وداعاً... النموذج التركي -1- ..عبير بشير

السبت 13 أبريل 2019 06:34 م / بتوقيت القدس +2GMT
وداعاً... النموذج التركي -1- ..عبير بشير



لطالما تباهى رجب طيب أروغان بإنجاز رفع الوصاية العسكرية عن الحياة السياسية التركية، وقبل ذلك بإحداث قفزة نوعية في اقتصاد تركيا حين تولى الحكم، وبالتالي يرفض أي فكرة لتنحيه عن الحكم استنادا إلى ذلك، ويتصرف وكأنه حاكم أبدي لتركيا، بحجة الإنجازين الديمقراطي والاقتصادي. بينما رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، التي قادت عملية تحديث ناجحة وقاسية للاقتصاد البريطاني في الثمانينيات من القرن الماضي قبلت بعد عشر سنوات من الحكم فكرة تنحيها لإعطاء المجال لجيل جديد من السياسيين في حزب المحافظين. 
فعندما يتحول السياسي من رجل دولة إلى شعبوي، تتساقط الأشياء من حوله. ليس فقط النقد والليرة، بل كل ما يقع في طريق الغرور والزهو. ومن يراجع شريط السياسة الأردوغانية، سوف يلاحظ خطا مستقيما وسريعا نحو الانهيار.. . وسوف يجد رجلا منتشيا بعناده، مثل صدام حسين. وللعناد طريق واحدة كشفت عنها صفعة الانتخابات البلدية التركية.
فقد خسر حزب أردوغان أبرز المدن الكبرى بينها إسطنبول وأنقرة، واللتان تعتبران، معقلين لحزب العدالة والتنمية منذ 25 عاما، إلى جانب فوز حزب المعارضة الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، برئاسة بلديات أزمير وأنطاليا وأضنة ومرسين. وإسطنبول هذه المدينة، التي تختزل مسيرة أردوغان ... مولده ونشأته وكرة القدم في حواريها، وبزوغ وسطوع نجمه السياسي، وأجمل ما فيها رئاسة بلديتها، التي أوصلته إلى رئاسة تركيا، وهو من قال يوما: "إن من يفوز بإسطنبول يحكم تركيا". وتعتبر إسطنبول أحد أهم محركات الاقتصاد في تركيا، وتمثل حوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وهي تشكل إلى جانب أنقرة وأزمير، أكثر من نصف الاقتصاد. ومن يعرف تركيا لا يعتبر أنقرة وإسطنبول وأزمير وغيرها مجرد مدن، فهي في الواقع عناوين الحداثة والقوة والثراء في الدولة التركية. أما أيكان إرديمير، البرلماني التركي الأسبق فهو يرى أن فقدان أردوغان السيطرة على إسطنبول هي ضربة قوية، ليس فقط من الناحية السياسية وإنما من الناحية الاقتصادية كذلك، إذ تعتبر المدينة الركن الركين لنظام الغنائم القائم عليه ممولو حزب العدالة والتنمية الحاكم.
لجأ أروغان  إلى الميكروفونات، والخطب العصماء من أجل رفع شعبيته، والتغطية على المطبات التي أوقع الاقتصاد التركي بها، وهكذا نستطيع أن نفهم كلام أردوغان - الشعبوي قصير النظر - قبيل أيام من الاستحقاق البلدي، عن عزمه إصدار قرار رسمي بتحويل "آيا صوفيا" من متحف إلى مسجد تقام فيه الصلوات والاحتفالات الدينية!، كرد من قبل تركيا، بوصفها رئيس الدورة الحالية لمنظمة التعاون الإسلامي، على قرارات الرئيس الأميركي ترامب الاستفزازية وأحادية الجانب للاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، ثم بسيادة الأخيرة على مرتفعات الجولان السورية المحتلة.
كما تعاطى بغرور وفوقية، وبعقلية الديكتاتور، حين قال، إن على سلطات الانتخابات إلغاء انتخابات إسطنبول المحلية لوقوع مخالفات يتعلق أبرزها بتعيين مسؤولي صناديق الاقتراع، بعدما رفضت لجنة الانتخابات إعادة فرز كل الصناديق في إسطنبول. وكان أردوغان قد أكد في وقت سابق أن الانتخابات المحلية ارتكبت فيها "جريمة منظمة" في صناديق الاقتراع بإسطنبول!
وبصرف النظر عن نسبة الفوز والخسارة في الانتخابات المحلية التركية، فإن ما لفت نظر العالم هو التراجع الكبير في مكانة حزب "العدالة والتنمية". ويبدو أن أردوغان الذي يمتلك حزبه إمكانات ضخمة بفعل تحكمه في السلطة، ينظر للأمر أن هنالك خللا في العملية الانتخابية، ويرفض أن يعترف بأن تركيا التي كانت مشروعا واعدا لأول بلد في العالم المسلم "القديم" يصالح الإسلام مع الحداثة بمعانيها الديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية ... هذه التركيا "انتهت" الآن.
صحيح أن التصويت في الانتخابات المحلية بدا كتصويت على الخدمات، ولكنه كان في الواقع، سياسيا بامتياز، بعدما تميز أداء أردوغان في الفترة الأخيرة، على الصعيد الداخلي بشطط كبير، خصوصاً فيما يتصل بالعلاقة مع الأحزاب المنافسة، أو في المعالجة الشرسة والمنفلتة من كل الضوابط في واقعة الانقلاب الفاشل. فعدا اهتزاز مؤسسات الدولة نتيجة حجم التصفيات القائمة بعشرات الألوف وبما يمس كل القطاعات بما فيها الاقتصادية، أصبح هناك انشقاق عامودي أصاب "الحركة الإسلامية" التركية بفعل الصراع الضاري بين "العدالة والتنمية" وبين حركة فتح الله غولن. وهو انشقاق لا رجعة فيه داخل تحالف أمن الوصول إلى السلطة العام 2002.
وبعدما حول أردوغان الانتخابات البلدية في تركيا، من رصف الطرق وكنس الشوارع والاعتناء بالحدائق، إلى معارك في الرقة وغزة، قالت، "فورين بوليسي"، إنه بدلا من اختيار مرشحين أقوياء، رشح أردوغان أقرب الموالين له، مثل رئيس البرلمان الحالي بن علي يلدريم، ووزير الاقتصاد نهاد زيبيكسي، وعندما أظهرت استطلاعات الرأي الأداء الضعيف لحزبه، تحول أردوغان إلى قواعد لعبته المعتادة: شيطنة خصومه، والسيطرة على الجماهير، وإلقاء اللوم على الغرب، وخلط الدين بالسياسة، والحديث عن معاركه في غزة والرقة!
غير أنه كان من اللافت فوز حزب أردوغان التاريخي برئاسة بلديتي ولايتي شرناق وأغري، اللتين تسكنهما أغلبية كردية كبيرة، وكانتا تصوتان تاريخياً للأحزاب الكردية القومية، وتلقي حزب الشعوب الديمقراطية، المحسوب على أكراد تركيا، ضربة قوية بخسارته في الانتخابات، لصالح حزب أردوغان، رغم حالة الاشتباك القصوى بين أنقرة وأكراد سورية، وحزب العمال الكردستاني.
لقد ذهب الرئيس صائب سلام يوما إلى العراق بدعوة من صدام حسين، وعاد يحدث بما شهده من نهضة: المصانع، الزراعة، العلوم، وتفاؤل الناس بالمستقبل. بعد سنوات قال صائب سلام لزواره على اثر احتلال صدام للكويت، جملة واحدة: الغرور، لا يبقي على شيء!.