خبر : الطريق الى رام الله ... من ثقب إبرة!!!..عيسى قراقع

الأربعاء 24 نوفمبر 2010 01:06 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الطريق الى رام الله ... من ثقب إبرة!!!..عيسى قراقع



أعاد الاحتلال هندسة وجوده الاحتلالي لشعبنا الفلسطيني، لا لكي يرحل عن حياتنا وأرضنا ، بل ليبقى الى الأبد، بعد أن كرس سيطرته على كافة مجالات الحياة للشعب الفلسطيني. السفر الى رام الله من منطقة الجنوب – الخليل وبيت لحم ، رحلة مليئة بالإثارة، نموذج لخارطة جديدة لحياة الشعب الفلسطيني، ثقب إبرة ضيق يسمى" حاجز الكونتينر" هو المنفذ الوحيد لآلاف السكان الى الوسط والشمال والأغوار. وما عليك سوى أن تهبط واد سحيق يقع أسفل بلدة العبيدية يسمى واد النار، في قاعه أنت مجبر أن تشم رائحة المجاري المكشوفة، وأن تكون حذرا حتى لا تنزلق بسيارتك في قاع الواد العميق، وعليك أن تتقن جيدا فن الالتواء ثم الصعود ثم الهبوط حتى لا تسقط أو ترتطم بالصخور الشامخة. لقد أحيت اسرائيل واد النار، هذه المنطقة الصحراوية الجرداء، التي كانت تستخدم قديما للتهريب والتنقل عبر الدواب، وكانت مأوى للوحوش والهاربين من العدالة، يختبئون في كهوفها الكثيرة وبين تلالها الوعرة، لقد أعادت حكومة اسرائيل ترميم الطرق الهامشية، وكل ذلك حتى نبتعد عن القدس، أن لا نمر من العاصمة، ولا نرى حتى قبة الصخرة من بعيد، فقاع الواد لا يجلب للناظرين أي شيء جميل، فالسماء عالية، والطيور لا تحلق فوق أرض لا ماء فيها ولا أشجار. منطقة واد النار كانت قبل سنوات مكبا للنفايات ولمخلفات المصانع، ولهذا عندما تمر فيه عليك أن لا تكون عصبيا، بل صبورا وهادئا، أن تتحمل كل شيء وأن تتوقع أيضا كل شيء، فأمامك صعود آخر ستقف عنده كثيرا، تقضي ساعات طويلة بين طوابير السيارات المزدحمة الى حين سماح جنود الاحتلال الواقفين على رأس الوادي لك بالمرور. أنه حاجز " الكونتينر" العسكري، وقد تم تحديثه بطريقة يستطيعون فيها أن يصطادوك بسهولة، إما من خلال البرج العسكري المرتفع المطل على المنطقة جميعها، وإما من خلال المسامير الالكترونية المزروعة في وسط الشارع، وعندما تصل هناك فأنت رهينة لمزاج الجنود والمجندات : إما أن تمر أو أن تنتظر كثيرا، أو أن لا تمر أبدا ، فالوقت ليس لك. لا تحاول أن تسأل لماذا يقف عدد من الشبان قرب الحاجز، مشبوحين الى الحائط، يقوم الجنود بتفتيشهم والتسلية المذلة معهم، لا تسأل عن غرفة اعتقال صغيرة تقف على رأس الجبل تشبه المرحاض، ولا تحاول أن تصد الكلاب البوليسية وهي تنبح بشراسة وتتقدم نحوك، فما عليك سوى أن تصمت، وتغلق شبابيك السيارة، وتقرأ سورة الواقعة. وفي هذه المسافة بين الواد والجبل حاول أن تتأقلم مع ثقافة جديدة، وأن تستوعب مسبات ونرفزات الناس وضجيج السيارات وتداخلها واصطدامها ببعضها أحيانا، سوف تتعود على الشجارات والصراخ للسائقين والعابرين بعد أن ينضجوا في طنجرة الضغط خاصة في فصل الصيف، أو يتحولوا الى لا مبالين مقهورين في فصل الشتاء، كأنه مطلوب منك أن تتعايش وتتعود على هذا الطريق الذي أصبح بقدرة الاحتلال والمنظمات الأمريكية قابلا للحياة. عندما تتجاوز حاجز " الكونتينر" لا تعتقد أنك ستصل الى رام الله، فالطريق مليء بالحواجز العسكرية والشرطة، وهناك حاجز "جبع العسكري" الذي يجب أن تقف عليه وتتحمل الازدحام المروري عنده، وعندما تصل الى معبر