أزال الرئيس أبو مازن، في خطاب مساء الجمعة، أية شكوك حول تصميم الفلسطينيين على التوجه إلى الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي للحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة. هذا الخطاب المفعم بالإرادة والتحدي والإصرار أعاد للقيادة الفلسطينية هيبتها وقدرتها على مواجهة الضغوط والتهديدات، دون الانسياق وراء الشعارات الخادعة والآمال الموهومة، مع إدراك تام للمخاطر والعقبات والتحديات، فالمعركة السياسية مفتوحة بلا حدود، وسقف التوقعات يأخذ في الاعتبار المواقف المختلفة ذات الشأن بكل أطراف هذه المعركة.لم يوهمنا أبو مازن، أن عضوية فلسطين في المنظمة الدولية في حال تحققها ستنهي الصراع وتعيد الأرض واللاجئين، ولم يوهمنا أن الأمر ببساطة باتخاذ القرار، بل وضعنا كشعب أمام الحقائق كما هي دون تهوين أو تهويل، ويجيب عن كافة التساؤلات المثارة حول تداعيات هذا الاستحقاق وتأثيراته المحتملة على كافة ملفات الصراع، مستفيداً من وقوف الشعب الفلسطيني داعماً ومسانداً وشريكاً في هذا التوجه.ينزع أبو مازن، بهذه السياسة، التفرد الأميركي المطلق بالملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ويعيد للمجتمع الدولي دوره الأساسي في إدراك مسؤوليته عن قيام دولة إسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني وعدم التزام المنظمة الدولية بتنفيذ قراراتها بهذا الشأن، مؤكداً أن منظمة التحرير الفلسطينية لا تزال وستظل الممثل الوحيد والشرعي للشعب الفلسطيني، فليس هناك من تعارض بين المنظمة والدولة، خاصة أن هدف منظمة التحرير الفلسطينية هو قيام الدولة، وليس هناك من خوف أو قلق على مسألة اللاجئين، إذ إن القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية تشير بوضوح إلى عودتهم إلى بيوتهم وأراضيهم وأملاكهم التي نزحوا عنها، وأن هذه المسألة لن تنتهي مع الدولة، إذ إن لاجئي الدول القائمة الآن فعلاً، يظلون لاجئين حتى مع وجود دولة تحمل اسمهم ويحملون هويتها وجنسيتها، وإذا كان من الصحيح أن تدرس كافة المخاطر والمحاذير، فإن الأكثر صحة ألا يتخذ من ذلك تبرير لتأكيد وجهة النظر المعارضة بهدف رفض التوجه الفلسطيني لمجرد الرفض أو للمناكفة التي باتت تأخذ صفة الظاهرة في العلاقات الفلسطينية الداخلية.ليس هدف هذا التوجه هو حصار إسرائيل، بل حصار سياستها، هكذا قال أبو مازن في خطابه مساء الجمعة، لكن إسرائيل محاصرة فعلاً بفعل سياستها وعنجهيتها من ناحية، وبفضل تأثيرات "الربيع العربي" وتحولاته على الخريطة السياسية في المنطقة، التوجه إلى المنظمة الدولية في ظل مثل هذا الحصار على إسرائيل، يشكل استجابة منطقية للرأي العام في الخارج، واستثماراً حقيقياً لنتائج الثورات العربية المتلاحقة.ولكن، ماذا لو استجابت القيادة الفلسطينية للضغوط الهائلة التي أقدمت عليها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وتراجعت عن التوجه إلى المنظمة الدولية، ماذا سيقال حينئذ عن أبو مازن، أعتقد أن جعبة الاتهام لن تخلو من كلمات مثل خيانة القضية الوطنية والتنازل عن الثوابت والخاضع للإرادة الإسرائيلية الأميركية، وما شاكلها من اتهامات باتت مدرجة على لوائح الاتهامات المتكررة، ولن يغفر لأبو مازن مثل هذه الجريمة النكراء وسيتخذ البعض منها، منبراً لتأكيد اتهاماته السابقة وتبرير مواقفه الحالية واللاحقة.