فقط، على الطّرف/الممثّل الفلسطينيّ أن يعلنها صراحة بأنّه لا يسعى إلى دولة فلسطينيّة خالية أو نظيفة من اليهود. فمن أراد من اليهود أن يكون مواطناً متساوي الحقوق في دولة فلسطينيّة ديمقراطيّة متجاورة بسلام مع إسرائيل، فليكن مرحّباً به. szeedani@planet.edu *أستاذ الفلسفة - جامعة القدس