غرف صفية بائسة..عبد الغني سلامة

الإثنين 12 مارس 2018 08:56 ص / بتوقيت القدس +2GMT
غرف صفية بائسة..عبد الغني سلامة



أتيحت لي فرصة زيارة عدد من المدارس في بعض المناطق الفلسطينية، وصار بوسعي وصف الغرف الصفية في مدارسنا عموما بِـ "الغرف البائسة"؛ فقد لاحظتُ أنها أُعدت بطريقة تقليدية عفا عليها الزمن؛ مقاعد الطلبة مصفوفة بطريقة عامودية مستقيمة تواجه السبورة، معظم النوافذ بلا ستائر، الأرضيات باهتة، ألوان الجدران كالحة، ومعظمها باللون الرمادي أو الأبيض، نادرا ما تجد علاقات للملابس، أو رفوفاً للكتب، أو خزائن للطلبة، بعض المدارس ما زالت تستخدم الطباشير، أحيانا تجد لوحات تعليمية أعدها الطلبة مثبتة على الحائط بشكل عشوائي، الصفوف دون تدفئة، ولا مكيفات، وغالبا حتى بلا مراوح.
في هذا النظام، يقف المعلم قبالة التلاميذ، ما يجعل التركيز كله منصباً عليه، وبالتالي لا دور حقيقيا للطلبة، وإذا تحدث طالب في الصفوف الأمامية فلن يستطيع من هم خلفه أن يروا تعابير وجهه، ما يعني أن لغة التواصل بين الطلبة شبه معدومة. 
غالبا ما يجلس الطلبة طوال القامة في الصفوف الخلفية، التي تتحول إلى "ملاذ آمن" للطلبة الكسالى، بينما يجلس الطلبة المتفوقون في الأمام، وبما أن الصفوف ضيقة، ويتكدس فيها عشرات الطلبة (غالبا أكثر من ثلاثين طالبا) فلن يكون هناك أي متسع لممارسة أي أنشطة رياضية أو تفاعلية داخل الصف. 
لذلك، لا عجب أن الطلبة ينتظرون انتهاء الدوام بفارغ الصبر، ولا يحبون مدارسهم.. ولا عجب أننا نخـرّج سنويا آلاف الطلبة الذي هم عبارة عن نسخ مكررة بصورة نمطية، تخلو من الإبداع والتفوق الحقيقي.  
والحديث لحد الآن عن البيئة الصفية (أي أثاث الغرفة وتنسيقها)، ولن نتناول هنا المناهج، وطرق وأساليب التدريس، والعنف بين الطلبة، وضدهم من قبل المعلمين، وإهمال حصص الرياضة والفن..إلخ 
وبما أن المنهاج الجديد (خاصة للصفوف الابتدائية) يقوم على التفاعل والتحفيز والمشاركة، وهذا أمر جيد ومهم، ونقلة نوعية محمودة، إلا أن غرفاً صفية بهذه المواصفات لن يكون بمقدورها توفير البيئة الملائمة لإنجاح هذا النوع من أساليب التدريس الحديثة، بل ستجعل المدرس مجبرا على الاستمرار بطرق التدريس التقليدية القديمة.. وهذا سينعكس سلبا أيضا على الطلبة.. 
ما الحل؟
بالتعاون مع وزارة التربية، بادرت مؤسسة "الحق في اللعب"، ومقرها في رام الله، بتجهيز غرف صفية نموذجية، على الأسس التعليمية والتربوية الحديثة، تراعي احتياجات الطالب النفسية والتعليمية، وتلبي متطلبات التعليم التفاعلي النشط، المبني على مفهوم التعلم من خلال اللعب الهادف، وهي فلسفة ورسالة هذه المؤسسة الريادية، التي ساهمت على مدى السنوات الماضية بتعميم مفهوم التعلم باللعب، ودربت عشرات المعلمين على ذلك.
والغرف الصفية التي جهزتها مؤسسة الحق في اللعب، عبارة عن غرفة كل شيء فيها مصمم بحيث يكون جزءاً من العملية التعليمية والتربوية؛ يتم اختيار الأثاث والألوان وتنسيق الديكور بناء على مواصفات معينة تراعي السلامة أولا، وتكون صديقة للبيئة، وتوفر جواً مثاليا للطلبة والمعلمين والعملية التعليمية نفسها؛ ألوان الجدران يتم اختيارها بعناية، وبمشاركة الطلبة، بحيث تكون جذابة ومريحة للنظر، لما للون من آثار نفسية على الجسم، وعلى نشاط الطالب.. أيضا الإضاءة تكون مريحة للعين، وتعتمد بشكل كبير على ضوء النهار، النوافذ واسعة، وتسمح بدخول الهواء، وتمنع الضوضاء، مع وجود ستائر بتصاميم معينة، وتجهَّز الغرفة بعلاقات للملابس، وخزائن يضع الطلبة فيها حاجياتهم، ومكتبة صغيرة. وكلها تنسق بشكل جميل وجذاب؛ بحيث تكون آمنة وتفاعلية وموائمة لاحتياجات الطلبة، ومتطلبات التعليم النشط، وتراعي ذوي الاحتياجات الخاصة.
