ثمة شعور متعاظم في مصر الآن بأن الشعار الذي هتفت به حناجر ملايين المصريين أثناء الثورة بأن ’ الجيش والشعب إيد واحدة’ قد فقد الكثير من بريقه وألقه ولم يعد يثير ذلك الشعور الرائع بالتوحد والوحدة بين الشعب والجيش كما كان عليه الحال في بدايات الثورة. فعندما صدح الثائرون بهذا الشعار كان المقصود أن الشعب والجيش يد واحدة لاسقاط مبارك ونظامه بكل ما يعنيه من فساد وإستبداد. لكن الامور لم تجرعلى هذا النحو وساهمت حالة الارتباك والتخبط تارة والانفراد بالقرارات المصيرية في إدارة المرحلة الانتقالية تارة اخرى من قبل المجلس العسكري في خصم وتجريف جزء وافر من الرصيد الضخم للجيش وصورته في عقول ووجدان المصريين وبدأ يتسلل إلى نفوس هؤلاء الذين إستقبلوا دبابات الجيش بالورود، شعورمتزايد بأن الطريقة التي يدير بها المجلس العسكري الاوضاع تقود إلى تكريس بقاء النظام القديم وليس القطيعة معه كليا وبعد مرور ثمانية أشهر على الاطاحة بمبارك تبدو الفجوة بين المجلس وبين مختلف القوى السياسية والثورية، آخذة في الإتساع مالم تتم معالجة هذه الازمة وردم تلك الفجوة بشكل عاجل وعبر حوار حقيقي لايستثني طرفا من الاطراف ولا ملفا من الملفات لاسيما وأن الفترة الانتقالية التي كان يفترض ان تستغرق ستة أشهر ستطول اكثر من ذلك بكثير وفقا للجدول الزمني الذي أعلن لإجراء الإنتخابات البرلمانية وإعداد الدستور ثم الانتخابات الرئاسية وهي فترة طويلة ومقلقة بما تعنيه من بقاء العسكر في الحكم وإستمرار حالة الضبابية والارتباك وعدم اليقين بشأن المستقبل السياسي والاقتصادي للوطن وإنعكاسات ذلك على حياة الناس. والأخطر هنا هو إقحام الجيش في أعمال لا علاقة لها بمهامه الأصلية بل تدفعه دفعا للاحتكاك بالمواطنين والاشتباك معهم بصورة تسيء لصورته وتخصم من رصيده لدى الشارع الذي قد يستبدل سخطه على الشرطة كأداة للقـــمع القهر في العهد السابق، بسخط مماثل على الجيش والشرطة العسكرية وهوما يحدث فعلا وقد يتصاعد في الفترة القادمة طالما تمددت الأزمات وتعددت الحرائق وبقي جهاز الشرطة عاجزا أومتقاعسا عن القيام بواجبه. وسط هذا المشهد الضبابي والأجواء المتأزمة بين المجلس العسكري والقوى السياسية والجدل حول طريقة إدارة ملفات المرحلة الانتقالية، جاء الظهور المفاجيء للمشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري بلباسه المدني وسط القاهرة ليضيف مزيدا من الارتباك للمشهد المترتبك أصلا، ويحمل الكثير علامات الاستفهام حول ما إذا كان هذا الظهور إشارة ما أو بالون إختبار لرد فعل الشارع على إمكانية ترشح المشير للانتخابات الرئاسية . حجم التساؤلات التي أثارها ظهور المشير ببدلته السوداء الأنيقة وهو يصافح المواطنين بحرارة، كان كبيرا لدرجة لم يفلح معها النفي الذي جاء على لسان مصدر عسكري لوجود نية لدى الرجل لطرح نفسه مرشحا، في تبديد الشكوك أو وقف سيل الأسئلة عن حقيقة الرسائل التي حملها هذا الظهور في هذا التوقيت وعن أسباب تلك الحفاوة من قبل التلفزيون الرسمي بالحدث وتعمده