خبر : الإخوان المسلمون: قراءات في المشهد التنظيمي والحركي والسياسي ..المستشار د. أحمد يوسف

الإثنين 17 أكتوبر 2016 10:01 ص / بتوقيت القدس +2GMT
الإخوان المسلمون: قراءات في المشهد التنظيمي والحركي والسياسي ..المستشار د. أحمد يوسف



توطئة وتقديم
مما لا يختلف عليه اثنان أن حركة الإخوان المسلمين التي انشأها الإمام حسن البنا هي اليوم من أكبر التيارات الإسلامية الأوسع انتشاراً على المستوى الإقليمي والعالمي.. صحيح أن الحركة أخذت اتجاهات متعددة على مستوى تسمياتها الإسلامية، وأصبحت لها عناوين دعوية وسياسية مختلفة، إلا أن جوهر الفكرة والرؤية والمسار مازال – إلى حدٍّ كبير – يمضي على نفس الخط والمنهجية التي اعتمدها الإخوان منذ نشأة هذه الحركة في عام 1928م.
لاشك بأن تجارب الحركة والتحديات التي واجهتها في بعض الأقطار فرضت عليها التكيّف والتعايش للحفاظ على وجودها، والتخفيف من حالة الظلم والاضطهاد الذي لحق بقياداتها وكوادرها ومؤسساتها.
إن الربيع العربي قد منح الإخوان المسلمين في البداية فضاءاتٍ سياسية واسعة، تخلقت معها أجواءً من المرونة الأيدولوجية، والانفتاح على الأخر، والرغبة في التواصل معه، والتحرك باتجاه العمل بمنطق "المشاركة لا المغالبة"، وخاصة في سياق أشكال النظم الحاكمة القائمة اليوم على مبدأ الشراكة السياسية (Power Sharing).
لا شكَّ أن حالة الإخفاق التي أصابت الربيع العربي أدت إلى تراجع الإسلاميين في مشهد الحكم والسياسة، ولم يعد هناك ما يمكن الحديث عنه حول ظاهرة الإسلام السياسي إلا بعض التجليات في تونس والمغرب، إضافة إلى تجربة حزب العدالة والتنمية (AK Party) في تركيا، والتي تعتبر بمثابة استثناء مميز سبق الجميع منذ عقد من الزمان، وتتشكل القناعة بفعاليته سنة بعد سنة.
أولاً: مفهوم البيعة والولاء
إن حركة الإخوان المسلمين أشادت بنيانها على مجموعة من المفاهيم والمنطلقات والركائز، التي تنامت أو تفاوتت حالة النظر إليها بين الإخوان بحسب المستجدات والوقائع والأحداث وتطورات أوضاع الحركيِّة الإسلامية في المنطقة من مرحلة إلى أخرى.. ويأتي مفهوم "البيعة والولاء" ليأخذ مكانة الصدارة وحجر الزاوية في كل أعمالها التربوية والتنظيمية، وبدرجة أقل في عملها السياسي.
ونظراً للإساءات الكثيرة التي طالت مفهوم "البيعة والولاء" عند الإخوان المسلمين من بعض الكتَّاب والمحللين السياسيين، فإننا سنحاول تناول هذا المفهوم، من حيث دلالاته التراثية ومعانيه التنظيمية، والإجابة على التساؤل حول قيمته الدينية والأخلاقية والسياسية، في وقتٍ تكاثرت فيه الجماعات والأحزاب الإسلامية، ليس فقط على مستوى العالم بل حتى على مستوى البلد الواحد.
الإخوان المسلمون: الرؤية والمسار
إن البيعة عند الإخوان المسلمين هي إحدى أهم الركائز الأساسية، التي يتعلق بها نظام الإخوان المسلمين الأساسي، كما أن قاعدتهم التنظيمية مبنية بشكل كامل على هذا الأساس، وقد ظهرت بيعة الإخوان المسلمين مع بداية نشأتهم على يد الإمام حسن البنا (رحمه الله) عام 1928م، وهى بيعة أخذها الإمام البنا لنفسه وألزم بها أتباع حركته، أي بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924م.