أهم ما في الموضوع ترتيب مقاعد الطلبة، بحيث تكون مقاعد مريحة، يتناسب ارتفاعها مع أطوال التلاميذ، ومصنعة من مواد آمنة، توضع المقاعد خلف طاولات مستديرة توفر مساحات كافية للكتابة، وتتوزع الطاولات بشكل نصف دائرة، بحيث يرى جميع الطلبة بعضهم البعض، ويكون الأستاذ في المقدمة، بحيث يستطيع التركيز على الجميع دون تفاوت وبشكل أسهل، ويتبقى حيز كافٍ لممارسة الأنشطة الرياضية والتفاعلية وحتى التجارب العلمية البسيطة، ما يعطي الفرصة للجميع للتواصل فيما بينهم بالنظر، وللعمل الجماعي أو المناقشات.
في هذا النظام سيشعر كل طالب بأهمية نفسه، وأعماله التي قام بها، وهذا يدعو للتنافس والمبادرة والمشاركة الفعالة، فليس هناك مقاعد "للشاطرين، وأخرى "للتيوس"، بل هناك طلبة متفاوتون ومتنوعون في القدرات والاهتمامات والميول، وعلى المعلم إدراك هذا التنوع، وجعله إيجابيا.
ما فعلته مؤسسة الحق في اللعب أنها جهزت (15) غرفة صفية نموذجية بالمواصفات السابقة، والخبر المفرح، أن الأهالي والمجتمع المدني الذين أُعجبوا بالفكرة، واستحسنوها، قاموا بجهود ذاتية بتجهيز (40) غرفة صفية إضافية بنفس المواصفات، وربما بتجهيزات أخرى حسب الإمكانيات المتوفرة.. ما يبشر بإمكانية تعميم ونشر هذه الفكرة، بمساعدة المجتمع المدني والقطاع الخاص، حيث إن تكلفة المشروع، فيما لو أريد تعميمه على جميع المدارس، تفوق بكثير قدرات وإمكانيات وزارة التربية، وتفوق قدرة مؤسسة الحق في اللعب.
والمفرح أيضا، أن النتائج التي حققتها هذه التجربة مذهلة ورائعة، فقد أكد معلمو ومدراء تلك المدارس، وأهالي الطلبة أيضا أن التجربة كانت ناجحة بامتياز، فقد لوحظ أن الطلبة في تلك الصفوف صاروا يحبون المدرسة، ونسبة الغياب انخفضت بشكل كبير، حتى أن الطلبة صاروا هم بأنفسهم حريصين على نظافة وجمال صفهم، وصاروا أكثر تفاعلا مع الأساتذة، وتحسن مستوى تحصيلهم العلمي، وصاروا أقل ميلا للعنف والفوضى. 
وقد ولّد هذا الجو الإيجابي شعورا بالرضا والارتياح وإحساسا بالطمأنينة عند الطلبة والمعلمين على حد سواء، ومن المؤكد أنه ساعد المعلمين على إدارة الصف بطريقة أفضل وأكثر فاعلية.
ومن الجدير بالذكر أن وزارة التربية قامت (كمرحلة أولى) بتجهيز عدد من المدارس بالتعاون مع بلدية رام الله وبدعم منها، لتكون مدارس ذكية، أي تم تجهيزها بالتقنيات الحديثة التي تلبي متطلبات التعليم الحديث. فقامت بتحويل مدرسة بنات رام الله الثانوية، ومدرسة زياد أبوعين، إلى مدارس ذكية، من خلال استبدال أدوات التعلم التقليدية فيها بأدوات تفاعلية متماشية مع التطور التكنولوجي، ضمن مساعي البلدية في تعزيز البيئة التكنولوجية في المدينة، ومن  المقرر تجهيز سبع مدارس أخرى.
كل هذه التجهيزات والأدوات مهمة؛ لكن الأهم منها، أن يتم تأهيل المعلمين وتدريبهم على استخدام التكنولوجيا الحديثة، وأسس التعليم الحديث.