ملاحظات حول تعظيم «حالة غزة»..عبير بشير

الثلاثاء 28 مايو 2019 12:07 م / بتوقيت القدس +2GMT
ملاحظات حول تعظيم «حالة غزة»..عبير بشير



شكلت غزة أول مختبر لتجارب الإسلام السياسي في الحكم الخالص وهي النموذج الذي نجح الإسلام السياسي فيه باستخدام وسيلتي الصعود والهيمنة المتناقضتين. فهو من جهة صعد - أي حركة حماس - عبر انتخابات برلمانية نزيهة وشكل حكومته الخاصة، ومن جهة أخرى استخدم القوة والإزاحة العنيفة في كرسحة خصومه - حركة فتح - وتحويل غزة إلى منطقة حكم خالصة له.
وعبر عملية طويلة ومعقدة ومركبة من بناء الصور وتطوير المتخيل السياسي – إعلاميا - وصناعة المواقف سياسيا، تم تعظيم صورة غزة - غزة العزة، غزة المقاومة والصمود، غزة مصنع الرجال، غزة صواريخ إم 75، وصواريخ كورنيت، وهي صورة قائمة على شيطنة الصورة المقابلة: السلطة في رام الله.... تنسيقها الأمني، وتوسلها للسلام مع إسرائيل.
لقد عمل الإسلام السياسي مستخدما نفوذه المتصاعد في الإقليم ومنابره الإعلامية في تعظيم «حالة غزة» ... كحالة استثنائية، خارقة، لها عنفوانها وكبرياؤها الوطني، وهي المحاصرة، التي تقاوم الاحتلال الإسرائيلي وتمطره بصواريخها، وترفض الخنوع، والاعتراف بإسرائيل. وليست قوافل الحجيج السياسي - منها زيارة أمير قطر - التي كان يتم تنظيمها لغزة إلا جزءاً من صناعة هذه الحالة. وجرى تصوير غزة، كأنها دولة محررة، بينما ترزح الضفة الغربية تحت بساطير الاحتلال الإسرائيلي، الذي السلطة الفلسطينية أمنيا معه. حتى حصار غزة، وانقطاع الكهرباء عنه، تم توظيفه إلى الحد الأقصى، في صناعة «حالة غزة».. المحاصرة والمقاومة... الضحية وأيقونة البطولة. 
وبذلك – كما يقول د. عاطف أبو سيف - تم تعطيل مقولات وطنية كبرى لصالح عبارات مشبوهة تهدف ليس إلى سرقة التمثيل الفلسطيني بل والتنكيل بالذاكرة الوطنية، وإلى تحويل «حماس» ومعها غزة إلى مرجعية حصرية للمقاومة الفلسطينية والعمل الوطني.
وأصبح لافتا جدا، أن يتردد اسم غزة في وسائل الإعلام، أكثر بكثير من اسم فلسطين، وأن يذيل الكاتب الفلسطيني المقيم في غزة، توقيعه لمقالته المنشورة في صحف عربية أو إقليمية بعبارة «كاتب من غزة».
الحديث عن صناعة دولة غزة، لم يأت فقط من كتاب محسوبين على حركة فتح أو مستقلين، بل وصل إلى تخوم كتاب محسوبين على حركة حماس. فالقيادي في حرك حماس «غازي حمد» تحدث بإسهاب عن علاقة «حماس» بقطاع غزة والتي وصفها بالتوأم السيامي التي لا انفصال بينها!! إنها علاقة ميلاد ونشأة. مقاومة وقيادة .. ومن ثم علاقة حكم وسلطان. فقد شكلت غزة لـ»حماس» - بعد الحسم العسكري، ما يشبه مملكتها الصغيرة، التي تستطيع أن تمارس فيها سلطتها وحكمها دون قيود، وهذا جعل من غزة مركز قوتها وزخمها. لقد أقنعت «حماس» نفسها وجمهورها أنها تحررت، رغم إحاطة الاحتلال بها من كل جانب وتحكمه في البر والبحر والجو. ومثلت غزة لـ»حماس» القلعة الحصينة التي تواجه وتتحدى بها إسرائيل، ومركز القوة التي تقابل بها نفوذ سلطة رام الله، والورقة التي تستطيع ان ترفعها في وجه المعادلات السياسية في المنطقة.
