لا يوجد في السياسة الراهنة ما يحدث بفعل الصدفة إلا ما ندر، ولا يعقل أن يكون قرار حكومة الدكتور رامي الحمد الله بوقف دفع العلاوات لموظفي الحكومة في قطاع غزة والذي يعنى تقليص ما بين 30% - 50% من رواتب هؤلاء جاء صدفة، بل على الأغلب هو قرار مدروس ومخطط له، وهو جاء قبل أيام من زيارة الرئيس أبو مازن لواشنطن، فهل هناك علاقة بين الزيارة وبين ما يحدث في غزة؟
من الواضح أن تقليص الرواتب جاء في إطار مواجهة بين السلطة وبين حركة «حماس» وخاصة بعد إعلان الأخيرة تشكيل لجنة خاصة بإدارة غزة مكونة من 10 وزارات، وهذه اللجنة هي بمثابة حكومة موازية لحكومة التوافق التي يقودها الحمد الله، بل هي في غزة الحكومة الفعلية وصاحبة القرار في كل ما يتعلق بإدارة شؤون القطاع، كما أنه بات واضحاً كذلك أن هذه خطوة من سلسلة خطوات تعتزم السلطة اتخاذها تجاه القطاع ومنها على سبيل المثال وقف دفع مقابل السولار لمحطة كهرباء غزة والضريبة المسماة «البلو» وهي ضريبة المحروقات، وقد تطال خطوات السلطة التوقف عن تزويد القطاع بالأدوية والمستلزمات الطبية.
وعلى ما يبدو ستكون هذه الخطوات في إطار ما تحدث عنه الرئيس أبو مازن من ردود غير مسبوقة على تشكيل «حماس» للجنة إدارة غزة.
هذه الخطوات هي وسيلة للضغط على «حماس»، وحتى تقليص الرواتب الذي يطال الموظفين المحسوبين على حركة «فتح» والموالين للسلطة عموماً يهدف للضغط على «حماس»، فزيادة الضغط والأعباء الاقتصادية تؤثر على إيرادات «حماس» التي تستفيد من القوة الشرائية لقطاع الموظفين وهو القطاع المنتج الأهم في القطاع، كما أن غضب هؤلاء سيوجه في نهاية المطاف ضد «حماس» لأنها السلطة القائمة في غزة خاصة عندما يقترن تخفيض الرواتب بتقليص ساعات الكهرباء وعودة برنامج الساعتين أو الثلاث ساعات، بالإضافة إلى المشكلات الناجمة عن تقلص خدمات السلطة الطبية وغيرها.
ونحن شاهدنا كيف أن موضوع انقطاع الكهرباء كاد يفجر الموقف في غزة بعد المظاهرات الضخمة والحاشدة التي شهدها القطاع.
ويبدو كذلك أن القطريين ليسوا على عجلة ممن أمرهم لتغطية فاتورة الكهرباء فقد انتهت المنحة القطرية ولا صوت يسمع لقطر في هذا الشأن.
وقد تكون قطر هي الأخرى تريد قرص أذن «حماس» بعد محاولات الأخيرة استعادة العلاقة مع إيران.
وهنا تظهر مسألة زيارة الرئيس لواشنطن قريبا، فهل الرئيس يريد الضغط على «حماس» لدفعها نحو المصالحة لتعزيز موقفه أمام الرئيس دونالد ترامب في الصفقة التي ستعرضها الإدارة الأميركية الجديدة على طرفي الصراع في المستقبل القريب، أم أن الرئيس يستمد التشجيع من نجاح زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للولايات المتحدة والدعم الذي حصل عليه باعتباره حليفاً لواشنطن في حربها ضد الإرهاب وفي موقف الإدارة من دعم السلطات المصرية في صراعها مع جماعة «الإخوان المسلمين» والجماعات الإرهابية الأخرى في مصر، وهو بالتالي سينضم لهذا التحالف وبدلاً من أن يصبح في الطرف الآخر يكون في صف واشنطن، وبالتالي يتجنب الضغط الأميركي.
يبدو أن هناك صلة قوية بين زيارة الرئيس أبو مازن لواشنطن وبين الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة والخطوات اللاحقة، وقد يكون لرد فعل الإدارة الأميركية تأثير على الإجراءات القادمة.
وتفعل «حماس» لنفسها ولشعبها خيراً لو قامت بالاستجابة لصوت العقل والمنطق وقبلت بالمطلب الوطني الذي يدعو للوحدة ولتسليم القطاع لحكومة التوافق أو حكومة وحدة وطنية يجري الاتفاق عليها لإجراء انتخابات حرة لكل المؤسسات الفلسطينية للرئاسة والبرلمان وانتخابات بلدية ونقابية ليترك للشعب أن يقرر من هم الذين يختارهم لتولي زمام السلطة.
وهذا لن يكون فقط لتلاشي الأسوأ في العلاقات الوطنية وتجاوز محنة قطاع غزة، بل ستكون خطوة وطنية بامتياز للتصدي للاحتلال والضغوط التي يمكن أن تفرض على القيادة في ظل التفاهمات الأميركية - الإسرائيلية.
ليس واضحاً ما هي مكونات صفقة ترامب لحل الصراع وقد تكون مجرد فكرة مؤتمر إقليمي تحصل في إطاره إسرائيل على علاقات طبيعية مع عدد من الدول العربية وليكون غطاءً لحرب إقليمية قادمة قد تكون ضد إيران ويخرج منها الفلسطينيون بخفي حنين، على غرار مؤتمر مدريد الذي مهد للحرب على العراق ولم ينتج للفلسطينيين سوى خيبة الأمل.
وقد تفشل صفقة ترامب وترفضها إسرائيل أو يرفضها الطرفان فيتراجع عن فكرة التدخل خاصة وهو متقلب المزاج على غرار موقفه من سورية الذي يظهر كل يوم في حال.
غزة على برميل بارود والوضع فيها مرشح للمزيد من السخونة التي قد تصل للانفجار، وقدرها على ما يظهر من تجارب الكفاح أن تدفع الثمن في كل السيناريوهات إلا سيناريو واحداً وهو الوحدة الوطنية التي يمكنها أن تحمي غزة. ولكن هذا على ما يظهر لا يزال بعيد المنال في ظل تغلب المصالح الفئوية على المصلحة الوطنية، وفي ظل غياب المؤسسة الوطنية الجامعة والقادرة على الحسم، وقد نصل إليه بعد أن ندفع ثمناً باهظاً من الضحايا والمعاناة والألم.