بقليل من الاهتمام، لا يليق بمناسبة تاريخية مفصلية، مرت يوم السبت الماضي الذكرى التاسعة والخمسون لثورة الثالث والعشرين من تموز، التي قامت بها في مصر مجموعة الضباط الأحرار بقيادة البكباشي آنذاك، جمال عبد الناصر، فلقد كان حرياً بحركات التحرر العربية والأحزاب والمنظمات الشعبية، أن تستعيد روح ووهج تلك الثورة، وهي تسعى من أجل التغيير في زمن "ربيع الثورات العربية".لم يكن عبد الناصر، قائد حزب سياسي، أو حتى زعيماً سياسياً بارزاً حين بادر مع مجموعة من زملائه، لتغيير النظام الملكي، والانتقال بمصر إلى مرحلة جديدة كلياً، ذات أبعاد ومضامين اجتماعية، اقتصادية وثقافية وسياسية مختلفة. فلقد تجاوز الأحزاب، والحركات الاجتماعية التي فوجئت بـ "الثورة البيضاء"، واحتفلت بها، ثم انشغلت في كيفية التعامل مع الوضع الجديد الذي أنشأته الثورة الفتية.يتكرر الدرس اليوم في العديد من البلدان العربية، ولكن بأدوات مختلفة، فالشباب هم من بادر ويبادر إلى قيادة عملية التغيير متجاوزين الأحزاب السياسية كثيرة العدد، التي فوجئت هي الأخرى، واجتهدت في كيفية وتوقيت الالتحاق بركب عملية التغيير.هذا يعني أن الأحزاب السياسية العربية، تتسم بالتكلس، والتخلف عن ركب التطور وعن مسؤولياتها إزاء أهم الخصائص، التي تميز الحزب السياسي، وهي العمل من أجل التغيير واستلام السلطة، كما أن هذا يعني بأن البنى الحزبية التاريخية وغير التاريخية القائمة، تحتاج في دواخلها إلى ثورات، وعمليات تطوير ودمقرطة بعد أن جر عليها طول أعمارها بعض خصائص الأنظمة التي تسعى الأحزاب لتغييرها.كان الراحل جمال عبد الناصر ورفاقه، قد استمدوا واقع التغيير من واقع شعورهم بالمرارة، التي تسبب بها تخاذل النظام السياسي العربي إزاء مقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين، فلقد كانوا هناك في ميادين القتال، ولذلك كان البعد القومي في مشروع الثورة، واضحاً وطاغياً، وملهماً لكل الخطوات اللاحقة سواء على صعيد مصر أو على الصعيد العربي والعالمي.عبد الناصر، كان وريث محمد علي باشا، ومطور مشروعه القومي الذي تآمرت عليه القوى الاستعمارية وتكالبت عليه فهزمت مشروعه، ولذلك كان من الطبيعي أن تواجه ثورة عبد الناصر، الاجتماعية، القومية أشكالاً وألواناً من التآمر الاستعماري بهدف الإطاحة بكل المشروع القومي الذي عمل عليه نظام عبد الناصر.وفي الأصل فإن الدول الاستعمارية أدركت منذ زمن محمد علي باشا في أوائل القرن التاسع عشر، أهمية وخطورة فكرة القومية العربية، فكانت إقامة وطن "لشعب" لا ينتمي للمنطقة، في فلسطين لعزل مشرق الوطن العربي عن مغربه، كانت إقامة ذلك الوطن، هي السبيل لمنع تحقيق فكرة ومشروع القومية العربية.وحين يكون الحديث عن مصر، فإن مكانتها، وموقعها، وتاريخها، ودورها يستدعي أعداءها، بكل ما يملكون، لأن الحديث عن مصر هو حديث عن شعب عريق ذي حضارة ضاربة في عمق التاريخ، والحديث عن مصر، هو حديث عن الدولة العربية الأكبر والقادرة على حمل مسؤولية النهضة العربية إنه حديث عن عقل وقلب الأمة العربية، ومركز تطورها.عند الحديث عن أحداث تاريخية كبرى، فإن التحليل يتراجع لصالح الاستنتاجات، والسؤال لماذا لم تدرك الأحزاب السياسية في حينه واليوم أن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ناضجة لإطلاق عملية التغيير، وحين يتكرر القصور الفادح، يترتب على تلك الأحزاب إما أن تحل نفسها وإما أن تقوم بعملية تغيير وتطوير في دواخلها، ولعلاقاتها مع مكونات مجتمعاتها وإلاّ تحولت إلى أسماء قبائل، بخصائص قبلية، أيضاً.الثورة في مصر اليوم هي "ثورة بيضاء"، حملتها الجماهير الشعبية، ولا يغير من طبيعتها السلمية، مئات الشهداء، وربما آلاف الجرحى الذين سقطوا أو يمكن أن يسقطوا على مذبح الحرية والكرامة، فمثل عمليات التغيير في بلد كبير كمصر، يصبح الثمن الذي يقدم أقل بما لا يقاس بالمقارنة مع الأهداف الكبرى التي تنطوي عليها عملية التغيير.يستعجل الكثيرون في الحكم على ما يجري في مصر التي يتطلع إليها كل العرب المتحمسين للثورة والتغيير واستعادة الكرامة وتحقيق الحرية، ذلك أن عملية التغيير، عملية طويلة، مكلفة، تتصارع فيها وعليها إرادات داخلية وخارجية متناقضة، وفي مصر من الطبيعي أن تسارع المراكز الإمبريالية وإسرائيل، إلى التدخل بمختلف الأشكال والوسائل المتاحة لاحتواء وضبط أفق التغيير، ذلك أن مضامين وأشكال التغيير في مصر، من شأنها أن تؤثر في عمليات التغيير الجارية في كل الوطن العربي.وكما استلهم عبد الناصر ورفاقه، أهداف ثورتهم ومشروعهم من واقع ومعطيات الصراع العربي مع القوى الاستعمارية والصهيونية، فإن الشباب الذين خرجوا ويخرجون إلى شوارع العواصم والمدن العربية اليوم، إنما ينشدون، استعادة الكرامة والحرية لشعوبهم، واستنهاض كل عوامل ومقومات التطور واللحاق بركب التطور العالمي، بعد أن هانت على الأنظمة الرسمية العربية، كل الكرامات الوطنية والقومية، وكل الحقوق الوطنية والقومية، وبعد أن أساؤوا كثيراً التصرف بثروات الأمة.ها هم شباب مصر، وشباب الثورة العربية، يقومون بثوراتهم الثانية على طريق، وضع الأمة العربية في سياق التاريخ، بعد تهميش دام عقوداً طويلة، وما على المراقبين والمحللين إلاّ أن يصبروا قليلاً، ذلك أن تغيير تراكمات عقود طويلة لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها. ها هو عبد الناصر يعود من جديد بأحلامه ومشروعه القومي، يحمله ملايين الشباب في كل أرجاء الوطن العربي الكبير، وفي ذلك أفضل أشكال الوفاء لثورة الثالث والعشرين من تموز 1952، ولرموزها الذين قاوموا على قدر ما يستطيعون المخططات الاستعمارية، وحاولوا قدر ما يستطيعون، قيادة المشروع القومي العربي فمصر كانت ولا تزال أم الدنيا.