رواد العمل الاغاثي الفلسطيني: د. عصام يوسف نموذجاً بقلم: ريهام صالح

الإثنين 08 يوليو 2019 07:57 م / بتوقيت القدس +2GMT
رواد العمل الاغاثي الفلسطيني: د. عصام يوسف نموذجاً بقلم: ريهام صالح



مع تعاظم الكوارث والنكبات التي تمر بها بلاد العرب والمسلمين، نشط الكثير من أبناء هذه الأمة لحمل مسؤولية الأمانة، والتحرك عبر اللجان الإغاثية وقوافل الخير للتخفيف من معاناة أولئك الذين شردتهم الحروب والصراعات. ويعتبر قطاع غزة أحد أكثر المناطق الذي تعرض لهجمات عدوانية شرسة وحروب ثلاثة متلاحقة أهلكت الكثير من الحرث والنسل وأكلت الأخضر واليابس، وحركت الوجدان والضمير الإنساني لنجدة أهل فلسطين. كثيرة هي الوجوه والقوافل التي جاءت تحت عناوين إغاثية وفي سياق الدعم وكسر الحصار، ولكن الاسم الأبرز الذي حفظته الألسنة والقلوب هو د. عصام يوسف؛ رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة، ورئيس قوافل "أميال من الابتسامات"، وهو ما سنلقي على جهوده الضوء كأحد أعلام العمل الخيري في الساحة الفلسطينية.

قطاع غزة: قصة معاناة

بدأت فكرة العمل الخيري في عشرينيات القرن الماضي،حيث جاءت كنداء عاجل واستجابة لحاجة شديدة من طلب المساعدة بعد سماح بريطانيا لليهود بامتلاك الأرض ومصادر الدخل الفلسطينية المختلفة، ولكنها اشتدت وتعاظمت بعد نكبة 48 حين هُجِّر الفلسطينيون - آنذاك - من أراضيهم قسراً, وكانت عمليات النزوح الكبير باتجاه قطاع غزة والضفة الغربية، فيما وجد الألاف طريقهم إلى مخيمات الاغتراب والشتات في دول الطوق العربي. تعهدت منظمة "الكويكرز" الدولية في مطلع الخمسينيات ببناء أماكن إيواء وإعاشة عاجلة للفلسطينيين في قطاع غزة، ثم قامت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بإقامة مخيمات سكنية، وتقديم خدمات التموين والصحة والتعليم، إلا أن حجم الاحتياجات المعيشية والحياتية كان أكبر من ذلك بكثير، مما دفع العديد من لجان الزكاة والأعمال الخيرية للتحرك وبذل قصارى جهودها لمساعدة الشعب الفلسطيني، حتى لا تنكسر إرادته وتظل قناعاته متعاظمة في مواصلة كفاحه ونضالاته السياسية لاسترداد حقوقه الوطنية، وإبقاء جذوة القضية حيَّة في نفوس العرب والمسلمين؛ باعتبارها قضيتهم المركزية، وليست فقط وقفاً على الشعب الفلسطيني وحده.

ومن الجدير ذكره، أن هذه المآسي والنكبات التي ألمَّت بالشعب الفلسطيني كان لها دوراً في بروز شخصيات فلسطينية كثيرة، وقد سمعنا عن الكثير منها، حيثشقَّت طريقها إلى المجد والعلياء بجهد وعناء، وعايشنا البعض منها في المدن والقرى والأحياء، حيث كان لكلٍّمنها طابعاً استثنائياً ميَّزها عن غيرها؛ فهناك من أصبح عالماً وله شهرته التي سبقته في الآفاق، وهناك من صنع من واقع مأساته وقضية معاناته قصة نجاحٍ وإلهامٍ للآخرين، وهناك غيرهم الكثير ممن تركوا لهم بصمة خاصة وأثر، ولأمثال هؤلاء في ذاكرة الجيلمشاهد فخر واعتزاز لا تغيب، وتأبى صفحاتها النسيان.