إن الفكرة التي انطلقت منها رؤية الإمام البنا لتأسيس حركته هي أن سقوط الخلافة قد أوجد فراغاً سياسياً، حيث غدت الأمة الإسلامية بدون قيادة ومكانة بين الأمم، وأن ما كان فرض كفاية في السابق قد أصبح – بعد سقوط الخلافة - فرض عين على كل مسلمٍ ومسلمة، لاستنهاض الأمة كي تستعيد موقعها الريادي بين الأمم، وبالتالي جاءت دعوته لتبدأ من مرحلة بناء الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، إلى مرحلة قيام الدولة المسلمة، التي تأخذ على عاتقها مسؤولية استئناف الحياة الإسلامية من حيث حماية الدين ورعاية المجتمع وتحصين الأمة.
وهذا هو نصُّ البيعة عند الإخوان المسلمين منقولاً من مذكرات الإمام الشهيد حسن البنا، وكتاب سيد قطب "معالم في الطريق":
"أبايعك بعهد الله وميثاقه على أن أكون جندياً مخلصاً في جماعة الإخوان المسلمين، وعلى أن أسمع وأطيع في العسر واليسر، والمنشط والمكره إلا في معصية الله، وعلى أثرة علىَّ، وعلى ألا أنازع الأمر أهله، وعلى أن أبذل جهدي ومالي ودمي في سبيل الله ما استطعت إلى ذلك سبيلا، والله على ما أقول وكيل"، "فمَن نكث فإنما ينكُث على نفسه، ومَن أوفى بما عاهد عليه اللهَ فسيؤتيه أجرًا عظيمًا"".
ويقول مؤرخو جماعة الإخوان المسلمين إن البيعة لدى الإخوان المسلمين تنقسم إلى قسمين:
1) البيعة الكلية: التي تكون للإمام أو خليفة المسلمين؛ ولأن الخلافة انتهت فلا يوجد الآن معنى للبيعة الكلية.
2) أما البيعة الجزئية فهي البيعة لجماعة الإخوان المسلمين ومرشدها العام، وبالتالي تكون البيعة الجزئية المؤقتة، وأما إذا وجد خليفة للمسلمين فإن البيعة الجزئية تنحل تلقائيًا، وتصبح البيعة واجبة لخليفة المؤمنين.
نكسة 67: الصدمة والتحول في الفكر والرؤية
قبل الخوض في الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين، أود التنويه إلى أن ما سأتناوله من أفكار وطروحات حول الحركة هو تجربتي الشخصية مع الإخوان في المحطات العديدة التي عشتها في هذه الحركة، التي انتظمت صفوفها منذ العام 1968م، أي بعد نكسة عام 67 مباشرة، والتي أحدثت انقلاباً جذرياً في حياتي من شخصٍ عشق الرئيس جمال عبد الناصر، وكان منتمياً لرؤيته السياسية وخطابه القومي العروبي، إلى شخص آخر ألقت به الصدمة والذهول (Shock & Awe) وأجواء الاحباط، التي أعقبت الهزيمة لأن يرتحل مهاجراً إلى معسكر الإسلاميين، ويصبح بعد العديد من السنوات مؤثراً وفاعلاً بداخله، وخاصة في مجال الفكر والكتابة .
سأحاول تناول دلالات معنى "البيعة والولاء" في سنوات النشأة الحركيّة للتيار الإسلامي، والتي كانت أدبياتها الدينية والفكرية والعاطفية تشكلها بالدرجة الأولى كتابات الشهيد سيد قطب (معالم في الطريق، وسلسلة في ظلال القرآن) وأخيه الأستاذ محمد قطب (جاهلية القرن العشرين، التطور والثبات في حياة البشرية، الإنسان بين المادية والإسلام...الخ) إضافة إلى كتب الإمام حسن البنا (رسالة التعاليم، مذكرات الدعوة والداعية) والشيخ محمد الغزالي (عقيدة المسلم، خلق المسلم، كفاح دين، قذائف الحق).
