مستقبل الإعلام الإلكتروني وإمكانيات تطويره.. د. أحمد رفيق عوض

الأربعاء 25 أبريل 2018 02:12 م / بتوقيت القدس +2GMT
مستقبل الإعلام الإلكتروني وإمكانيات تطويره.. د. أحمد رفيق عوض



لم يعد خافياً على أحد ما للإعلام الإلكتروني من تأثير ومن دور على مجمل مناحي حياتنا وتفاصيلها، ويمكن القول إن هذا الإعلام شكّل بعض نواحي هذه الحياة، فهناك دراسات كثيرة، عربية وأجنبية، نُشرت لرصد ذلك التأثير وذلك الدور، فضلاً عن مئات الأبحاث الجامعية وغيرها، التي حاولت أن تجيب على السؤال الكبير؛ ما هو أُفق هذا الإعلام؟! وإلى أين يمكن أن يصل بالأفراد والمجتمعات؟! وما هو دور هذا الإعلام في تعديل أو تغيير الأنظمة والمقاربات وحتى الرؤى الفلسفية والروحية؟!

إذ أن هذا الإعلام كان نقلة نوعية سببها التكنولوجيا، فقد نقلت الاتصال من النظام التماثلي (Analog) إلى النظام الرقمي (Digital)، وهي نقلة جعلت من الاتصال ذاته أسهل وأدق وأكثر انتشاراً وأكثر خصوصية أيضاً، هذا أولاً، أما ثانياً، فإن الإعلام الإلكتروني يتميز بالتفاعلية، حيث تكون عملية الاتصال مستمرة وذات حيوية عالية ومتزامنة، بحيث تتحول عملية الاتصال وكأنها عملية وجاهية، وهي أعلى عملية اتصال ذات تأثير، أي أن هذا الإعلام يمكن له ان يستبدل الأهل والجيران والأصدقاء، ومن هنا تأثيره العالي والخطير.

كما يتميز هذا الإعلام بالقدرة على تفتيت الاتصال، أي يمكن أن نرسل الرسالة إلى فرد أو أفراد أو مجموعة أو عدة مجموعات، وفي هذا كثير من التحكم والسيطرة وتعديل الرسالة حسب التفاعل، هنا تصبح الرسالة أكثر من رسالة وأكثر من معنى وأكثر من مضمون، وبالتالي أكثر من استجابة، الإعلام الإلكتروني بذلك يتحول إلى وسيلة سيطرة وتحكم وتعديل وضبط سلوك.

وهذا الإعلام أيضاً يتميز باللاترامنية، وكأنه يبدو ليس فقط مناسباً للمستخدم، وإنما يبدو وكأنه فوق الوقت أيضاً، بمعنى أن هذا الإعلام فيه نوع من الخلود الزائف، الرسالة التي تدوم سنوات طويلة وتحمل ذات المضمون، إنما تكتسب بمعنى الوقت معاني أخرى ومستويات أخرى.

وهذا الإعلام أيضاً فيه قابلية التحرك، فهو قادر على الاتصال بك في أي مكان وفي أية لحظة، فهو محمول وذو شاشة، وبالتالي فهو يكتسب مفهوم المحاصرة والقدرة على الوصول، وله قدرة على النفاذ والكشف، أي يتحول الفرد من خلال هذه الخاصية إلى فرد مكشوف وعاري دون أسرار أو قدرة على الاحتباء أو التخفي.

