المصالحة الوطنية كاستفتاء للفلسطينيين .. حسين حجازي

السبت 14 أكتوبر 2017 09:20 ص / بتوقيت القدس +2GMT



ما فعلته "حماس" إذن، هو أنها قامت برد او إعادة "العجل الى بطن امه" كما يقال في الأمثال الشعبية، والعجل الذهبي المقصود هنا هو السلطة، سلطة أوسلو التي اعتبرتها حماس والبعض أيضاً بمثابة خطأ تاريخي، ومر وقت بُعيد إنشاء هذه السلطة كان الغزيون يسخرون منها في نمائمهم ويشبهونها بطبق السلطة من الطعام كنوع من التناص اللغوي. 
ومر وقت ايضا كان الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد والإعلام السوري يتعمد ان يسميها "سلطة الحكم الذاتي المحدود"، في الوقت الذي لم يأت عرفات ولا القادة الفلسطينيون منذ ذلك الوقت الى الآن على ذكر هذا التعريف الذي يربط السلطة بالحكم الذاتي، وبدلا من ذلك كان تركيزهم دوما على الربط بين هذه السلطة والدولة. 
وكان الرئيس عرفات كما الرئيس أبو مازن اليوم رئيس دولة فلسطين لا مجرد رئيس لحكم ذاتي محدود، حتى ولو في لحظة من الغضب الفلسطيني لوح الرئيس ابو مازن برد هذه السلطة هو أيضاً الى إسرائيل اذا كانت ستبقى مجرد سلطة بلا سلطة حقيقية على الأرض.
هكذا اذن، تحولت السلطة في الانتقادات الغزية اللاذعة قبل عشرين عاما وحاول الفلسطينيون عقابها في آخر انتخابات أجروها، وتسببت في هذا التيه السياسي عشر سنوات، الى ما يشبه خشبة الخلاص. وفي غضون السنوات العشر الصعبة لم يخرجوا بمثل هذه الاحتفالات العارمة والعفوية تماما الى الساحات وكأنهم في نشوة من النصر، الا مرتين: بعيد انتهاء الحروب الثلاث في كل مرة، والمرة الثانية هذه الأيام بعد الاعلان صباح يوم الخميس عن التوصل الى الاتفاق التاريخي بإنهاء الانقسام، والمصالحة بين فتح وحماس.
هل كان هذا من قبيل انتصار الحياة على النظرية او الايدولوجية الاصح باعتبار الايدولوجية تعبيراً مضللاً او مشوهاً للواقع؟ او المادية على المثالية؟ وفي وقت مبكر من إنشاء هذه السلطة رأينا سعي عرفات الدؤوب على طريق الاقتصادي الانجليزي الشهير في القرن التاسع عشر آدم سميث، الى ربط أوسع المصالح الحيوية المباشرة للناس بالسلطة، كما لو انها حبال متينة ولكن غير مرئية، لكيما تستند هذه السلطة في بقائها وعدم القدرة على إزالتها او الاستغناء عنها، الى قوة من المصالح التي لا يمكن تجاوزها. 
سلطة على طريق الدولة المستقلة على صورة النظام السياسي العالمي وجزء من هذا النظام، ولسوف يحسم هذا العامل فيما بعد الصراع الداخلي عليها، الذي سيتحول الى انقسام غير شرعي ولا يمكن استمراره منذ العام 2007. وان هذه هي الدولة السياسية الفلسطينية التي سوف تتحول الى المعصرة الفكرية في الواقع، لإعادة صهر التناقضات الفلسطينية في بوتقة واحدة وتؤدي في الوقت نفسه الى إعادة حماس تكييف خطابها السياسي على قاعدة فك الاشتباك بين الواقع والايدولوجيا، بين المادية والمثالية. حين يؤدي الصدام او التعارض المأساوي بين هذه المصالح المباشرة ولكن المعقدة والنظرية الى إعادة النظر بهذه النظرية القديمة.
وكما لم يكن متوقعا بل مفاجئا ومباغتا ويحمل معه نحو نصف دزينة من الأسئلة، فان نهاية الصراع على السلطة والتفكك الفلسطيني الداخلي حدث يحمل بصمة ومباركة وتأييد العالم مجتمعا، بما فيه -ويا للمفارقة والعجب- الإدارة الأميركية الجديدة وإسرائيل دولة الاحتلال. 