هذه الكتب كنا نقرأها أو نتدارسها كمفاهيم للتلقي والتنفيذ؛ وكأنها وحي يوحى.. وتتجلى معها رؤيتنا لأنفسنا كجيل قرآني فريد، ونظرتنا للمجتمع باعتباره مجتمع جاهلي، المطلوب منا الابتعاد عنه حتى تتحقق العزلة الشعورية والطهارة السلوكية وألق الرؤية الفكرية، وعلينا السعي لحشد من فيه الخير لهدايته، وضمه لجماعة المخلصين الأخيار من جند الله ثقافةً وأخلاقاً..!!
هذه الحالة عشناها بحرفيتها في قطاع غزة في المرحلة التي أعقبت الهزيمة، وكان التفسير السائد لدى الإخوان – آنذاك - هو أن الهزيمة إنما جاءت كعقاب رباني لما ارتكبه نظام عبد الناصر من جرائم بحق شيوخ الإخوان وكوادر الصفوة منهم.
لا شك بأن "البيعة والولاء" في المفهوم الإخواني هي المحطة الأولى أو بوابة العبور للتنظيم، ومن ثمَّ الارتقاء التدريجي إلى المواقع العليا والهياكل الهرميِّة لقيادة الحركة.. إن البيعة كانت – آنذاك - بمثابة قدس الأقداس، ودرجة الولاء يحكمها مدى التقيد الحَرفي بالنصوص، وجدية الالتزام المطلق بالتعليمات، وشدة الحرص على تجنب الخوض في المناكفات، والابتعاد عن دوائر النقد والتشكيك، والعمل بسياسة "نفِّذ ثم ناقش"..!!
كان التنظيم في تلك الفترة هو الوطن، والحركة هي المؤسسة الحاكمة، والفرد هو الجندي الذي لا يملك إلا أن يَسمع ويُطيع.
وبالرغم من أن الإخوان في أدبياتهم لم يقولوا – بصراحة - أنهم "جماعة المسلمين"، إلا أن الظرف الذي ظهرت فيه الحركة عقب سقوط الخلافة عام 1924م، أعطاهم الانطباع بأنهم يمثلون حقاً "جماعة المسلمين".
لاشك بأن الإخوان المسلمين مرَّوا خلال مسيرتهم الدعوية بعدة مراحل كان فيها مفهوم "البيعة والولاء" له درجات خاصة ودلالات مختلفة، وإن كان القاسم المشترك فيه واحد؛ ألا وهو الشعار الذي اعتاد الإخوان على ترديده في كل مناسبة واحتفال: "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا" أو الشعار الذي رفعته الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر (الفيس) "لا إله إلا الله؛ عليها نحيا وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله".
البيعة: الأبعاد الدينية والحركية
إن النقطة التي عالجت موضوع "الجماعة والبيعة" جاءت مقتضبة، وأثارت أسئلة منها حديث ابن مسعود: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ منها التارك لدينه المخالف للجماعة"، وحديث "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية"، وحديث "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع".. وتساءل البعض هل يصح أن يوجد المسلم بغير جماعة؟ وهل يعني خروجه عن الجماعة خروجه عن الملة؟ وتساءل آخرون: هل إذا عمل الشخص في منظمة معروف أنها تتعارض مع ما يقرره الإسلام أو أنها تعمل لمحاربة جماعة الإسلام، فهل يحكم له بالإسلام؟
الإجابة كما أوضحها الأستاذ الهضيبي : بأن الذي عنينا بالرد عليه في بحثنا هو بيان حكم الجاهل بضرورة لزوم الجماعة وبضرورة البيعة، وأيضا حكم المخالف لنا في فهم معنى البيعة، ومعنى لزوم الجماعة أو معنى الجماعة ذاتها، وأنه لا يجوز لنا أن نتهم غيرنا بالكفر في غير الأحوال التي يثبت فيها حكم الكفر شرعاً ويقيناً على الشخص، وقد أسلفنا القاعدة التي وضعها مؤسس الجماعة (رحمه الله) في البند العشرين من "رسالة التعاليم"، كما أوضحنا السياسة الشرعية التي التزمتها الجماعة من أنها تقرر الأحكام الشرعية، ولكنها لا تنصب نفسها قاضية لتحكم على الأفراد.