د. عصام يوسف: الإنسان وقاطرة الخير

إن شعبنا الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة منذ عام 2006 لن ينسى أصحاب المآثر والأيادي البيضاء،الذين زرعوا الابتسامة على وجوه أبنائه، وخاصة الأطفال منهم، ومن دمرت حياتهم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة، حيث ارتكبت قوات الاحتلال جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، فكانت انتهاكاتها مدانة من جميع الشعوب والأمم، وهذا ما حرَّك النخوة والمروءة في الكثير من رجالات الأمة والفلسطينيين حول العالم، للقيام بواجبهم الوطني والإنساني تجاه إخوانهم المنكوبين في قطاع غزة.

إن واحداً من بين هؤلاء من ذوي المروءة وأصحاب الهمَّة العالية هو د. عصام يوسف؛ المهاجر الفلسطيني، الذي تنقل بعيداً عن أرض الآباء والأجداد، وعانت عائلته من ويلات الرحيل والغربة بحثاً عن الاستقرار والعيش الكريم، قبل أن يحط رحاله في بريطانيا، ويبدأ مشوار حياته الطويل مع العمل الخيري، من أجل قضية شعبه وعبر تحريك وعي الجاليات العربية والإسلامية في الغرب بحجم المظلومية الفلسطينية، والواجب المفروض على عاتقهم لدعم ونصرة المحاصرين في قطاع غزة،انتصاراً للعدالة والإنسانية، وحق الفلسطينيين في العيش الكريم والحرية.

ولد د. عصام عام 1955 في قرية بُرقة قضاء نابلس، وكان كغيره من الشباب الفلسطيني الذين رسموا لمستقبلهم أحلاماً واعدة منذ الصغر، ولكن عاديات الزمن لم تُسعغه لتحقيق كل ما كان يصبوا إليه، فاضطرت عائلته للهجرة إلى الكويت بعد نكسة 67، حيث أقام هناك حتى عام 1981.

أراد د. عصام أن يكمل مسيرته العلمية، حيث وجد بُغيته في بريطانيا، والتي درس فيها علوم الكمبيوتر. لم تغب فلسطين عن مشاهد حياته، فقد كانت حاضرة في عقله ووجدانه، وكان يواكب في غربته الأحداث الفلسطينية الداخلية والخارجية منها، وقد حرَّك كل ذلك بداخله إرادة العمل من أجل فلسطين، وولَّد لديه العزيمة والاصرار بضرورة فعل شيء وليس أي شيء.

أراد د. عصام يوسف دخول مجال العمل الإغاثي، وقد بدأت الفكرة تتشكل لديه أولاً في الكويت عام 1978؛ حيث كان هذا البلد الخليجي يسكنه قرابة 400 ألف فلسطيني، وسياساته ودعمه للقضية الفلسطينية كان متميزاً. بعد ذلك، شاهد د. عصام يوسف حجم الوجع وحالة الفقر والمسغبة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني في مخيمات لبنان، وخاصة بعد مذبحة صبرة وشاتيلا في أغسطس 1982، حيث كان يراقبعن كثب ما كانت تتعرض له الثورة الفلسطينية، وكانت تلك هي البداية التي أثَّرت بمسيرته النضالية ومسار حياته كفلسطيني. كان د. عصام يوسف أحد مؤسسي العمل الاغاثي لفلسطين في بريطانيا، بهدف خدمة الشتات الفلسطيني عبر صندوق الإغاثة لفلسطين ولبنان، ثم جاء التحول الكبير في مسيرته الإنسانية بعد انتفاضة أطفال الحجارة في ديسمبر 1987، والتي كانت دافعاً وراء تركيز كامل جهوده على القضية الفلسطينية. ومن هناك، ساهم بشكل كبير في تكوين الجمعيات الإنسانية الداعمة للشعب الفلسطيني في الدول العربية والأوروبية. لم يقتصر الأمر هنا، فبعد انتفاضة الأقصى عام 2000، اتخذت حياته مساراًجديداً، فأصبح د. عصام (أبو يوسف) هو أحد مؤسسي حركة "ائتلاف الخير"، التي ضمَّت تجمعاً من مؤسسات خيرية قاربت الستين، حيث أصبح بهمته العالية وجهده الدؤوب ومحبة أهل الخير له مثالاً يحتذى في العمل الإغاثي، وصار لحملاته التضامنية مع الشعب المحاصر في قطاع غزة في كل بلد داعمين وشهود، وجرى ذكره الحسن على ألسنة الكثيرين من رجالات الخير في الدول العربية والإسلامية وحواضر الدول الغربية.

