أشبه بالحُلم أن يجد الإنسان نفسه فجأةً في قلب ميدان التحرير، بين عشرات الألوف من المصريين المنتفضين؛ للتعجيل بقطف ثمار الثورة، المشهد يبدو كخارطة جغرافية متنوّعة بطوبغرافيتها.. في الميدان المشاهد متعددةٌ ولكنها في النهاية تشكّل صورةً واضحةً لثورة فاجأت الكثيرين ولم تفاجئ المصريين الذين كانوا على يقين باندلاعها.المشهد الأول: ميدان التحرير له أكثر من مدخل. أول من أمس (الخميس) دخلنا الميدان من شارع طلعت حرب، حيث مقر اتحاد الصحافيين العرب. وعصر أمس، دخلناه من ميدان عبد المنعم رياض.. ولكن بالإجراءات نفسها... على كل مدخل تقف مجموعة من الشبان والشابات.. هناك مسربان: الأول للنساء والثاني للرجال، يطلب منك شاب بطاقة الهوية.. أقدم لهم جواز السفر وبطاقة “الأيام”... يبادرك شاب، بجواره، بالسؤال: “فلسطيني؟”، ثم يكمل “أجدع ناس”. يتدخل شاب آخر للاعتذار مؤكداً أن هذا الإجراء يسري على الجميع من أجل توفير الأمن.. ثم يبادر شاب آخر إلى القول: “هذه الثورة من مصلحة الشعب الفلسطيني، لن ننساكم...” تثير حرارة الاستقبال مشاعر فياضةً. المشهد الثاني: ندخل الميدان وننخرط بين الجموع لنفاجأ بعدد كبير من المنصات.. ثبتت على كل منصة مكبرات صوت.. وكل منها تعود إلى مجموعة أو حزب أو قوة سياسية.. وفي كثير من الأحيان تختلط الشعارات التي تبثها مكبرات الصوت... ولكن استوقفتني أربع منصات.. الأولى كان خلفها شعار ضخم وهو “الشعب يريد تطهير الإعلام” وفي الوقت الذي كانت تبث فيه المكبرات مجموعة أغانٍ للفنان المصري الراحل سيد درويش، وإلى جانبها لافتة كتب عليها شعار “شباب من أجل الحرية”..المنصة الثانية كانت خلفها لافتة كبيرة كتب عليها “شباب من أجل العدالة والحرية”.. حيث كان يتحدث طفل أزهري بلباس الشيوخ التقليدي. لم يتجاوز السنوات العشر، ولكنه على الرغم من صغر سنه خطيب مفوّه، وكأنه يحفظ ما يقول غيباً، استمر قرابة النصف ساعة وهو يلهب مشاعر المنتفضين لينتهي بالدعاء للأقصى وفلسطين، والانتقام من المحتلين.. المنصة الثالثة فاجأت جمهورها بالإعلان عن أن إحدى أمهات الشهداء ستتحدث عن معاناتها... المرأة التي تبدو في العقد الخامس من عمرها، صعدت المنصة وقبل أن تنطق بأيّة كلمة أجهشت ببكاء شديد، ما دعا الآلاف إلى ترديد شعار القصاص القصاص، ومطالبة وزير الداخلية بالرحيل.. المنصة الرابعة كانت للمؤتمر الشعبي الناصري مزينةً بصور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وتبث أغاني ثورة يوليو، واستمعنا إلى أغنية عبد الحليم حافظ "إحنا الشعب".المشهد الثالث: الشعارات المرفوعة في ميدان التحرير لا يمكن عدّها، وهي شعارات متنوّعة، تبدأ بالشعب يطالب، ولا تنتهي بمواطن بسيط يرفع لافتةً يشير فيها إلى الظلم الذي وقع عليه قبل 15 عاماً من أحد أعوان الرئيس المخلوع، ويطالب بإنصافه... الشعارات المطروحة لا تحمل صبغةً سياسيةً فقط، فمنها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية... ومن بين هذه الشعارات على سبيل المثال لا الحصر، “مصر خصخصوها ومصمصوها”، “صدق أو لا تصدق ثروة مبارك 14 مليون جنيه، وثروة سكرتير مبارك 7 مليارات جنيه”، “مسلم مسيحي مصريين.. كلنا في الهم عايشين”، “شدي حيلك يا بلد القصاص وجب”، “وطن واحد للتنمية والحريات وثورتنا مستمرة”، “نعم لوحدة الشعب واحترام كل القوى الوطنية”.المشهد الرابع: عشرات الخيام المنصوبة في الميدان، التي يبيت فيها شباب الثورة، ومن بينهم عشرات المضربين عن الطعام منذ ستة أيام.. الخيام صغيرة ومتلاصقة، الشبان والشابات المضربون عن الطعام يبدون في حالة صحية سيئة.. عدد منهم نقل لتلقي العلاج خاصةً في ظل الحرارة المرتفعة.. الملاحظ أن كل المضربين يطرحون الشعارات نفسها.. من بينهم الشاب أحمد عبد السميع والذي كان مستلقياً داخل خيمة صغيرة، في يده (إبرة جلوكوز)، وكان غير قادر على الحديث.. دخلنا الخيمة التي كانت بداخلها، أيضاً، الشابة منى الشرقاوي وهي مضربة عن الطعام.. في البداية رفض الشاب الحديث بسبب وضعه الصحي الصعب، ولكنه تراجع لدى معرفته أنني صحافي فلسطيني من جريدة “الأيام”، وأصرّ على الحديث، حيث قامت زميلته بتوضيح أقواله غير المسموعة، ولكنه لخص حديثه قائلاً: “لنا 50 مطلباً، ولكن إذا حققوا لنا مطلباً واحداً فسنتنازل عن بقية المطالب، والمطلب هو منع المجلس العسكري من التدخل في الشؤون السياسية وإدارة البلد على طريقة الامتداد للنظام السابق.المشهد الخامس: ساحة التحرير تعجّ بمئات الباعة المتجولين ابتداءً من باعة الأعلام المصرية بشكل رئيس والأعلام العربية وخاصة للدول التي ما زالت فيها ثورات مستمرة بشكل عام... وهناك بائعو المشروبات الساخنة والباردة والسندوتشات، وحتى ثمار الصبر التي كان سعرها زهيداً.. كان عشرات الشبان يحملون ألواناً مائية وهي ألوان العلم المصري وأدوات الرسم ويقومون بالرسم على الوجوه والأيدي.. تحت إلحاح أحدهم مددت يدي حيث قام برسم العلم المصري وتحته كلمة مصر... ليأخذ أجراً قدره ثماني جنيهات.. تقدمت خطوات لأجد مجموعةً من الزميلات ومرشدتنا الصديقة الدكتورة عزة كامل إحدى قيادات ميدان التحرير وهن في حوار حول تجدد الثورة التي لن تتوقف إلا بالثأر لدماء الشهداء وتحقيق مطالب الشعب... * ستنشر “الأيام”، قريباً، مجموعةً من المقابلات مع شباب ميدان التحرير. وغضبهم من حركة الإخوان المسلمين التي اتهموها بعقد زواج عرفي مع المجلس العسكري وخيانة شباب الثورة. من قلب ميدان التحرير – القاهرة