ورأى التحليل السياسي الفلسطيني كل الدوافع والأسباب التي تفسر دوافع أميركا وإسرائيل، عدم اعتراض السعي المصري لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ان يحل أخيراً العقدة. وكان اللافت ان كل هذا قد حصل فيما يشبه سلسلة معقدة من الانقلابات في المواقف بل والتحالفات المستترة، التي لا تزال تثير الحيرة والتساؤل او التفكير حول المآل الذي يمكن ان تنتهي اليه هذه العملية. كما لو ان ممثلي الانقسام الفلسطيني سيقا معا الى هذه الوحدة من جديد بقوة دفع من الخارج، حتى طرح السؤال كيف يمكن لنا الآن موحدين معاً ان نقرر السير على طريقنا نحن وتحقيق أهدافنا نحن، وليس اهداف الآخرين او ما يريدونه او يرسمونه لنا، لئلا نكون اداة يتلاعب بها الآخرون.
لكني لا أرى ان هناك داعياً لإثارة او طرح مثل هذه الأفكار او الهواجس في محاولة استباق الأحداث، وان كان عذر التحليل الصحافي هو دأب الصحافة الذي يبدو كلازمة مرضية، بالبحث دوما وراء مخفي او غامض او مستتر كنوع من الفضول المعرفي والتحريض على هذه المعرفة على حد سواء. 
بيد ان خيطاً رقيقاً او رفيعاً لعله يجب ان يظل فاصلاً بين هذين الأمرين، التفاؤل بالخير أي التبشير، والتنفير. وقد تعلمنا وعلمنا انفسنا ولعلنا اكتشفنا لهذا السبب أي بحكم مراسنا الطويل في التصارع مع هذه التحديات او التعقيدات، ان لا احد يستطيع ان يأخذنا الى ما لا نريد. وان ما نقرره نحن كما كان عرفات يقول ويقول ذلك اليوم الرئيس ابو مازن هو ما يهم، وليس ما يقرره الآخرون عنا او تُسول لهم به أنفسهم.
وهذه المصالحة اليوم هي انتصارنا معا على انفسنا، وعلينا ان ننظر اليها على هذا النحو، الانتصار والتفوق على الذات، الذي يعكس او يؤشر الى انفعال عميق وكامن حتى بلوغ اللحظة التي تشبه الطفرة او القفزة في نضج واستكمال تحقق الظرف الذاتي، الذي تقاطع مع الظرف الموضوعي. وكأن هذا هو ربيع الفلسطينيين المعاكس في استثنائهم او نجاتهم من إعصار التمزق والتفكك في محيطهم الإقليمي.
واعترف دونالد ترامب المثير للجدل في حديث له مؤخرا ان المفتاح لحل كل مشكلات الشرق الإوسط هو تسوية وحل القضية الفلسطينية، ام كل المشكلات وقلب جميع الصراعات. وكان الرئيس المصري الذي وضع كل ثقله لانجاح المصالحة واضحاً حين ربط بين هذا التحول وتحقيق السلام أي التسوية مع إسرائيل. فهل تبدو الظروف الإقليمية والدولية قد نضجت تماما للذهاب الى عقد هذه التسوية؟ ولكن هل ثمة بعد أي مخاوف عن سلام إقليمي وفق الأفكار الإسرائيلية بعد تصريحات العاهل السعودي في موسكو مؤخراً بوضوح حول مرجعية هذا السلام على قاعدة اقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران، بما فيها القدس الشرقية؟. 
والذي يحدث اليوم ان الفرق بين الاستقلال الفلسطيني والاستفتاء حول استقلال إقليم كردستان العراق، ان الإقليم والعالم كله يريد ويجمع على استقلال الفلسطينيين وإقامة دولتهم باستثناء إسرائيل، التي تقف وحدها معزولة عن العالم في هذا التوافق والإجماع. بينما مأساة الأكراد ان جميع الدول المحيطة بهم والعالم يقف ضد استقلالهم، وان الدولة الوحيدة التي تقف معهم هي إسرائيل. ولهذا لا يبدو ان ثمة شبيها في مصير كلا الحالتين، وما حدث فلسطينياً هو إنهاء وهم الدولة في غزة بديلاً عن الدولة الفلسطينية الواحدة في الجغرافيا، التي تشمل الضفة وغزة. وبهذا المعنى فان المصالحة هي بمثابة الاستفتاء الفلسطينيين على استقلالهم الوشيك.