.مما لا شك فيه أن تقديم طلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة للسيد بان كي مون و الخطاب التاريخي و الاستراتيجي للرئيس محمود عباس يوم الجمعة الماضي, وما صاحبهما من رفض للضغوط الهائلة التي مورست على القيادة الفلسطينية و اصرار على الحق فى اللجوء الى المنظمة الدولية بعد فشل الاطراف الدولية في الضغط علي الاحتلال لالزامه بمتطلبات السلام و بعد انكشاف عورة هؤلاء الوسطاء و انعدام النزاهة و المصداقية لديهم, قد دشنا مرحلة جديدة في ادارة الصراع مع الاحتلال الاستعماري الاسرائيلي. هذه المرحلة الجديدة تتطلب رؤية جديدة تتعامل مع هذه المستجدات بأدوات جديدة, و مفردات جديدة, و استراتيجية واضحة تأخذ في الحسبان هذه المتغيرات و التحديات الجسيمة و الخطيرة التى ستصاحبها حتما, و ما يتطلبه ذلك من ضرورة الاستعدادات لكل السيناريوهات و التحديات المحتملة داخليا و خارجيا. ولكي تستطيع القيادة الفلسطينية الاستفادة من الزجم و التعاطف الدولي الذي بدا واضحا في الجمعية العامة للأمم المتحدة أثناء القاء الرئيس لخطابه الغير مسبوق في وضوحه و قوة حجته و تأثيره ليس فقط داخل أروقة الجمعية العامة و لكن في الشارع الفلسطيني و العربي و في تعليقات و تحليلات كبريات الصحف و الاذاعات و القنوات الاقليمية و الدولية, يجب على القيادة الفلسطينية و هي تدرس خياراتها و بدائلها المستقبلية أن تراعي حقائق ثلاث, لا يمكن القفز عنها أو عن أحدها حين يتم رسم أية استراتيجية للتعامل مع ملف الصراع مع الاحتلال الاستعماري: أولا: غياب دور امريكي مؤثر في العملية السياسية في الشرق الأوسط لمدة عامين على الأقل, نتيجة لانشغال الادارة الحالية لاوباما بالتحضير للانتخابات الرئاسية العام القادم, و بالتالى فقدها لأدوات الضغط على اسرائيل, هذا ان رغبت أصلا في ذلك, بحكم حاجتها للصوت اليهودي المؤثر في هذه الانتخابات, و انشغال اية ادارة قادمة بترتيب شئونها الداخلية و دراسة خياراتها تجاه الشرق الأوسط و التي قد تأخذ عاما أخر على الأقل, هذا ان رغبت أصلا في الولوغ مبكرا في هذا الملف الشائك, و بخاصة بعد التجربة المريرة للتدخل المبكر لاوباما, أو على الأقل هذا ما قد تنصح به الادارة الجديدة, مالم تحدث معجزة و يتم اعادة انتخاب أوباما.ثانيا: أن الحكومة الاسرائيلية الحالية ليست و لن تكون شريكا حقيقيا لصنع السلام العادل الذي يلبي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني, ولا حتى اليسير منها. و أن أية انتخابات برلمانية اسرائيلية في المدى المنظور, ان حدثت, لن تأتى بحكومة اسرائيلية أقل تطرفا أو أكثر استعدادا للتوصل الى سلام يلبي الحد الأدني من الحقوق الفلسطينية, نظرا لجنوح المجتمع الاسرائيلي تجاه اليمين و التطرف و نظرا لزيادة تأثير المستوطنين و الأحزاب المتحالفة معهم ليس فقط في صناعة السياسة الاسرائيلية و لكن أيضا, و هو الأخطر, في الجيش.