أنفاق لبنان، وأنفاق التأزم السياسي..عبير بشير

الثلاثاء 18 ديسمبر 2018 10:17 ص / بتوقيت القدس +2GMT



كل المؤشرات تقود الى خُلاصة مفادها ان النظام اللبناني لم يعد صالحاً للعيش بصيغته الراهنة، وذلك بعد أكثر من ربع قرن على إعلان السلم الأهلي مع توقيع اتفاق الطائف. وبدل أن يتصالح اللبنانيون مع أنفسهم بعد تحرير الجنوب وإخراج الجيش السوري، ترتفع الحواجز عالية وتتعمق الهواجس والانقسامات المذهبية، ويغرق لبنان في الفساد.
وهذا الامر يضعهم في مواجهة أمرين: الأول ان يكون النظام الحالي استنفد امكانات التطور وبالتالي قابلية العيش، وانه لم يعد يجاري المتغيرات السياسية والديموغرافية، والاهم القيمية، وقد أصابه الفساد في الصميم حتى لم يعد قادراً على تنظيف نفسه ولفظ الفاسدين واعادة الاعتبار الى مؤسسات الدولة. وهذه حالة طبيعية لأنظمة قامت ركائزها على تفاهمات ظرفية ركيكة. 
اما الامر الثاني، فيمكن ان يكون ناتجاً من تخطيط جهنمي، يهدف الى النيل من النظام والصيغة وضربهما، وإغراق البلد في الأزمات، من ضمن استراتيجية طويلة الأمد، لا تفرض التغيير فرضا على الشركاء في الوطن، بل تقودهم الى القبول به. فالإحباط القائم في البلاد، والغرق في مستنقع الفساد الذي خرق المؤسسات القضائية والامنية، امور تدفع الى التفكير في التغيير- بأي تغيير-.
الأنفاق على خط الهدنة بين لبنان وإسرائيل، أيضاً ليست سوى تعبير عن الأزمة العميقة التي يمر بها لبنان. وبغض النظر عن النفي الرسمي لوجودها، فهي في نهاية المطاف أحد عوارض اعتلال النظام اللبناني، حيث لا حكومة منذ سبعة أشهر، رغم تكليف سعد الحريري بتأليفها.
كان أمر تشكيل حكومة لبنانية في عهد الوصاية السورية يتقرر في دمشق، اما الآن، وفي عهد الوصاية الإيرانية، أصبحت الخرائط ترسم في «الضاحية». ووفقاً لتلك الوصاية، وليس شيئاً آخر، تم إنجاز التسوية الرئاسية منذ المصالحة بين «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» وليس انتهاء باعتماد «تيار المستقبل» ترشيح الجنرال عون لرئاسة الجمهورية. وقامت انعطافة الحريري باتجاه عون، مرورا بسليمان فرنجية قبل ذلك، على قاعدة ما يمتلكه حزب الله من نفوذ في البلد، يملي حتى على الخصوم، أن يأخذوا ذلك بعين الاعتبار، وأن موضوع سلاح حزب الله أكبر من طاقة لبنان على حله. وهو على ما يبدو توقف جدي على تخوم وقائع المباحثات اللبنانية التي استضافتها الحكومة الفرنسية في العام 2005 في «سان كلو» عندما أبلغ ممثل حزب الله المشاركين في ذلك الحوار أن «الحزب» سيحل مكان النظام السوري في إدارة البلد .
وأدخل الكلام الإسرائيلي عن الأنفاق، ومعها مصانع الصواريخ الدقيقة، قرب مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، لبنان في نفق مظلم طويل سيكون من الصعب عليه الخروج منه. 
ولم يكن ينقص لبنان، بعد أنفاق التأزم السياسي والفشل في تشكيل الحكومة، ومؤشرات الانهيار الاقتصادي والمالي، إلا أنفاق حزب الله، وما يمكن أن يستتبعها من إحراج للحكومة اللبنانية، الملزمة حسب القرار ألف وسبعمائة وواحد، بعدم السماح بوجود أي قوة مسلحة في الجنوب، باستثناء الجيش اللبناني والقوات الدولية.
