تـصـالـح مـع نـفـسـك ..عبد الغني سلامة

الإثنين 16 أكتوبر 2017 01:09 م / بتوقيت القدس +2GMT
تـصـالـح مـع نـفـسـك ..عبد الغني سلامة



يظن أصحاب الفكر التنويري التقدمي أنهم أفضل ممن ينشرون الخرافات والأساطير.. باعتبار أنهم يسعون للارتقاء بالإنسان، وتوسيع مداركه، وفتح آفاق المعرفة والعقل ووو.. خلافا لمن ينشرون الفكر الرجعي والغيبي والسطحي ووو.. في الواقع، فإن الطرفين يروجان لأفكارهما ومعتقداتهما انطلاقاً من الزاوية التي يقف فيها كل طرف، ومن منظوره الخاص.. ومشكلة كل طرف أنه يقيس وعي الآخرين بمسطرته الخاصة، ويريد لهم أن يكونوا على ذات المسطرة.. بطرائق تفكيرهم، وأنماط حياتهم.. وهذا طبعا هو السعي نحو المستحيل.. 
الحقيقة الوحيدة الثابتة في الكون، أنه ليس هناك حقيقة مطلقة، ولا وجود للصواب الدائم.. وللحقيقة وجهان.. الناس مختلفون فيما بينهم أيما اختلاف في شتى المجالات.. والمسائل دوما نسبية، ومتحركة.. ولا نعلم على وجه اليقين، أين هو الصح، ومن يمثله.. وكل من يعتقد أنه يمثله حصريا إنما هو مدعٍ وواهم؛ فكل صواب فيه قدر معين من الخطأ، والعكس صحيح.. وكل شقاء أو تعاسة تحتمل وجها ما للسعادة.. ولا نستطيع أن نجزم أين تكمن السعادة، ومن يعيشها، وبأية طريقة؟ فليس لها شكل ثابت، أو طريق حتمي وحيد دون سواه.. 
وفقا لأحكامنا الجاهزة، نكاد نجزم بأن السعادة تقتضي العيش في منزل واسع رحب نظيف، تتوفر فيه سبل الراحة والرفاهية.. ولكن، ماذا عن شخص ارتضى أن يعيش في كوخ معزول، أو في البراري والبوادي، أو في كهف مهجور.. هل نقول عنه إنه تعيس، أو متخلف؟ أم نجبره على العيش في بيئة حضارية؟ 
وحسب أحكامنا المسبقة؛ فإن الأخلاق والقيم تتطلب احترام عادات المجتمع، ومفاهيمه.. والامتثال للنظام الاجتماعي السائد... ولكن ماذا بشأن من اختار الخروج عن المألوف، واجتراح أفكار ومفاهيم ثورية، أو ابتداع أساليب جديدة ومختلفة.. هل نقول عنه غريب الأطوار، أم متمرد، أم شاذ، أم ريادي؟
أيهما أكثر سعادة، الإنسان الذكي أم الغبي؟! المتعلم والمثقف، أم الجاهل؟ سيتسرع البعض بتقديم إجابة قاطعة بأن الذكاء أفضل من الغباء، وأن العلم والمعرفة نعمة.. لكن، ألا يمكن أن يكون الغبي أو الجاهل أسعد حالاً وأهنأ بالاً من المثقف والمتعلّم! ببساطة لأنه تجنب التصادم مع الواقع وتعقيداته، وجعل الحياة سهلة ومقبولة دون غموض وحيرة، ودون الحاجة للغوص في التفاصيل والمعارك الجدلية. 
هل الإنسان غير المتعلم الذي عاش ومات ولم يسمع شيئا عن النظرية النسبية، والفلسفات المادية والوجودية وصراع الحضارات... هل نعتبره لم يعش الحياة؟ لأنه لم يطلع على النظريات الفلسفية الحديثة وعاش عوضا عن ذلك على المفاهيم الغيبية والميتافزيقية (عَ البركة). 
هل المرأة التي لم تقرأ شيئا عن المساواة بالرجل، ولا تعي حقوقها القانونية والشرعية والإنسانية.. ولكنها تعيش في كنف زوجها أو أبيها راضية مرضية، قانعة بحياتها المتواضعة، هل نحرضها على الثورة، ونطالبها أن تنضم لاتحاد المرأة، وإلا اعتبرناها متخلفة، خانعة، عدوة لنفسها!