حروب ونكبات وأميال من الابتسامات!!

بالنسبة لفتاة فلسطينية مثلي ما تزال في ريعان شبابها، إلا أني عايشت حروباً عدوانية ثلاثة على قطاع غزة، وشاهدت من أشكال الظلم والدمار وما لحق بشعبنا من العذاب المهين الكثير، والذي ما زالت ندوبه شاخصة للعيان على وجوه الناس، وفي الشوارع وفي الرسوم والبكائيات على الجدران. بالطبع؛ لم يكن ألمنا جسدياً فقط بل استطال ليصيب الوجدان والنفس، وكان أثر ذلك مبكياً أكثر من الاصابة الجسدية نفسها، فكلما أردنا التغلب على ألامنا لاحقتنا ألاماً وأوجاعاً جديدة، وكلما حاولنا الخروج من أزمة كنا نهبط مرة أخرى الى القاع!! فمنذ نكبة 48 لم يذق الشعب الفلسطيني حلاوة الأيام، وغدا يخرج من نكبة الى نكبة أكبر وأقسى،حتى وقع عدوان 2008/2009 على قطاع غزة، والذيسقط على إثره 1417 شهيداً، وأصيب 4336 آخرين، حيث أظلمت بيوت غزة بسبب قطع الكهرباء، واشتعلت مبانيها بلهب القذائف الفسفورية، وعبقت السماء برائحة دخانها المسموم. بعد هذه الكارثة الانسانية التي مرَّت على شعبنا الفلسطيني، بدأ أهل الخير والمعروف في التحرك لنجدة إخوانهم على أرض قطاع غزة، وكانت هبَّة لن ينسى أهل فلسطين من كانوا قاطرة لها، ولعل د. عصام يوسف كان أحد عناوينها الأبرز، والذي شقَّ طريقاً جديداً أراد من خلاله رسم الابتسامة على شفاه أبناء شعبنا العظيم الذين دمرت الحرب حياتهم، فباشربتنفيذ فكرة لها ألق إنساني، فلعلَّها تنعش الذاكرة البشرية وتكون كمرآة عاكسة للمبادئ والقيم والأخلاق الإنسانية.. كانت تلك الفكرة قد راودته من أجل تطويق الآثار التي خلفتها هذه الكارثة المدمرة، والعمل بقدر الاستطاعة على مساعدة الشعب الغزي على تجاوز ما فيه من شدة ولأواء، فعمل على تشكيل جسر إنسانيبيننا وبين المناصرين والمتضامنين مع شعبنا، فكانت مصر هي النافذة وشريان الحياة التي تمر من خلالها قوافل الدعم الإغاثي وكسر الحصار إلى قطاع غزة،وقد ضمَّت حملات الخير هذه طيفاً من المؤسسات الخيرية الفعالة أطلق عليها اسم "أميال من الابتسامات"، والتي جاءت في الثاني من نوفمبر 2009، وقد رفعوا شعار "سننقل العالم الى غزة،وسننقل غزة الى العالم".  

