بكبسة «واتس آب» سقط اللسان والحصان ولبنان والإعلام ..د. نسيم الخوري

الإثنين 05 فبراير 2018 01:36 م / بتوقيت القدس +2GMT



في لقائنا الأخير مع الرئيس ميشال عون عبر «اللقاء التشاوري»، حاورنا الرجل مسكوناً وملحاحاً بمعضلة مزمنة بارزة في حديثه عن كيفية تخليص لبنان واللبنانيين من الطائفية والخطب الطائفية. ولطالما كانت المحاورات وتطلّعات اللبنانيين بمختلف طوائفهم تتحاور وتتجاور تحت شجرة التين عند عين التينة كنت أسأل الأخ الرئيس برّي بجدّية مطلقة: متى ستفتح الباب لينتسب لبنان إلى حزب يتجاوز الطوائف؟ كنت أقرأ الرغبة طافحةً في عينيه وملامحه لكنها مستدركة كونها خيالية تشارف المستحيلات في واقع لبنان واللبنانيين.
ترك فيديو مسرَّب لوزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، يتناول فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري بنعوتٍ وأوصاف قاسية، الكثير من الأنقاض والحرائق المتنقلة في شوارع لبنان وعاصمته ومدنه وقراه وساحاته كما في أمزجة اللبنانيين السياسية والخوافات الأمنية. لن أكرّر تلك الأوصاف مستذكراً رأي روي طومسون( 1894-1976) إمبراطور الصحافة البريطانية إذ كان ينصح الصحافيين بعدم تكرار الهفوات وزلاّت اللسان والأخطاء وذكرها عند نشر الاعتذار أو التصحيح أو التصويب وإلاّ فإنّ الخطأ ينتشر كما النار في الهشيم، وكأننا بذلك ننادي من فاتهم الخبر أو الخطأ إلى التجمّع مجدداً لمعرفة ما حصل. وأكثر كان يقول: ماذا ترانا نفعل حيال خطأ طباعي تافه غير مقصود ظهر بعد طباعة الجريدة؟ لا شيء. إنّه كما الحشرة السوداء الطافية فوق قدرٍ من اللبن يستوجب الاعتذار المبهم المهذّب لا الإفصاح أو التكرار اللذين لا يضيفان إلى ما ارتكب سوى المزيد من التأزيم.. عجباً لماذا يرقص بعض الإعلاميين وينتشون عند تأزّم الأوضاع إلى الحدود التي تبدو وكأنّها تتجاوز اللذة الجنسية؟ تغيّر العصر اليوم إلى درجة هجرة الأخلاق الإعلامية والمسؤوليات من الأحرام الجامعية والوسائل الإعلامية وساحات وسائل الاتصال الاجتماعية.
صحيح أنّه «في البدء كانت الكلمة، كما أوردها يوحنا، وكان الكلمة الله...» وأنّ الكلمة كانت وستبقى مقصلة في علاقات الأفراد والدول، لأنّها ما زالت تجرح وتورّث الكلوم والندوب وما أكثر نماذجها المعاصرة من حولنا، وصحيح أنّ الكلمة خرجت أساساً من رحم الكلم بفتح الكاف وكسر اللام وهي تعني الجرح وتجعلنا نتلقّف وقع المنطوق خارجاً من الشفتين المشقوقتين كما الجرح في صفحة الوجه سكيناً يحمل القذاعة والعداوة والانقسامات والفتن والحروب لا باباً للكلام الذي يحمل التعبير والمؤانسة ويصقل اللغة ويبعثها أو يحمل الفكر والإقناع أو غبار ما يعتمل في النفس من قهرٍ كما قال جبران خليل جبران، لكنّ الجديد والأصحّ، أنّ كلمة «تسريب» لأنّها رسبت ولا قيمة لها بعد في هذا العصر «الويكيليكسي» الذي ينزع الحجب عن كلّ ما يقال في السرّ والخفاء ويفضح المقال وحتّى اللامقال ويرفع الأغطية عن كلّ ما يهمس به اللسان صائناً أو خائناً لصاحبه. كان في القاعة فتاة التقطت بالجوّال أو السلطة المعاصرة الخفيّة ما باح به الوزير باسيل وعبر «الواتس آب» عمّمته بكبسة بسيطة ليسقط اللسان والحصان ولبنان في ميدان المحارق.
ما حصل ويحصل وسيحصل لم يكن مفاجئاً. هذا يستدعي الحكمة العربيّة القائلة: إنّه «القشّة التي قصمت ظهر البعير» أو أنّه مشابه لجناحي فراشةٍ طارت في أفريقيا فأخلّت بالتوازن فاسحة في المجال لهزّةٍ أرضية كما يشرح لنا علم البيولوجيا.
يتراجع لبنان، إذن، وتتراكم الانقسامات ويشعر المواطنون وكأنّهم يدفعون مجدداً إلى التجمّع فوق حفافي الانفجارات والحروب التي لطالما هزّت جذورهم وراكمت شهداءهم صوراً تمتلئ بها جدران مدنهم ومعاقين ومشوّهين يدمنون مستشفياتهم وعائلات وأبناء وبنات يهاجرون إلى منافي الأرض. أمس، اتّصل بي زميل من باريس قائلاً: إنّ ردّة فعل ولده على ما رآه على الشاشات كانت تمزيق هويته و»الانغماس كليّاً بحياته الفرنسية».
وعلى الرغم من أنّ اللبنانيين اعتقدوا أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون قد انتزع الفتيل المشتعل بدعوته إلى التسامح لأنّ ما حصل هو خطأ بني على خطأ، فإنّ ردود الفعل هي أعمق من الأفعال ولربّما ستقودنا في التجاذبات الطائفية إلى فهم معاني التثليث أو التوازن الجديد في مستقبل السلطات اللبنانية. وقد يحزن المتابع بل يخاف عند توصيف الحقد المتبادل ومتابعة النصوص التي تتجاوز القيء الذي تشتعل به مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان بدلاً من التخفيف والتلطيف والتعقل استدعاءً للسلم الأهلي والهدوء.
إلى أين من هنا؟
كتب الزميل الدكتور ميشال سبع الأستاذ جامعي المشهود له بوقاره في صفحته على الفيسبوك:
«... الشيعة لم يسامحوا أنفسهم منذ ألف وأربعمائة عام على خذلانهم للحسين، ومن لم يسامح نفسه ببساطة هل يسامح غيره ببساطة. لذا إذا كانت الإساءة بسيطة عند عون وباسيل فهي ليست بسيطة عند بري، وإذا كانت المسامحة سهلة عند عون فهي ليست سهلة عند بري .قد تكون مناسبة لنتعلم أن التعايش الطائفي كذبة وأن المواطنة وحدها هي الصالحة للانتماء الوطني».

* أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه، لبنان.
Drnassim@hotmail.com