وهذا الإعلام يتميز أيضاً بقابلية التحويل، أي قدرة وسائله على نقل المعلومات دون وسيط، أي بدون عناصر بشرية، وبهذا، فإن الإنسان يخترع أدوات تستطيع أن تنفيه او تستثنيه أو تهمشه أو تقتله وتفنيه، كما في حال القنبلة الذرية وأخواتها، يعني بكلمات أخرى إن هذا الإعلام، بالوسائل الحديثة، لا يحتاج إلى عنصر بشري للنقل أو النسخ أو الترجمة أو الشرح، تبدو هنا وسيلة الاتصال وكأنها تقوم بالكثير من التدخلات البشرية، الخطير هنا أن هذه القدرة الآلية إنما تقوم بقولبة الإنسان وتسطيحه وصولاً إلى ردّات فعل بشرية متشابهة، وربما هذا يفسر أن الإعلام الإلكتروني الجديد يعزز عدم المشاركة العاطفية ويعمل على وضع حدود بين الأفراد والجماعات بدلاً من تحطيمها، ومما يزيد من قابلية التحويل هي قابلية التوصيل التي يتمتع بها هذا الإعلام أيضاً، وهي خاصية تجعل من وسائل الإعلام الإلكتروني تتعرف على بعضها البعض بغض النظر عن مصادر صناعتها أو تجميعها، فهذا الإعلام استطاع أن يوحد الوسيلة ولم يستطع توحيد المستخدمين لهذه الوسائل للأسف، هذا الواقع قاد بالضرورة غلى أن يتمتع هذا الإعلام بالشيوع والانتشار بشكل لم يحدث في التاريخ أبداً، إذ لم يحدث من قبل أن امتلك معظم الأفراد وسيلة اتصال كالتي نشهدها الآن، تحولت وسائل الاتصال منذ نهايات القرن العشرين وحتى يومنا هذا إلى ان تكون جزءً من الرفاهية أو الوضع الاجتماعي أو الضرورة المهنية أو الموضة الاجتماعية، وبهذا الامر، فإن الإعلام الإلكتروني حوّل العالم غلى قرية كونية متقاربة ومشاهدة وتتأثر ببعضها البعض، ورغم وهم الكونية هذا، فمازالت هذه القرية فيها أحياء الأغنياء وأحياء الفقراء، يعني أن وسائل الاتصال الحديثة وما ارتبط بها من إعلام إلكتروني حديث، ورغم انها توحي بان العالم صغير ومترابط واعتمادي، إلا أنه ما يزال هناك مراكز تتحكم بالمال والثروة والسلام والعلم، وما زالت هناك هوامش مستهلكة.

إن التدقيق في المزايا السابقة لهذا الإعلام تقودنا إلى استخلاص الأدوار المستقبلية لهدا الإعلام:

أولاً: تغيير مفهوم الفرد والجماعة والدولة بالمعاني الكلاسيكية القديمة، إذ تتغير مفاهيم مثل الجغرافيا والحدود والسيادة والقانون ومضمون الحريات وأشكال التعبير، وأيضاً أنواع وأشكال الضوابط الاجتماعية والأعراف والتقاليد.

ثانياً: تغيير في مفاهيم الضمانة الكلاسيكية وظهور أنواع أخرى متعددة، خاصة في ظل ضعف السيطرة على استخدام التقنيات الحديثة، وبالتالي، فإن هذه الصحافة الجديدة ستكون أقدر وأجرأ على التعبير ونشر الأفكار والمعتقدات والاتجاهات من كل الأنواع والأشكال.

ثالثاً: يمكن للجريمة أن تزدهر، الجريمة من كل الأنواع، التجارية والأخلاقية والأمنية والتطرف والإرهاب والتكفير .... إلخ.

رابعاً: هذا الإعلام يزيد من الانكماش والانطواء الثقافي والعرقي والاثني بشكل عام، أي أن هذا الإعلام، ورغم عالميته ورغم ما يدعي من عولمة، إلا أن ارتدادات ذلك هي الحفاظ على الخصوصية الثقافية الذي يفضي إلى التعصب والتطرف، وهو ما نراه فعلياً الآن.

خامساً: الوهم الذ1ي يقدمه هذا الإعلام من خلال الانتصار على الجغرافيا والزمن، يقدم خطوة أخرى إلى وهم غسيل الأدمغة الفردية والجمعية، وتعديل السلوك من خلال الشاشات التفاعلية، وقد اُسند لهذا الإعلام القدرة على إيقاظ الثورات وإشعالها، وكذلك فإن الألعاب المنتشرة الآن تهدد حياة الأفراد بشكل خاص.

سادساً: الإعلام الإلكتروني بشكل عام سيغير من طبيعة المنافسة التجارية والاقتصادية، وكذلك سيغير من طبيعة الإعلام بكل أنواعه، من حيث التطوير في الوسيلة والأداة والرسالة الإعلامية وطرق نقدها أو تعديلها أو التعامل مع التغذية الراجعة المصاحبة لها.

