في يوم صيفي جميل من أيام بيت لحم.. وفي القاعة العملاقة، التي اتسعت لاعضاء المؤتمر العام السادس لحركة فتح، وضيوفهم ومساعديهم وقادة حملاتهم الانتخابية. اقيم احتفال عاطفي، بمناسبة ما اعتبر آنذاك النجاح التاريخي للمؤتمر، وغطى أثير بيت لحم صوتٌ جماعي مؤثر.. غنى اغنيات فتح القديمة الشبيهة بخمر الجنة المعتق. مثل "أنا إبن فتح ما هتفت لغيرها، ولقد كسرت القيد قيد مذلتي، وغلابة يا فتح"، وبعد انتهاء وصلة الغناء العاطفي الذي غالبا ما يخرج من القلوب قبل الالسنة ، بدأت سلسلة من المؤتمرات والمقابلات الصحفية ، اداها الفائزون بعضوية اللجنة المركزية، تضمنت بمجملها وخلاصاتها، وعودا واثقة بالتغيير وترتيب اوضاع الحركة ، وتفعيل نفوذها الذي كان مطلقا في زمن عرفات.. وخلف والوزير وغيرهم، اضافة الى تصريحات وصلت حد الوعد بتغيير جذري في الاتجاه، بعد ان التهمت اوهام التسوية ومغامرات اوسلو كل مميزات الحركة وعلاماتها الكفاحية الفارقة. لقد فُهم الفرح الغامر في ذلك اليوم التلحمي الجميل، على انه منطقي وبديهي، ولا مجال لتوقع غيره، فالسيد محمود عباس " ابو مازن" توج رئيسا للحركة باجماع اعضاء المؤتمر والضيوف وكل من حضر. وبعده بأيام فاز تسعة عشر عضوا بلقب اعضاء اللجنة المركزية، واكثر من مائة فازوا بعضوية المجلس الثوري . لم يكن الفرح لمجرد اعتقاد الفائزين بانهم حصلوا على فرصة وشرعية قيادة التغيير المنشود في واقع الحركة ، وانما لسبب اكثر وجاهة، وهو ان من فاز بعضوية اللجنة المركزية تخصيصا، اصبح من خلال اللقب نظيرا لياسر عرفات وصلاح خلف وخليل الوزير وخالد الحسن وابو علي اياد، وغيرهم من المؤسسين الخالدين، الذين منحوا فتح قبل تشريفهم لقب اللجنة المركزية تميزا في العطاء حتى صارت افعالهم في الواقع اكبر من اوزان القابهم ودخلوا التاريخ وادخلوا فتح معهم، تاركين ورائهم بعد الاستشهاد تراثا تتغذى عليه الاجيال، وفي حالات كثيرة لم يتبقى لدى الحركة العملاقة ما تفاخر به الا هذا التراث في زمن عزت فيه الانجازات. وبتأثير مناخ التفاءل، وتأجج العاطفة والشعور الطاغي بأن التغيير والتطوير اخذ مجاله بالقيادة الجديدة، ولكي لا يشعر الفلسطينيون بفراغ غياب التاريخيين الكبار قدم الرئيس عباس مرشحي فتح لشغل مواقع الشهداء في اللجنة التنفيذية وفي مقدمتهم ياسر عرفات وفيصل الحسيني، فحصل الدكتور صائب عريقات على خلافة عرفات في الموقع بترشيح صريح من الرئيس عباس، وحصل السيد احمد قريع على خلافة فيصل الحسيني بانتخاب الحاضرين من اعضاء المجلس الوطني، وجرى احتفال عاطفي ولكن اقل ازدهارا من احتفال بيت لحم، وقال الرئيس عباس يومها، ان فتح اكملت مهام تجددها ونهضتها وان المنظمة كذلك. أي ان القطار وضع على السكة ومضى في طريقه ناهباً القضبان بعافيته وقوته واندفاعه واننا سنرى خلال اشهر لن تتجاوز الثلاثة او الاربعة وضعا فلسطينيا داخليا شديد القوة والتماسك، وقد كلف السيد ياسر عبد ربه بهذه المهمة. كانت اياما زاهرة بحق، تجدد فيها الامل، واكتملت مقومات القوة والفاعلية في فتح والمنظمة ، اما