لماذا كان الرئيس مزهواً إلى هذا الحد وهو يلقي خطابه التاريخي ؟؟ فهو الأضعف بين الرؤساء بمقاييس الدول، هل هي لحظة الشعور بأدائه الواجب الوطني بامتياز ؟ أم لأنه تحد للإمبراطورية الكبرى في عقر دارها وكان خطابه رداً على خطاب زعيمها الذي تحدث نيابة عن ليبرمان ؟ أم لأنه قارئ جيد للتاريخ ومساره والمستقبل الذي يسير بهدوء في صالح الخيارات الفلسطينية، فيتكئ على قراءته تلك التي أعطته ذلك الشعور المترجم بابتسامات وثقة بخياراته المفتوحة وخيارات إسرائيل المسدودة، وأن كل المفاتيح في جيبه وسيعود الجميع للبحث عن الحل معه فقط.السياسة لا تقاس بحسابات هندسية بل بحسابات الكيمياء وملاحظة العناصر الجديدة والمتغيرات وعامل الزمن والتفاعل، فهي كائن حي متغير باستمرار، لا يقبل الجمود وقد جرت في نهرها مياه كثيرة في السنوات القليلة القادمة، بعضها أحدث انفجارات هزت مختبر التاريخ وبعضها أنتج مواد جديدة، هذا ما لم تقرأه الولايات المتحدة الآخذة بالضعف بعد أزماتها الاقتصادية، وتعجز عن قراءته إسرائيل التي تعاني عزلة متزايدة وأزمة اقتصاد وأمن، وتغيرات في المحيط الإقليمي في غير صالحها وبقيت في حالة ثبات على مواقفها، فيما الفلسطيني كان يتابع تغيرات كيمياء السياسة وتفاعلها، ليذهب للأمم المتحدة، في لحظة اعتقد أن الظروف نضجت لصالحه، وبإمكانه أن يشهر بطاقته الحمراء في وجه الجميع بثقة مطلقة، ودون خوف حتى من "فيتو" وغضب أميركي كان إلى حد قريب يوقف رئيس دولة عن العمل بمجرد مكالمة هاتفية .إلى أن تتجه إسرائيل التي تصر على إدامة الاشتباك مع الفلسطينيين بما يتعارض مع المصالح الإسرائيلية نفسها، وتسدي خدمة كبيرة للفلسطينيين حين ترفض توقيع اتفاق تسوية معهم وتترك للزمن أن يسير في صالحهم، فكلما تقدم الزمن يزداد ضعف الموقف الإسرائيلي ويزداد الموقف الفلسطيني تصلباً وهو يلتقط أوراق قوة جديدة تعرز موقفه، فيما تسقط من إسرائيل أوراق قوتها واحدة تلو الأخرى .بعد تسلمه الحكم بعشرة أشهر استدعى الرئيس الأميركي باراك أوباما ست منظمات يهودية يسارية فاعلة في الولايات المتحدة تشكل جزءاً من اللوبي اليهودي هناك، منها منظمة السلام الآن وجي ستريت وأبلغهم رغبته بالعمل على إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، حتى كما قال الرئيس" ينقذ إسرائيل من نفسها" فالتزايد السكاني العربي يهدد الدولة وهو ما لا تفهمه القيادة الإسرائيلية، ولأنه الحليف الاستراتيجي لإسرائيل كان عليه أن يحميها من خلال فصل الفلسطينيين عنها وفض الاشتباك من خلال إقامة دولتين، وهذا ما عبرت عنه خطاباته في البدايات والتي حملته لجائزة نوبل .ويبدو أن الرجل أدرك أن الغباء الإسرائيلي يصل إلى الحد الذي لا تفهم فيه تلك الدولة مصالحها وإلى الحد الذي سيطيح به في الانتخابات القادمة، الأمر الذي أحدث انعطافة في موقفه وكأن لسان حاله يقول "اذهبوا للجحيم "ولن يتحدى دولة من أجل مصالحها إذا لم تكن هي أكثر حرصاً على ذلك، وهذا الاستنتاج الذي توصل إليه الرئيس الأميركي كان يدرك أنه الوحيد القادر على إنقاذ إسرائيل من حركة التاريخ الصاعدة، بعد أن كلف اثنين من أهم علماء الديمغرافيا في العالم بدراسة حالة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين من هذا الجانب ليخرجوا باستنتاجات سوداوية بالنسبة لإسرائيل وانحسار خياراتها وأن المستقبل يسير في صالح الشعب الفلسطيني .