ان تعظيم قوة «حماس» العسكرية، وذهاب البعض إلى القول، ان غزة هي رأس الحربة، وانها تدافع عن شرف الأمة، وانها النموذج المقاوم الفريد من نوعه، هذه اللافتات الكبيرة خلقت إحساسا كبيرا بالتضخم لدى حركة حماس، وقناعة بأن الحسابات السياسية والوطنية يجب ان تقاس وتحاكم على الواقع القائم في غزة «حالة غزة»، وحجب عن حركة حماس التفكير، خارج صندوق غزة.
لقد خلق حكم «حماس» المنفرد لغزة، معادلة ارتباط سياسي/ عاطفي لدى الحركة، لم يعد من السهل الفكاك منه. لقد أطلقت شعارات كثيرة عززت هذا الارتباط «وحالة غزة»: «غزة العزة ..غزة تنتصر ..غزة تقاوم»، وبالغت في رسم العلاقة، واصبح اسم غزة يتردد كثيرا في الخطابات والمهرجانات.
تستطيع «حماس» ان تفخر بأنها حولت غزة الى «أسطورة» للبطولة والمقاومة ورمز من رموز تحدي الحصار، واسم تداولته الدول والعواصم بحيث اصبح نموذجا للحالة الفلسطينية - والكلام لغازي حمد - لكن طغيان «حالة غزة» في ثقافة وفكر الحركة، والتلويح بشعارات التحرير من البحر إلى النهر، حجب عنها رؤية الأفق الأوسع خارج نطاق هذه البقعة الجغرافية الصغيرة.
حمد قال أكثر من ذلك، إن عقدة التعريف بالذات والقوة جعلت «حماس» تبالغ في الحديث عنهما، وعن قدراتها العسكرية، وصل إلى درجة التقديس، والتصوير الأسطوري. 
حتى الهدنة أو التهدئة التي يجري التفاوض حولها حاليا بين إسرائيل وحركة حماس، أصبحت ملتبسة، وتخدم «حالة غزة»، وتأتي مثل سابقاتها من الهدن التي تتبع جولة عسكرية منضبطة وتحريكية لملف المساعدات المالية لقطاع غزة، وليس لملف تحرير فلسطين.
هذه الهدن - كما يقول د. إبراهيم أبراش -، قد تؤدي لانحراف المقاومة عن مبرر وجودها ودورها الوطني، وقد تسفر عن تغيير وظيفة المقاومة لتصبح مقاومة للحفاظ على الانقسام وحماية سلطة «حماس» وتأمين مصادر تمويل رواتب موظفيها، والحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية لسكان غزة. وهذا يعني أن المقاومة والهدنة في قطاع غزة أصبحتا أداة لحماية وتكريس الانقسام والانفصال وليس لتحرير فلسطين. وهذا يعني أن المقاومة في غزة، أصبحت فصائلية وموسمية وخارج السياق الوطني من حيث القرار والهدف، ونرجو ألا تتحول إلى ظاهرة للارتزاق الثوري والجهادي. 
ومرة ثالثة ورابعة، تتم العودة إلى صناعة «حالة غزة»، بشكل مكثف ومتصاعد، لأن استكمال مخطط الانفصال بين جناحي الوطن، وتمرير صفقة القرن يحتاج لطرف قوي في قطاع غزة منافس لمنظمة التحرير، ويجري تصويره على أنه وريث حركة فتح الثائرة والمناضلة تاريخيا. ومن هنا فإن تكرار جولات التصعيد بين حركة حماس وإسرائيل، وما يواكبها من تغطية إعلامية واسعة لإطلاق حركة حماس والفصائل الصواريخ على إسرائيل، وتعظيم الحديث عن قدرات «حماس» العسكرية. وتكرار توقيع حركة حماس لاتفاقات هدنة كطرف وحيد مع إسرائيل. كل ذلك يعمل على تظهير حركة حماس كطرف قوي وعنيد تخشاه إسرائيل في مقابل السلطة الفلسطينية التي تنسق أمنيا مع إسرائيل، والضعيفة، والعاجزة عن ردع الاحتلال الإسرائيلي عن استباحة مدن وقرى الضفة الغربية.