السلطة وليدة الاب الفتحاوي والام" المنظماتية" فلابد بعد هذا الاصلاح الشامل والمتين والمضمون النتائج، من ان تشهد هي الاخرى تغييرا وتجديدا حتميين. لتصبح الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف على مرمى البصر، ولن يبقى الا ان تجهز الاعلام التي سترفع وفق آمال الرئيس الراحل على مآذن القدس وابراج كنائسها واسوارها العتيقة، التي اعتدى عليها الاحتلال باضائة الكترونية مهما سطعت تظل خافتة امام الوعد الجديد. وحين ينطلق فرح كهذا ووعد في زمن كادت فيه الامال تتبدد امام قسوة الواقع.. فان الفلسطينيين الطيبين لا يملكون الا مجاملة افراح قياداتهم واولي امرهم، ففرحوا.. وراهنوا وانتظروا. في ذلك الوقت خرجت اصوات خافتة، بدا كما لو انها تتسلل من بين صخب الاحتفال.. حذرت على استحياء من الافراط في التفاؤل واعتناق اليقين بان الغد افضل من اليوم، وان بعد غد هو اليوم الموعود لزوال الغمة. وفي حينه اسكتت هذه الاصوات النشاز ووصفت بانها ما انطلقت الا لإفساد الانجازات التاريخية التي تحققت دفعة واحدة، وفي مدة لا تتجاوز الشهر الواحد، وقيل الكثير في وصف هذه الاصوات ما اضطرها الى السكوت فمن سيواصل المجازفة بافساد الانجازات التاريخية والتشكيك بها؟؟ بدأت ترتيبات متحمسة لانجاز المهام التي لم تنجز بفعل جمود وعدم تجدد الاطارات القيادية الاولى في فتح والمنظمة، وتوزعت المهام على القادة الجدد، واستبشرت الوحدة الوطنية خيرا بحوار جديد لابد وان يفضي الى استعادة وحدة الوطن، أي استعادة غزة " السليبة" من قبضة الانقلاب، وعما قريب سنحتفل بالذكرى السنوية الرابعة لولادة الحوار الوطني ولو جازف احد "الغربان" بالسؤال وماذا عن النتائج؟ سنقول له ولم العجلة.. ان الله سبحانه وتعالى خلق الكون في سبعة ايام والجميع يعرف كم يختلف طول اليوم الالهي عما تعدون! اما المنظمة التي تجددت وحصلت على مدى زمني لتجديد اطاراتها وادائها تحت وعد قطع امام المجلس الوطني " دورة المرحوم المغفور له سمير غوشة" أي دورة النصاب القانوني الذي لو توفي عضو اخر لانتهت شرعية منظمة التحرير وفق نظامها واعتباراتها. المنظمة هذه حصلت على مبنيين فاخرين، الاول للجنة التنفيذية ذي واجهة زجاجية تجسد الصلة بين المبنى والمعنى. والثاني للمجلس الوطني في حي الماصيون المطل على القدس، بسعر تقشفي لم يزد على المليوني دولار امريكي. اما السلطة.. أي الحكومة، فقد تاهت بين رئيس وزراء خاضع للمساومة على موائد الحوار السرمدي المتواصل في معظم عواصم العالم فيما يشبه السياحة السياسية، وبين رؤساء وزراء محتملين، قد نلجأ الى سحب على طريقة اليانصيب، لمعرفة أي منهم سيجلس في المبنى المطل على القدس، ليقول لموظفي السلطة المائة وسبعين الفا اصبروا وصابروا فالقدس تستحق ان تعيشوا على نصف الراتب، بل وتستحق ان لا تقبضوا أي راتب، فشعب فلسطين هو شعب العطاء وليس الاخذ، وان لم يضحي موظف السلطة براتبه فمن يقدم بعد ذلك على التضحية بحياته؟؟! او ربما يقول خصوصا اذا كان من المتحمسين والمراهنين على الذهاب الى الامم المتحدة إنا سنحصل على دولة في نيويورك وكلها كم سنة لا يعلم عددها الا الله، ننقل المقعد من الامم المتحدة الى فلسطين "ويا دار ما دخلك شر"، وبعدها لن يكون الموظف بحاجة الى راتب "فلكل اجل كتاب".