ثالثا: أن الشعب الفلسطيني ما زال على عهده في الاستعداد للعطاء و لم تتغير أولوياته في التحرير و الانعتاق من الاحتلال و أن هذا الهدف يتقدم على أي هدف أخر سواءا كان معيشيا, وظيفيا أو اقتصاديا حتى وان حاول البعض تزييف هذه الحقائق عن طريق استطلاعات رأي موجهة أو صياغات غير بريئة لأسئلة محددة ترضي من أشرف على أو تكفل بتمويل مثل هذه الاستطلاعات لاظهار تغير في أولويات الفلسطيني لتصبح الراتب و الوضع المعيشي, مع عدم إغفال أهمية هذه الإعتبارات و الحاجات الأساسية . إن خروج عشرات و مئات الألاف من المواطنين الفلسطينيين لدعم القيادة في خطوتها بالتوجه لمجلس الأمن (و كان لهذا العدد أن يتضاعف لو سمح لأهلنا في غزة أن يعبروا عن قناعاتهم بدعم هذه الخطوة الشجاعة),رغم معرفتهم المسبقة بالتبعات المحتملة على وضعهم الاقتصادي و المالي نتيجة التهديدات الأمريكية و الاسرائيلية بوقف المساعدات المقدمة للسلطة و عدم تحويل عوائد الضرائب الفلسطينية التى يجبيها الاحتلال, تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الشعب العظيم ما زال على العهد و أنه حين يتأكد من أن القيادة تصدقه و لا تناور و أنها حددت اتجاه البوصلة بما يتلاقى مع طموحه و امانيه و ما يتفق مع حقوقه الغير قابلة للتصرف, فإنه على استعداد كامل لاحتضان هذه القيادة و مؤازرتها حتى لو كان هذا الموقف الوطني على حساب الراتب و الوضع الاقتصادي و أن القيادة تستطيع أن تراهن على موقف مشرف لا يقبل التشكيك حين تقرر خيارا يحتاج الى دور شعبي فاعل يساعد القيادة على تبني أو تفضيل خيار على أخر. و بناءا على هذه الحقائق و لتعزيز ألية اتخاذ القرار بما يكفل الاستفادة القصوى من الامكانيات المتاحة في تبني الخيار المستقبلي الأفضل لادارة ملف الصراع مع الاحتلال الاستعماري في المرحلة القادمة, يتوجب تبني استراتيجية واضحة لتعزيز الية اتخاذ القرار, الالتزام بالقرار المتخذ, شرح أسباب و دوافع تفضيل هذا الخيار على غيره من الخيارات المطروحة, أليات تنفيذ هذا القرار/الخيار, أدوات التنفيذ و المكلفون بالتنفيذ.مثل هذه الاستراتيجية,ايا كان القرار أو الخيار المتخذ لادارة الصراع في المرحلة القادمة, تتطلب العمل على ثلاث جبهات: داخلية/فلسطينية و عربية و دولية: فلسطينيا:أولا: العمل الجاد و الفوري على تعزيز الجبهة الداخلية الفلسطينية من خلال تنفيذ المصالحة الفلسطينية بعيدا عن المحاصصة بين فتح و حماس و الاتفاق على برنامج سياسي جامع يمثل الكل الفلسطيني و يمكن من تجنيد دول العالم أو غالبيتها الساحقة للوقوف الى جانب الحق الفلسطيني في المحافل الدولية بما لا يتعارض مع القانون الدولي و قرارات الأمم المتحدة (بما في ذلك المقاومة). إن وحدة حركة فتح و استعادة عافيتها أحد أهم دعائم قوة القرار الفلسطيني و كذلك الاتفاق على اجراء الانتخابات المحلية و التشريعية و الرئاسية و انتخابات المجلس الوطني حيثما أمكن ذلك في مواعيد محددة غير قابلة لاحتكار فيصل بعينه.ثانيا: توحيد الخطاب الاعلامي الفلسطيني و بخاصة ذلك المتعلق بالموقف السياسي/ التفاوضي أو اللا تفاوضي و الموقف من المقترحات المقدمة من الاطراف الدولية الفاعلة أو الحديث عن المواقف الفلسطينية أو أية خطوة باتجاه عمل سياسي او نضالي مستقبلي . ان تعدد الاراء و الاجتهادات و التسابق على الظهور الاعلامي يضعف من قوة المناورة الفلسطينية و يربك الساحة الداخلية و يثير تساؤلات جدية تتعلق بالمصداقية حتى مع الحلفاء و بمدي جدية أي توجه او قرار تتخذه القيادة. (وهذا بدا جليا في اروقة الامم المتحدة لولا ان حسم الرئيس الأمر بخصوص جدية التوجه لمجلس الأمن).