هل الشخص الذي لم يؤمن أو لم يسمع بالليبرالية واليسارية والحداثة والعولمة والشعر المعاصر والفن التكعيبي والمسرح التجريبي والسينما التفاعلية ووو هل نعتبره رجعيا، وعديم الثقافة، ولا يستحق الحياة!
ثمة ما يشبه الإجماع، على أن الصحة والسعادة تكمن في الجسم الرشيق الممشوق وممارسة الرياضة، ومن أجل ذلك ينفق العالم مليارات الدولارات على تخسيس الوزن وأنظمة الحمية المختلفة... صحيح أن الرياضي يتمتع بخفته ورشاقته، ويلبس ما يحلو له.. ولكن، البدناء أيضا، وذوي الوزن الزائد يستمتعون بأشهى الأطعمة، ولا يحرمون أنفسهم من أطايب الطعام، ولا يتعبون أنفسهم برياضات شاقة.. وهم عادة يتمتعون بحس فكاهي..
ويكاد يتفق معظم البشر على أن الحياة الحقيقية تبدأ بعد الزواج، وأن الأسرة هي مصدر وسر السعادة، والاستقرار، والراحة النفسية... ولكن ألا يتمتع الأعزب والعزباء بحياتهما على النحو الذي ارتضياه لنفسيهما؛ بالحرية، وراحة البال، وعدم تحمل مسؤوليات البيت والأولاد، وتجنب مشاكل الغيرة والمساءلة ووو... 
كما يظن كثير من الناس أن المال يجلب السعادة، وهو شرط للاستقرار النفسي.. فالغني بوسعه شراء كل ما يحتاجه، وما يرغب به، وما يتمناه.. ولكن الفقير أيضا قد يسعد براحة باله، وببساطة أسلوب حياته.
ويؤكد الجميع تقريبا أن الصحة أهم شيء، وأغلى ما نملك.. وبعدها تهون أي مصيبة.. ولكن، أليس معظم التعساء والحزانى والمهمومين، وحتى المنتحرين من شدة الملل.. أغلبهم، أو جُلهم أناس أصحاء جدا.. 
ويرى معظم الناس أن الجمال يكمن في البشرة البيضاء والشعر الأشقر والعيون الملونة (وإن ادعوا عكس ذلك، خشية اتهامهم بالعنصرية) وهذا طبعا غير صحيح، السود والملونون لهم مجتمعاتهم ومقاييسهم للجمال، وإحساسهم به.. وعندما شاهد السود الرجل الأبيض المستعمر أول مرة، ظنوا أنه تعرض لحادث ما، أدى إلى كشط جلده وتشوهه بهذا الشكل.. 
يمكنك أن تستمتع بالحياة بطرق كثيرة، لا يهم إن كنت في العشرين، أم في الستين. أسود أم أبيض. ذكرا أم أنثى. غنيا أم فقيرا. رشيقا أم سمينا. جميلا أم لا حظَّ لك من الجمال. متعلما أم أميا. طبيبا أم مزارعا. مسلما أم مسيحيا. متدينا أم علمانيا. تحب الموسيقى والأفلام، أم تهوى المطالعة. تحب السفر والمغامرة، أم تعشق النوم والكسل. تشجع برشلونة، أم ريال مدريد.. المهم كيف تنظر إلى داخلك، كيف ترى روحك، وتحس بها.. المهم أن تكون متصالحا مع نفسك، منسجما مع ذاتك، على سجيتك، راضيا بما أنت فيه (هذا لا يتعارض مع الطموح والأحلام والمثابرة).. 
المهم أن تحب نفسك (دون أنانية)، وأن تؤمن بذاتك (دون غرور)، وأن تحب الآخرين (دون أن تسعى للسيطرة عليهم)، وأن تنهل من الحياة وتستمتع بها (دون أن تعتدي على أحد).. 
هى حياة واحدة، نعيشها ونستمتع بها أو نتألم منها إلى أن يأخذ الله وديعته، سواء كنا أذكياء أو أغبياء، أثرياء أو معدمين.. فلا ذكاؤنا ولا ثراؤنا سيشفع لنا أمام الموت.. 
هي حياة، واحدة، لنحياها بحب وسلام، وصفاء داخلي، وبأقصى ما نستطيع من سعادة.. 
ثق بالله وأحبه، وكما قالت فيروز: لا تقل الله في قلبي، بل قل أنا في قلب الله..