تساهم هذه القوافل في ايصال الأجهزة الطبية والأدوية التي تحتاجها المؤسسات الخدمية في قطاع غزة،بالإضافة إلى أنها تركز على حشد كافة أنواع التضامن مع سكان غزة، وإن من أهم أهدافها هو تغيير المفاهيم والصور الخاطئة لدى المجتمعات الأوروبية بسبب التضليل الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام، وسميت بهذا الاسم لأن هدفها الأسمى كان رسم البسمة على وجوه أطفال غزة، خاصة المعاقين حركياً عن طريق امدادهم بالأجهزة اللازمة التي تجعلهم يشعروا أنهم بشراً، وليسوا مجرد أرقاماً. لم يقف الأمر عند القافلة الأولى، بل ما زال د. عصام بمثابرته وتحركه الدائم يثبت أنه ابن القضية ويعيش الوجع الفلسطيني. لقد وصلت حملاته الإغاثية إلى قطاع غزة إلى 36 قافلة، لم تتوقف رغم الحصار والظروف الأمنية الصعبة في سيناء، إذ ما يزال عدد المتضامنين في ازدياد، فهناك أكثر من ثلاثة آلاف مشارك حملتهم تلك القوافل من بلدان شتى عربية وإسلامية وغربية، وقد ساهموا بعشرات الملايين من الدولارات من خلال المشاريع الإنسانية التي جاءوا بها نصرة لإخوانهم على أرض فلسطين.

إننا لنفخر برجل فلسطيني مثل د. عصام، حيث إن هجرته إلى الخارج زادته إيماناً ويقيناً بالقضية الفلسطينية، وصنعت منه نموذجاً لامعاً كالنجم يبرق في سماء معتمة.

عندما نذكر الأعمال الخيرية فلن ننسى التحديات التي يمكن أن نواجهها في فلسطين، خاصة في قطاع غزة.. حيث إن نسبة الفقر تبلغ حوالي 53%؛ أي أكثر من نصف سكان القطاع يعانون من الفقر!! وبذلك، تأتي وظيفة الأعمال الخيرية، ولكن الضغوطات الاسرائيلية تحاصرها وتتربص برجالاتها في كل مكان، محاولين منع هذه الجهد الإغاثي من الوصول إلى مستحقيهبكافة الطرق، كما يحاولون خنق صوت الحق والعدل وتطويقنا من جميع الجهات، فيضعون الكثير من المؤسسات الخيرية في دائرة الاستهداف والتشهير بها واتهامها بدعم الإرهاب!! كما يبثون صوراً ومشاهداًليس للفلسطيني يد بها، بغرض تشويه قيمنا الأخلاقيةوالإنسانية في الغرب. السؤال: لماذا كل هذا؟! 

واحد وسبعون عاماً والشعب الفلسطيني مازال يعاني من ويلات الحروب، واحد وسبعون عاماً والعائلات الفلسطينية تحمل مفتاح ديارها أملاً بالرجوع إليه يوماً، واحد وسبعون عاماً على أبواب الانتظار.. فهل ستتحرك الشعوب العربية وتستجيب لنداء الضمير الإنساني؟!

هذه القاطرة من رجالات القوافل التي تحمل لشعبنا معها الابتسامات، أخذت على نفسها عهداً ألا تنتظر، وعقدت العزم أن تنتصر للمظلومية الفلسطينية، وكان شعارها: ابدأ بنفسك.. ارسم البسمة على وجوه الأطفال.. واهتف بشعارات الإنسانية والعدالة، وكن وسيلة لإيصال الصوت الفلسطيني إلى العالم.. اصنع سعادتك الذاتية بجلب السعادة للآخرين.

ولعل هذه المعاني هي ما حملتها كلمات د. عصام يوسف، حين قال:

"لا حدود لمتعة العطاء، واكتساب كمٍّ وافر من الرضا النفسي الذي يفتح أبواب السعادة الذاتية، حين يكون ارتباطها وثيقاً بصناعة السعادة في نفوس الآخرين، تلك إحدى الخلاصات التي يمكن لنا تثبيتها دون أدنى ريب في سجل مسيرة أعوام طويلة في مجال العمل الخيري والإنساني".

ويبقى د. عصام يوسف أيقونة خير يحفظ لها شعبنا فضائل ما قدَّمته من أشكال الدعم والنصرة، ولهذه الابتسامات التي لم تغادر وجوه من شدوا الرحال على ظهور قوافلها. 

بيت الحكمة – وحدة البحث والدراسات  ​