و في ذات السياق الأعلامي يجب أن يراعي اختيار المفردات السياسية و القانونية من قبل المتحدثين الاعلاميين و من قبل الاعلام الفلسطيني لما لذلك من أهمية في ادارة الصراع على كسب الرأي العام الدولي. فمثلا لا يجب بعد اليوم أن تسمى المغتصبات في الأرض المحتلة بالمستوطنات بل يجب ان تسمى بالمستعمرات لأن المستوطنة لمن يستوطن الأرض و يعمرها لا لمن يهجر أهل الأرض و يغتصب أملاكهم بقوة السلاح.ثالثا: بناء مؤسسات الدولة: و هذا يتطلب استكمال بناء المؤسسات الوطنية مع التركيز على معالجة الخلل في الأداء و تناغم العمل بين المؤسسات و ليس داخل المؤسسة فقط, تعزيز الشفافية في الأداء و تعزيز ثقة الموظف, قبل الأخرين, بأنه جزء من الانجاز و شريك في النجاح و تفعيل دور المؤسسات الرقابية و على راسها المجلس التشريعي.إن من أهم عوامل بناء المؤسسة هو بناء العنصر البشري القادر على العطاء و الابداع و المؤمن بأن حقوقه مصانة من خلال نظام اداري يكفل لكل ذي حق حقه طبقا للقوانين و اللوائح و بعيدا عن الواسطة و المحسوبيةان تشكيل حكومة فلسطينية جديدة من كفاءات نزيهة ووطنية بعيدا عن المحاصصات الحزبية و أبناء و اقارب القيادات, مع عدم اغفال حقهم ان تم اختيارهم على نفس الأسس المطبقة على غيرهم, تحظي بالثقة الكاملة من المواطن الفلسطيني, و ليس فقط من الأحزاب المتحاصصة, هو أحد أهم عناصر بناء المؤسسة الوطنية.رابعا: ان الجهد الدبلوماسي الذي تحتاجه المرحلة المقبلة على الصعيد الدولي و من اجل تجنيد العدد الأكبر من الدول و الأحزاب و القوى السياسية الدولية (التى تتبادل أدوار المعارضة و السلطة في دولها بعد كل انتخابات برلمانية) تحتاج الى إعادة النظر في أداء السلك الدبلوماسي الفلسطيني و رفده بالكفاءات القادرة على القيام بهذه المهمة على اكمل وجهو في نفس السياق اعادة هيكلة وزارة الخارجية الفلسطينية و رفدها بالكفاءات السياسية القادرة على التفاعل مع السفارات و امدادها بالموقف السياسي و الرسمي من كل قضية و عدم ترك هذه الأمور للاجتهادات الشخصية أو القدرات الفردية للقراءة الدقيقة على أهميتها. عربيا:منذ انشاء السلطة الفلسطينية عام 1994 و ذوبان معظم, ان لم يكن جميع الفصائل و القوى الفلسطينية فيها, و بخاصة حركة فتح (و حماس في غزة بعد 2006), تراجع مدى التواصل بين هذه القوى الفلسطينية و الأحزاب و القوى العربية. اللهم باستثناء بعض الفعاليات الأدبية و انشطة مقاومة التطبيع واقتصرت العلاقة, في مجملها, على علاقة السلطة مع أنظمة الحكم العربية و اصبحت السلطة ينظر اليها كجزء من النظام العربي الرسمي, في معظم الأحيان. و قد ساهم هذا الوضع وأيضا الانقسام الفلسطيني بعد سيطرة حماس بالقوة على قطاع غزة بتراجع المواقف العربية, في احيان كثيرة عن التفاعل المطلوب مع فلسطين و قضيتها العادلة.