نعود الى بيت القصيد ... فتح.. وهنالك مقولة صادقة مائة بالمائة، ولا تحتمل أي تأويل او تشكيك ، مقولة مفادها. اذا صلحت فتح صلح الحال في الوطن. وهذا القول لم يولد فقط من احشاء حقائق التاريخ التي تشير الى ان فتح هي مؤسسة وقائدة المرحلة الوطنية الفلسطينية، والتي عمرت حتى ايامنا هذه بما يقارب النصف قرن، ولكن لانها من طرحت مشروعا وطنيا على اسنة الرماح في مرحلة ما.. وعلى موائد التفاوض والعمل السياسي في معظم المراحل بما فيها المرحلة الراهنة. ولقد صدقها الفلسطينيون في الاول والتالي، وبوسعنا تخيل حجم الخراب الذي يصيب الفلسطينيين لو فشلت. ثم ان فتح لم تكن يوما حركة او تشكيل يضم اعضائه فقط ، بل ان اعضاء فتح اقل عددا وامكانات بكثير من انصارها في فلسطين والعالم العربي والعالم اجمع. فماذا سيحل بهؤلاء الانصار لو تمادى الخراب في فتح وعزت سبل الاصلاح والتجديد والانجاز. الاجوبة من كل الجوانب، تجسد بديهية وحقيقة ان فتح لو صلحت يصلح حال الوطن، ولا يعود القول مجرد قول، او فقرة من نشيد او شعار يتداول ارتجالا.. انه الحقيقة – على الاقل في هذه المرحلة التي لم تنتهي بعد. ما هو حال فتح الان؟؟ هل هي قريبة من الامال التي انطلقت من القاعة العملاقة في بيت لحم يوم الافتتاح ويوم الاختتام ويوم الاحتفال الزاهر؟ هل هي افضل حالا مما كان الامر عليه ليس في زمن عرفات وخلف والوزير .. بل في زمن ما قبل المؤتمر رغم اقتناعنا بسوء الوضع انذاك؟هل فعلا وضع القطار على السكة الصحيحة وامتلاءت حاوية الفحم بالامل والقوة والاندفاع؟ هل تجددت؟ هل تفعلت اطاراتها وتعاظم نفوذها؟ هل انجزت كل ما وعدت او نصفه او بعضه؟ هل استعيدت من الذاكرة الى الحاضر صورٌ آدمية تجسد مستوى عرفات وصلاح خلف وخليل الوزير؟ ان الناس تقارن وتقوّم.. قد لا تقول رأيا صريحا من قبيل الاحتشام. الا انها تتصرف، بحيث لا يفاجأ بمردود تصرفها الا الذين لا يرون الا صورتهم في المرآة، ولا يعبأؤن بأي امر اخر.. لا جواب عندي او مني عن هذه الاسئلة جميعا، لان أي جواب اتقدم به سيكون حتما اقل بلاغة من جواب الاخ امين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، حين سأله عوني المشني بعد عام ونصف من انتهاء المؤتمر السادس.. يا اخ ابو ماهر اين التطور بعد المؤتمر؟ اين التجديد؟ اين الانجازات؟ فاجاب بكل ما لديه من خبرة تاريخية توفرها عضوية خمسين سنة بالتمام والكمال في اللجنة المركزية.. لم العجلة فنحن لا نزال " نُسخِّن" وحين انتشر هذا القول بين ناس فتح، انبرى لسان حالهم يقول:" اذا كان التسخين قد استغرق عاما ونصف فكم قرن سيستغرق الوصول الى المحطة البعيدة؟؟ ان اشياء كثيرة يجب ان تتغير، وعمل كثير يجب ان يُعمل كي نخرج من هذه الدوامة المرعبة، وتخرج فتح من نمطية جمودها لعلها تعيد الى حاضرها ما يشبه تاريخها في هذا الزمن الصعب.