قلنديا عليك أن تستعد جيدا للمعركة الحديدية التي لا بد أن نخوضها حتى تدخل مدينة رام الله. على حاجز قلنديا، هذه المنطقة المسلوخة والمشوهة عالم آخر، حياة مختلفة، غبار وتراب وجدار بشع وأسواق للبيع وشجارات وأطفال متسولين وغثيان، ونوع مختلف من العلاقات الإنسانية. على حاجز قلنديا عليك أن تكون بطلا حتى تمر من بين مئات السيارات والشاحنات، وتستخدم مهارتك ودبلوماسيتك كي تعبر بسلام دون حادث معك أو عليك ، وأن لا ترد على الغاضبين والساخطين والمتأخرين عن مواعيدهم وأعمالهم. يستغرق السفر الى رام الله أحيانا 5 ساعات متواصلة، تتعلم خلالها مصطلحات و لغة جديدة للسائقين الذين يتصلون ببعضهم البعض، يسألون إن كان هناك حاجز أو ازدحام حتى يتجنبوا ذلك بالمرور من طريق الكسارات أو طريق المعرجات أو عطارة، فتجد أمامك مدرسة متكاملة في التحايل على الواقع، رموز وإشارات لا يعرفها إلا من مارس هذه التجربة ومشى في هذه الرحلة الشاقة. الطريق الى رام الله حكاية تعب ومعاناة يدفع ثمنها الفلسطيني، عندما يقرر جنود الاحتلال قلب حياته وتحويله الى كائن غير بشري، يستخفون بروحه وبإنسانيته، فالصور والمشاهد في هذا الطريق الطويل صعبة ومخيفة، مرضى لا يشفع لهم مرضهم، وعجائز متعبات لا يشفع لهن كبر سنهن، ولا الطفل تشفع له براءته، ولا المرأة يشفع لها جنين بداخلها. هي شوارع تشبه الأفاعي، تلتف حول المدن والقرى، بعد أن شقت حكومة اسرائيل شوارع خاصة للمستوطنين والربط بين المستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية التي نهبت وصودرت وجرفت حقولها. جيوب من الشوارع الالتفافية والغيتوات ترسم ما هو قادم لمستقبل الشعب الفلسطيني، سجون متراصة، يحشر فيها الناس بين الجدار والحواجز، لا يتواصلون إلا عبر طرق صعبة وقاسية ، تجعل الحياة مشحونة بالتوتر ولا تطاق. إنها صياغة جديدة للإنسان الفلسطيني، إعادة خلقه وتحويره لينسجم مع صياغة المحتلين الذين دأبوا خلال أكثر من أربعين عاما على ممارسة الضغط والحرب على الوجدان الفلسطيني، لتتحول علاقاته البشرية الى علاقات مشوهة، وحدود تطلعات تقتصر في حدود الحيز السياسي الذي رسمه المحتل، أن يسعى الفلسطيني فقط للحصول على الأساسيات، وأن يكابد من أجلها، أن يعيش ليأكل ويتحرك ويشعر بالانجاز إذا حقق ذلك، مطلوب منه أن يجيد إدارة شؤون حياته المأسورة بعيدا عن التفكير بالحرية وتقرير المصير السياسي. في الطريق الى رام الله تشاهد مستوطنات ضخمة، ومدن استيطانية فارهة، شوارع كبيرة تشق الجبال توصل الكتل الاستيطانية ببعضها وبمدينة القدس وأريحا، ينتابك شعور أنك خرجت الى مجال جويّ آخر، وأنك صغير جدا، وبائس جدا، قضيت يومك في النضال الشاق حتى تمر من بلدك الى بلدك، تتحسس هويتك وتصريحك، وتنظر طويلا الى ساعتك، تتأفف وأنت تقرأ الأسماء العبرية على اليافطات، شعور بالغربة، وإنكسار عميق في الوعي نحو منفى جديد هنا على أرض الوطن الذي أخرسته الجرافة الاسرائيلية وأسكتت فيه صوت الحياة. إنه إحساس رمادي بأنك في عصر نظام عنصري ما فوق استعماري، بشري وجغرافي وجمالي وعاطفي ولغوي. الاحتلال يعيد هندسة حياة الفلسطينيين ثقافيا ونفسيا، كما أعاد هندسة الجغرافيا، كي يتعايش مع إجراءات الأمر الواقع، يحاول أن يخلق بشرا مطيعين مستسلمين لهذا الواقع مثلما حاول الكاتب زكريا تامر مع نموره الأسيرة في اليوم العاشر من اعتقالها.