إن المرحلة القادمة تتطلب اعادة التواصل مع القوى و الأحزاب العربية و منظمات المجتمع المدني لكي يتم التأكيد على أن فلسطين هي قضية العرب الأولى و المركزية و يجب الاستفادة من ثورات الربيع العربي لاعادة التأكيد على أهمية ان تكون فلسطين حاضرة في كل تحرك شعبي الى جانب المطالب المشروعة للحراك العربي.مثل هذا التواصل يتطلب وجوها جديدة تمثل تطلعات الجيل العربي و ليس مسئولون حكوميون يذكرون الشباب العربي بأخرين تم التخلص منهم في بلاد العرب أو في الطريق الى ذلك. كما يتطلب ذلك ان يتمثل في هذه الوفود مختلف التيارات السياسية و الفكرية, على أن تكون رسالتهم واحدة, لكي يحققوا الاجماع و التوافق بين الشباب العربي على برنامج عمل يخدم فلسطين و لا يتشتت على الأحزاب و الفصائل الفلسطينية.ان مليونية واحدة تخرج في عاصمة عربية لدعم الموقف الفلسطيني في مواجهة التهديدات الامريكية و الاسرائيلية لكفيلة بأن تجبر هذه القوى على دراسة أية خطوة قد تثير غضبا عربيا من اجل فلسطين و أن تكذب الروايات و المزاعم التى تصر على ان الثورات العربية قد انطلقت فقط لأسباب مطلبية ومعيشية,على أهميةذلك, و ضد فساد الأنظمة و من اجل الديمقراطية و لا علاقة لها بقضية فلسطين و استمرار الاحتلال لأرضها.دوليا:مما لا شك فيه ان الأشهر السابقة قد شهدت تحركا فلسطينيا مكثفا سواء من قبل الرئيس أو أعضاء في القيادة الفلسطينية و هو ما أسهم في زيادة التفهم الدولي لعدالة التوجه الفلسطيني للأمم المتحدة و ساهم أيضا في اعتراف المزيد من الدول بدولة فلسطين او برفع درجة التمثيل الفلسطيني لديهاالا أن مثل هذا التحرك على أهميته لا يجب أن يكون موسميا أو عند الحاجة فقط, بل يجب أن يكون ضمن رؤية استراتيجية متواصلة و دائمة لكي يحقق الأهداف المرجوة ليس فقط في سعينا العادل للحصول على دولة مستقلة و لكن أيضا لبناء علاقات صداقة دائمة تساهم في بناء مؤسسات دولتنا العتيدة و بناء اقتصاد قادر على أن يفي باحتياجات هذه الدولة بما يمكنها من الاستغناء عن المساعدات المشروطة بتنازلات سياسية و بما يساعدها على خلق تنمية حقيقية مستدامةمثل هذه الرؤية تتطلب أن نختار بعناية سفراءا قادرين على مثل هذا التحدي و مؤهلين للتواصل ليس فقط مع الحكومات في هذه البلاد و لكن أيضا مع الأحزاب و القوى السياسية. مؤسسات المجتمع المدني,الهيئات القانونية و الأكاديمية, الغرف التجارية و جمعيات رجال الأعمال و البرلمانيين و الإعلاميين و الشخصيات العامة.كما يتطلب ذلك التواصل الشبابي مع الشباب في دول العالم على أن يتم اختيار من يصلح ليمثل هؤلاء الشباب علما و خلقا و انتماءا بعيدا عن الاختيار العشوائي لمجموعات يكون همها الأول هو السفر و السياحة و يكون ضررهم و الانطباع السئ الذي يتركون عبئا اضافيا بحاجة الى جهد أكبر لمعالجة أثارههذه بعض أفكار قد تصلح لبداية نقاش جدي حول استراتيجية عمل مستقبلية و لا شك أنها تحتاج الى اضافات و نقاشات مستفيضة لاثرائها و البناء على ما يمكن أن يمثل نقطة أو نقاط انطلاق نحو عمل جدي مغاير لمواجهة استحقاقات و تحديات المرحلة المقبلة .