وزيادة في الإيضاح نقول - بعون الله - إن الجماعة التي ورد ذكرها في الأحاديث المشار إليها في السؤال قد وردت معرفة بأل العهدية والعلمية، فخرج بذلك من مفهوم النصوص أن يكون المقصود أية جماعة من المسلمين، وإنما المقصود جماعة خاصة معينة لها شروطها وأحكامها.
وهناك اختلاف كبير بين الفقهاء في بيان الجماعة وشروطها وأحكامها، ومعنى البيعة وحكم من لم يبايع.
ومن المسلَّم به أن جماعة الإخوان المسلمين مع إيمانها الكامل أنها قامت على الحق، ويقينها الذي لا شك فيه أن دعوتها دعوة حق خالصة، أمر الله بها أمر وجوب وإلزام، فإن المؤكد أن الاختيار الفقهي لمؤسسها لم يكن النظر إليها باعتبارها "جماعة المسلمين" المقصودة في الأحاديث، وإنما هي داعية بعون الله لتحقيق جماعة المسلمين. يؤكد ذلك، أن مؤسس الجماعة (رضي الله عنه) قد اعترف طوال فترة قيادته للجماعة وجميع صحبه الذين آزروه، واجتمعوا معه على دعوته، قد اعترفوا لغيرها من الجماعات بأنها جماعات إسلامية، كما اعترفوا بصفة المسلم لمن لم يكن منضماً لجماعة الإخوان أو فصل منها.
وقد قرر الإمام الشهيد فصل وكيلي الجماعة السابقين وعشرات غيرهما، كان بعضهم أعضاءً بمكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية، ولم يكن قد نَسب لأحدهم أنه أتى عملاً أو قال قولاً ارتد به عن الإسلام، ولا زعم أحدٌ أنهم بفصلهم من الجماعة قد أُخرجوا من الإسلام .. وبعد الإمام الشهيد، صدَّق مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية على فصل عدد قليل من أعضاءٍ كانوا بالجماعة، منهم من كان عضواً بمكتب الإرشاد أكثر من مرة، ومنهم من تولى مراكز قيادية في الجماعة وأنظمتها، وكان القول الصريح من قيادة الجماعة في هذه المناسبات أن المفصولين مسلمون؛ معصومو الدم والمال، ترجو الجماعة لهم أن يخدموا الإسلام بمجهوداتهم الفردية، وبأساليبهم الخاصة، بعد أن استعصى عليهم توطين أنفسهم على نظام الجماعة والالتزام بمفهوماتها وبرامجها ومناهجها.
وفي رسالة المؤتمر الخامس لجماعة الإخوان المسلمين، يقول الإمام الشهيد: "ولعل من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة وما يتصل بها، وبيان ذلك أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير فيها والاهتمام بها، ويرى الإخوان أن الأحاديث التي وردت في وجوب تنصيب الإمام وبيان أحكام الإمامة لا تدع مجالا للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بأمر خلافتهم منذ حورت عن مناهجها، ثم ألغيت تماماً إلى الآن، والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات، التي لا بدَّ منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بدَّ أن تسبقها خطوات" .
عملياً، مرَّت حركة الإخوان المسلمين خلال مسيرتها الدعوية والحركيَّة - من وجهة نظري - بعشر مراحل أو محطات، تفاوت فيها أداء الحركة وتعاطيها مع الأوضاع السياسية من بلد لآخر.. وبصورة عامة، يمكن إجمال تلك المراحل/المحطات على الشكل التالي:
المرحلة الأولى: التأسيس والدعوة (1928-1949م)
وهي الفترة التي شهدت نشأة الحركة، وانتشارها في ربوع مصر ونجوعها، وامتدت حتى اغتيال الإمام المؤسس حسن البنا عام 1949م.