تكرار اذاعة لقطات جولة المشير في شوارع القاهرة. ربما يقول قائل إن هناك مبالغة مفتعلة وتضخيما غير مبرر لظهور المشير بلباسه المدني وانه تم تحميله سياسيا بأكثر مما يحتمل وأن معالجة التفلزيون الرسمي للموضوع تدخل في باب النفاق والتملق الذي أعتاد عليه هذا الجهاز للحكام منذ عقود ولم يستطع التخلص من هذه العادة حتى الان رغم الثورة. . وقد يقول آخر إن من حق الرجل كباقي الناس أن يمارس نشاطه الانساني وان منصبه العسكري الرفيع لا يمنعه من أن يزور من يشاء وأن يرتدي ما يريد . كلا القولين له وجهاته ومشروعيته لكن ذلك لا ينفي المغزي السياسي اللافت لهذه الواقعة في هذا التوقيت، فظهورالمشير بهذه الطريقة جاء بعد يومين فقط من شهادته في قضية محاكمة الرئيس المخلوع بتهمة قتل المتظاهرين. هذه الشهادة، التي تسربت اجزاء كبيرة منها رغم حظر النشر،كانت في صالح مبارك وتبرئة ساحته من تهمة إصدار أوامر قتل المتظاهرين، بل ان أحد المحامين المدعين بالحق المدني ذكر أن المشير حرص طوال الشهادة على إستخدام لفظ ’ سيادة الرئيس’ وهو يتحدث عن مبارك المخلوع.وقد خلفت هذه الشهادة خيبة أمل كبيرة لدى جموع الشعب وخصوصا أسر شهداء الثورة التي كانت تتوقع ان تكون ضد مبارك . . فهل كانت زيارة المشير لوسط القاهرة وحرصه على التجول وسط الناس ومصافحتهم رسالة مصالحة للرأي العام ومحاولة لتحسين صورته مما علق بها نتيجة هذه الشهادة ؟. . ربما يكون ذلك صحيحا، وربما يكون صحيحا أيضا التفسير الذي ذهب اليه البعض بأن المشير بجولته بين جموع الناس دون حراسة أراد أن يبعث رسالة طمأنينة للرأي العام في الداخل والخارج بان الوضع الأمني في مصر على مايرام. وهناك طرف ثالث تحدث عن أن جولة الرجل وتودده للناس وحرصه على التقاط الصور معهم وتناوله الشاي بأحد المقاهي إنما يعكس بساطة الرجل وتواضعه وحرصه على التأكيد على عمق العلاقة بين المؤسسة العسكرية والشعب. بيد أن كل هذه التفسيرات لدلالة ومغزي هذا الظهور للمشير طنطاوي لا تكفي وحدها لتفسير حقيقة الامر ولا تعني أن التكهنات التي أثارها ذلك حول إحتمال ترشحه للرئاسة، ليست مشروعة أو لها ما يبررها خصوصا في ظل حالة عدم اليقين بشأن المستقبل السياسي لمصر ما بعد الثورة. بل أن هناك الكثير من الشكوك والتكهنات حول نية الجيش التخلي عن السلطة ومن بينها عدم تحديد موعد محدد حتى الآن لاجراء الانتخابات الرئاسية بشكل يدفع البعض للقول بأن سبب ذلك هو أن المجلس العسكري لم يستقر بعد على رأي بشأن المرشح المناسب، يدعمه في ذلك نفر من السياسييين الذين عرفوا بانتهازيتهم وتملقهم لمبارك وتحولوا بعد الثورة لتملق المجلس العسكري عبر التشكيك في أهلية وقدرة المرشحين الحاليين للرئاسة تارة أوالحديث عن حاجة مصر في هذه المرحلة لرئيس عسكري تارة اخرى. ومن هنا يمكن فهم حالة القلق التي أثارها ظهور المشير بلباس مدني والتكهنات عما اذا كان ذلك مقدمة لترشحه للرئاسة. وبغض النظر عن صحة هذه التكهنات من عدمها، فإن الأمر الأكيد الذي يدركه كل من يفهمون قواعد اللعبة