يمكن القول بعد هذا الاستعراض كله، إن الإعلام الإلكتروني وسيلة مذهلة لنقل البشرية نقلة نوعية أخرى، وبالعودة أو الاستناد إلى نظرية ماكلوهان التي تشير إلى أن التاريخ البشري يتغير عندما تتغير وسيلة الاتصال، فإن عصر الإعلام الإلكتروني – برأيي – تعني مزيداً من سيطرة رأس المال، ومزيداً من قوة الجهاز الحكومي، ومزيداً من ظهور الطغم المالية والاقتصادية، ومزيداً من الاستقطاب الثقافي والعرقي.

وقد يقول قائل إنني أُبشر بمستقبل غير وردي، وإجابتي إن ذلك إلى حدٍ ما صحيح، قياساً على انتقال البشرية في تاريخها بعد انتقال وسائل الاتصال إلى عصر الصورة والسلك ثم الكهرومغناطيس، إذ لم نشهد حربين عالميتان إلا بعد أن تم اختراع الراديو والتلفزيون واللاسلكي، وثم تحطيم الذرة، التكنولوجيا قوة مذهلة وتغري بالاستخدام.

والإعلام الإلكتروني يقدم خدمات لا مثيل لها في استخداماته الأمنية وتغيير السلوك وضبط النشاط الاجتماعي، أي أن هذا الإعلام في إحدى معانيه وأشكاله واستخداماته، يشكل عدداً داخلياً تجب مقاومته.

السؤال هو: هل يمكن تلطيف سوء الاستخدام؟! أو هل يمكن كبح جماح التوحش والغزو الذي يرافق هذا الإعلام الذي لا نتحكم نحن فيه كعرب أو مسلمين، في مفرداته ولا أولوياته ولا حتى خدماته؟! فهذا الإعلام يعزز النشاط الفردي على حساب العمل الجماعي، فهو إعلام فردي بالدرجة الأولى، ويعزز الأوهام والافتراضات.

وهو إعلام يشجع على سلوكية العصابة أو الفئة أو الموضة الجماعية، فهذا الإعلام لا يشجع كثيراً على التغريد خارج الجماعة أو الفئة أو الشلة.

وهو إعلام يقولب الأدمغة ويسطح المعاني ويقلل من السعي نحو الثقافة الجادة والسياسة على حساب الثقافة السطحية والترفيهية والغرائزية، وبهذا، فإن هذا الإعلام لا يدعو إلى التعمق في القضايا ويقطع الصلة بالماضي، وهو إعلام يساعد على تشظي الجهود والقضايا من خلال ولادة عشرات المبادرات ذات التوجه الواحد او الموضوع المتشابه، وهو بذلك يشكل منصة للتسابق على الشهرة الإعلامية بدل التركيز على العمل السياسي طويل الأمد، وبالتالي يظهر لدينا ما يسمى بالنضال الإلكتروني الكسول، لا يكلف صاحبه غير نقرة على لوحة المفاتيح، وهو لهذا أيضاً يعمل على التشويش بين الأدوار الإلكترونية والأدوار النضالية على أرض الواقع.

ماذا يمكن أن نفعل إزاء كل هذا؟!

جوابي هو: إن التربية الأسرية ثم التربية الموازية المجتمعية القومية والواضحة والصريحة وذات الأولويات وذات المرجعيات، يمكن أن تشكل علاجاً حقيقياً لكل السلبيات التي ذكرناها.

أقول بشكل أكثر وضوحاً:

لا يمكن مصادرة حق الناس بالمعرفة، ولا بالاضطلاع، ولا يمكن بالعودة بالتاريخ إلى الوراء، أي اننا دخلنا مرحلة الإعلام الإلكتروني، وبالتالي لا يمكن لنا أن نغمض أعيننا وكأنه ليس موجوداً، ولأن الأمر كذلك، فلابد إذن من تحصين الفرد وإكسابه المناعة الحقيقية، لأن يختار ويقرر، الحصانة والمناعة هي قدرة الثقافة على أن تشكل جداراً حقيقياً يصد كل الغزاة، أكانوا جنوداً أم برامج كمبيوتر أم رسائل إلكترونية لا نتحكم بها ولا بمرسلها ولا بكيفيات التعامل معها.

لن يتوقف غزو هذه المنطقة على مر التاريخ، ولكنها صمدت ونجحت دائماً.