لم يتوان الإسرائيليون كما الأميركيون، من اتخاذ كافة الخطوات لدفن هذا التحرك الفلسطيني نحو الأمم المتحدة، الضغوط السياسية كما المالية، كما التهديدات الإسرائيلية حول إجراءات على الأرض، كل ذلك، نظراً للمخاطر التي يحملها هذا التوجه على الطرفين، فالولايات المتحدة التي حاولت أن تصبح مقبولة لدى الشعوب العربية بعد فوز أوباما، وبعد مشاركتها وتأييدها لـ "الربيع العربي"، باتت قلقة من سياستها إزاء الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي ذلك أن أي إجراء، مثل استخدام "الفيتو"، سيلحق بها أضراراً جسيمة، أقلها نسف كل الجهود التي بذلتها من أجل استعادة بعض شعبيتها في المنطقة العربية، لكنها في الوقت ذاته، لا تستطيع أن تترك إسرائيل تخوض حرب المواجهة مع الفلسطينيين، خاصة وأن الرئيس أوباما يسعى إلى ولاية رئاسية ثانية وهو بأمسّ الحاجة إلى الدعم الإسرائيلي، في هذه الحالة، من الأفضل ألاّ تضطر إدارته إلى استخدام "الفيتو"، وذلك، بتراجع الفلسطينيين عن هذا التوجه، المبعوثان الأميركيان، روس وهيل ناقشا هذا الأمر أكثر من مرتين خلال الأسبوع الأخير مع الرئيس عباس الذي لن يتلق منهما أي جديد يقنعه بالعودة عن قرار التوجه إلى الأمم المتحدة، بل وحسب بعض المصادر الإعلامية، فإنه وجد تراجعاً واضحاً عن مواقف سابقة لصالح إسرائيل، ولعل اختيار الرئيس لمساء الجمعة الماضي لإلقاء خطابه التاريخي، كان مرتباً بعد اجتماعه الأخير مع المبعوثين الأميركيين، اللذين حملا معهما من ضمن ما حملا، اشتراطات تعيق جهود أبو مازن لإعادة الوحدة للصف الفلسطيني وإنهاء الانقسام، وربما هذه الاشتراطات هي التي دفعت الرئيس الفلسطيني إلى تأكيد التوجه نحو المنظمة الدولية، أكثر من أي وقت مضى لإدراكه أن هذه الأطراف لا تهدف سوى إلى إضعاف الحالة الفلسطينية وتراجع قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة الاحتلال.قد لا يتغير أي شيء على الأرض، حتى بعد الحصول على العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، مع استبعاد ذلك، لكن ما يتغير هو عودة الثقة بالسياسة الفلسطينية وقدرتها على تحدي الضغوط ومواجهة التهديدات، بل وتحسين أداء الجانب الفلسطيني في حال استئناف المفاوضات، فاللجوء إلى خيارات أخرى، يخفف من سيطرة الراعي الأميركي على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بل إن هذا التوجه، يزيد من حجم البعد الفلسطيني في الثورات العربية ويضع هذا الملف ببعده القومي على أجندة هذه الثورات في حين أن هذه الأجندة لا تزال متوقفة عند الأبعاد المحلية والقطرية.وبصرف النظر عن النتائج، مع أهميتها الكبرى، فإن مجرد التوجه إلى المنظمة الدولية هو إنجاز فلسطيني بامتياز، ذلك أنه يفتح معركة سياسية لا حدود لها، قد تعيد للفكر السياسي الفلسطيني دوره المفقود، من خلال حالة الجدل الكبيرة التي انطلقت في الآونة الأخيرة، وعلى الرغم من اعتقادي بأن هذا الفكر السياسي لم يكن يلعب دوراً في السياسة الرسمية، فإنه قد آن الأوان، لرسم السياسات والمنطلقات على أساس من هذا الفكر، الذي أعتقد بين وقت وآخر، بأنه غير موجود في الأصل!.Hanihabib272@hotmail.com - www.hanihabib.net