السياسية في مصر والتي لم تتغير بعد، هو أن المؤسسة العسكرية تسعى لأن تكون لها كلمتها المؤثرة في إختيار الرئيس القادم لمصر إما بشكل مباشر عبر طرح مرشح من بين صفوفها، أو بطريقة غير مباشرة عبر التوصل لتفاهمات مع الرئيس المحتمل تضمن مصالح الجيش ومكانته وامتيازاته التي تحققت على مدى سنوات طويلة منذ ثورة 52، وتحافظ في الوقت نفسه على تأمين العلاقات مع الولايات المتحدة وتضمن إستقرار العلاقة مع إسرائيل وفقا لاتفاقية السلام الموقعة بين البلدين، فهذه الخطوط الحمراء التي لايبدو أن المؤسسة العسكرية قد تتسامح في تجاوزها. غير أن خطورة التمسك بمثل الحسابات التي تعود لعهد مبارك، أنها ربما لا تتفق وقواعد اللعبة السياسية الجديدة التي يراد ترسيخها بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وهي ان الشعب هو السيد . ولايتوقع من هذا الشعب أن يسمح بأن تسرق ثورته سواء ببقاء العسكر في السلطة بشكل مباشر، أو من وراء ستار عبر أعادة إنتاج نظام مبارك مجددا، وهذا مايجب أن يعيه كل من يفكرون بالانحراف عن مسار الثورة وهنا فان المسؤولية الوطنية تقتضي من كل مخلص لهذا الوطن وثورته أن ينصح وينبه القائمين على الحكم من خطورة الموقف وحساسيته الشديدة، ذلك لأن ترشيح اي وجه عسكري في هذا التوقيت أيا كانت درجة نزاهته ووطنيته لن يعني إلا شيئا واحدا وهو أن ما جرى في مصر لم يكن ثورة شعبية قدم فيها المصريون مئات الشهداء والاف الضحايا، بل كان إنقلابا عسكريا، وهذا ما لا يتمنى أحد حدوثه لانه سيقود إلى صدام بين المؤسسة العسكرية والشارع ستكون كلفته باهظة. كما أن ذلك سيفقد المؤسسة العسكرية مصداقيتها لدى الرأي العام وقد يأتي على ما تبقى من رصيد لها لدى الناس سيما وأنها تعهدت للشعب الذي وثق فيها، بتسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة وأكدت أنه لا نية ولا رغبة لها في البقاء . أما الثمن الأفدح من هذا كله هو أن هذا المسار سيفوت على مصر وشعبها فرصة تاريخية لكي تبني نظاما ديمقراطيا سليما يليق بها وبثورتها العظيمة. إن هذه الحقائق تضع الجميع مدنيين وعسكريين أمام أختبار حقيقي لمدى إيمانهم وإخلاصهم للثورة وأهدافها، فالقوى السياسية والثورية بمختلف اطيافها مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضي بالوقوف صفا واحدا ضد أي محاولة للالتفاف على الثورة مهما كان الثمن . أما القادة العسكريون فإنهم في لحظة تاريخية مطالبون فيها بان يثبتوا للشعب أنهم كانوا ومازالوا أهلا للثقة التي منحهم أياها عندما أوكل اليهم تحقيق مطالب الثورة ووضع أحلام وتطلعات المصريين، أمانة بين أيديهم وهذا لن يتأتى إلا بمخاطبة الرأي العام بأكبر قدر من الشفافية والمصارحة والوضوح لتبديد أي غموض ولطرد أي شكوك ربما تساورنا حول مستقبل مصروثورتها. وعلى المنافقين والمتملقين الذين أوردوا مبارك وعصابته موارد التهلكة والخزي، أن يكفوا عن نفاقهم للمجلس العسكري وللمشير، لأن الضحية هذه المرة ستكون مصر وثورتها ومستقبل الوطن برمته. ’ كاتب مصري