الجانب الفلسطيني حسم أمره قائلاً على لسان الرئيس " لن يستمر الوضع الحالي ... كفى .. كفى .. كفى " وقد هدد الرئيس بشكل مبطن بورقة القوة الأكبر حين تحدث عن إنهاء السلطة، وبدأ بعض مساعديه بعد الخطاب بالحديث عن وهميتها وحصول الرئيس على إذن لتنقله من مجندة إسرائيلية ليفسروا ما قصده رئيسهم بأن مفاتيح السلطة في الطريق إلى التسليم، وهذا ما قاله الرئيس قبل سفره إلى نيويورك للمبعوث الأميركي هيل حين اشتدت الضغوطات والتهديدات قال له " أبلغ الإسرائيليين أن يكونوا جاهزين لاستلام مفاتيح السلطة ".أما الخيارات الإسرائيلية وعندما يعلن عن استحالة دوام الحال فكلها سيئة حين يقلب الفلسطيني الطاولة في وجهها، فالخيار الأول حين تنتهي السلطة سيئ لإسرائيل العودة كدولة احتلال تتحمل مسؤولية ملايين البشر في ظل عجزها الاقتصادي عن تحمل مسؤولية الشعب الإسرائيلي وانطلاق، مقاومة أكثر تحررا من معادلة ومقايضة "الحكم بالأمن " والتي سعت إسرائيل لتكريسها على مدى السنوات الماضية .وحين تتحمل إسرائيل مسؤوليتها كدولة احتلال بحكم الفلسطينيين فإن خياراتها تزداد سوءا مع التزايد الديمغرافي كما أعلن مركز الإحصاء الفلسطيني في تقرير العام الماضي بأنه في العام 2014 سيتساوى عدد الفلسطينيين اليهود في فلسطين، وبدءا من ذلك التاريخ بعيد استمرار وتيرة التزايد الفلسطيني ونضوب مخزون الهجرة لدى اليهود، تقف إسرائيل أمام حقيقة صعبة حين يصبح عدد الفلسطينيين أكثر من عدد اليهود وتتحكم الأقلية اليهودية في الأغلبية، فإنها تقف على عتبة "الإبرتهايد" العنصري كمقدمة لنسخ تجربة جنوب أفريقيا التي انتهت بسيطرة الأغلبية السوداء على الحكم بعد عزلها من جميع دول العالم، أو أن تعزل كدولة "ابرتهايد" هذا هو مستقبلها، وأحد الخيارات التي ستطرح حينها أو يرفعها الفلسطينيون كشعار هو الدولة ثنائية القومية والتي تصيب الإسرائيليين بالفزع لمجرد ذكرها، حيث تقضي على يهودية الدولة، وهو ما أشار إليه أكثر متطرفي الحكومة ليبرمان حين تحدث عن انحسار الخيارات أمام إسرائيل، حيث تهدد يهودية الدولة .ما فهمه الرئيس الأميركي ولم تفهمه حكومة اليمين في إسرائيل هو أن أفضل الخيارات بالنسبة لها هو فصل بين الشعبين والموافقة على إقامة الدولة الفلسطينية، ربما أن ذلك الخيار أشار إليه بعض قراء السياسة في إسرائيل حين رفعت خمسون شخصية أكاديمية إسرائيلية، منهم حائزون على جوائز عالمية وإسرائيلية، توصية نشرتها ببيان دعت حكومة إسرائيل إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وآخرهم رئيس الشاباك الأسبق عامي أيلون المرشح السابق لرئاسة حزب العمل، والذي دعا حكومته إلى التصويت لفلسطين في الأمم المتحدة من أجل مصلحتها ولتحافظ على أغلبيتها اليهودية إن أرادت أن تستمر كدولة يهودية .العزلة الدولية آخذه بالازدياد على إسرائيل بشكل ملحوظ في العامين الأخيرين، يقابله انفتاح فلسطيني على العالم، ربما أن رمزية ذلك ظهرت بشكل واضح من خلال ما قوبل به خطاب الرئيس عباس من تصفيق حار مقابل بردود الاستماع لخطاب نتنياهو، الأمور تسير باتجاه صاعد لصالح الفلسطينيين يقابلها خط بياني هابط مع إسرائيل .إذن، لا مجال للقلق الفلسطيني الذي بدأ يصعد معلنا انتفاضة أولا على الانحياز الأميركي كوسيط، حين بدأ لأول مرة بالمبادرة السياسية خارجاً من حالة السلبية التي ميزته خلال الأعوام الماضية كطرف متلقٍ للسياسة ليتحول إلى صانع سياسة، وحين يكون مسار التاريخ بهذا الوضوح على إسرائيل أن تبحث عن حبل النجاة فيما الفلسطيني يسند ظهره بثقة أن أوراقه أقوى، فهل هذا ما قرأه الرئيس الفلسطيني حين تحدث بثقة وهو يستعيد مجد ياسر عرفات في نفس المكان ؟ حين هدد بإنهاء السلطة وليبحث الآخرون عن حل ...!!! Atallah.akram@hotmail.com