وتسعى إسرائيل بلا شك لتوظيف قضية الأنفاق بوصفها مبرراً لاستكمال بناء الجدار العازل الذي تقيمه على الحدود مع لبنان، لا سيما في النقاط المتنازع عليها والتي تشكل منافذ لـحزب الله فوق الأرض أو تحتها.
وليس مستغرباً أن تكون إسرائيل استغلت الأنفاق، لتقول للعالم إنه لا دولة في لبنان وإن الدولة الحقيقية هي «دولة حزب الله» الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري الإيراني» حسب تعبيرها. وعلى كل حال، تبقى معركة الأنفاق الهندسية مقموعة، ولن توصل إلى حرب صاخبة. وستبقى في باب متابعة الأداء الذي اعتمدته تل ابيب بالتقسيط المريح في سورية نفسها قبل لبنان. حيث استمرأت التصدي والتعرض لما تعتبره خطراً تسليحياً واستراتيجياً عليها من دون أن تتكلف شيئاً كبيراً موازياً .
فيما يستمر حزب الله في قطف ثمار فلاحة قديمة بدأت منذ نشوئه مع احتلال إسرائيل للبنان مطلع الثمانينات. فمنذ نجاح الثورة الإيرانية، أرسلت مبعوثيها إلى لبنان. لكن اجتياح لبنان، أعطى طهران الفرصة الذهبية، لكي تلعب في المساحة الفارغة المستجدة، مستخدمةً موقعها العقائدي وأموالها لتقوية مرجعيتها الدينية الشيعية المنافسة لمرجعية النجف العربية. 
حاول الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، أن يستعمل سلاح منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة المارونية السياسية التي بدورها لجأت إلى سورية حافظ الأسد للموازنة مع ياسر عرفات. وما هي إلا سنوات قليلة حتى استدرجت المارونية السياسية بشخص بشير الجميل إسرائيل للخلاص من الاثنين معاً: منظمة التحرير وحافظ الأسد. ومع غروب اللحظة العرفاتية في لبنان وبداية انهيار المارونية السياسية استدرجت إيران شيعة لبنان إلى لعبة الاستثمار في واقع الاحتلال الإسرائيلي.
تشكلت «المقاومة الوطنية» بعد احتلال إسرائيل للبنان، وفي نهاية الثمانينيات تم حصر العمل العسكري بأيدي «حزب الله» في الجنوب بضغط سوري وإيراني مباشر.
لكن صعود حزب الله الحقيقي في بيئته الشيعية، جاء عبر منصة العمل الخدمي والإنمائي والاجتماعي، وتلبية احتياجات سكان الجنوب- الشيعة- المهمشين، وملء الفراغات التي تركها تقصير الدولة اللبنانية في كل الساحات.
وشكلت إدانة قيادات في حزب الله في قضية اغتيال رفيق الحريري، صلب التحول البنيوي الذي أراده الحزب للبنان، بعد تثبيت خرائط موازين القوى في لبنان واعتبارها نهائية، بحيث لا تتيح التمرد على حزب الله، الذي يمتلك فائض قوة عسكرية، لا يضاهيه بها بقية الشركاء والخصوم في الوطن، الذين لا يملكون سوى دعاء الأصدقاء في العالم.
وثمة تفاوت في المركب العسكري الأمني بين «حزب الله» الذي يمتلك السلاح ويخوض الحروب، وبين القوى اللبنانية المسلحة سابقاً والتي باتت منزوعة السلاح، وبين القوى الناشئة أساساً من خارج زمن الاحتراب ومعادلات السلاح. اختلاف أيضاً في نمط العلاقة مع العنف، ما بين تماثل معه كما لو أنه نمط للوجود والديمومة، وما بين نوستالجيا مضمرة، أو اعتناق حاسم لمبدأ حصرية السلاح في يد الدولة، احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي، حسب مقولة عالم الاجتماع الألماني ماركس فيبير الشهيرة.