المرحلة الثانية: القهر والاضطهاد في عهد عبد الناصر (1949- 1970م)
وهي الفترة التي شهدت بعد عام 1954م صداماً تاريخياً بين نظام عبد الناصر والإخوان المسلمين، وقد تمَّ اعتقال الألاف من قيادات الإخوان وكوادرهم، وإعدام عددٍ منهم، أمثال: الأستاذ القاضي عبد القادر عودة، والشيخ المجاهد محمد فرغلي، والأديب المفكر الأستاذ سيد قطب وآخرين.. وتعتبر هذه الفترة من أشد سنوات المحنة التي مرَّ بها الإخوان على طول تاريخهم الدعوي، والتي أثَّرت بشكل كبير على فكر الحركة ونظرتها للنظام الحاكم وللمجتمع، وقد أنتجت عذابات السجون في تلك المرحلة تيارات فكرية متطرفة، ابتعدت عن الإخوان، وإن كانت قياداتها قد خرجت من تحت عباءتهم، مثل جماعة التكفير والهجرة، التي أسسها شكري مصطفى.
المرحلة الثالثة: الانفتاح والانتشار في العالم العربي (1971-1986م)
1)السادات بداية الانفراج
بدأ الإخوان المسلمون عهداً جديداً مع الرئيس السادات (رحمه الله)، حيث شرع بالإفراج عن الإخوان منذ عام 1971م، إلى أن شمل العفو العام الجميع مع نهايات العام 1975م. وقد عمل السادات على ايجاد تحالف معهم لمواجهة الشيوعيين واليساريين، وقد شهدت تلك الفترة انفراجاً في العلاقة مع النظام، منحت الإخوان –آنذاك - أفقاً لبناء الجماعة من جديد، والبحث عن قواسم وتفاهمات مع النظام.
2)الانتشار في العالم العربي
كانت مصر بعد الثورة في عام 1952م منارة للعلم والمعرفة، حيث الأزهر الشريف بمكانته التاريخية قد جذب الكثير من طلاب العلم الشرعي للقدوم للقاهرة وتحصيل أهليتهم العلمية، سواء على مستوى البكالوريوس أو الماجستير والدكتوراه.
وخلال سنوات دراستي في كلية الهندسة بجامعة الأزهر، كان المجال مفتوحاً أمامي للتعرّف على حركة الإخوان المسلمين؛ أفكارها ومبادئها وقياداتها وجهادها في منطقة القنال وفي فلسطين.. وكان ممن بايعوا الحركة آنذاك الشيخ مصطفى السباعي من سوريا، والأستاذ عبدالله العقيل من الكويت، ....الخ
إن هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم وعودتهم إلى بلادهم، عملوا على نشر دعوة الإخوان المسلمين فيها، واعتمدوا في عملية الدعوة والتثقيف على ما توفر من أدبيات الحركة في مصر. ولذلك، فإن الإخوان - بشكل عام - كانوا ينهلون من مصدر واحد، ثم جاءت كتابات السيد أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي كأدبيات تعزز ما كانت عليه رؤية الإخوان المسلمين، حتى أن الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان وبنجلادش تعتبر امتداداً لحركة الإخوان المسلمين في شبه القارة الهندية.
ومع الانفراج الذي شهدته البلاد في السبعينيات بين الإسلاميين ونظام السادات، تشجَّع الكثير من شباب الإخوان في الدول العربية للتوافد على جامعة الأزهر لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه، أمثال الشيخ مروان حديد من سوريا، والشيخ إبراهيم زيد الكيلاني، والشيخ أحمد نوفل والشيخ راجح الكردي والشيخ على العتوم من الأردن، والشيخ عبدالله عزام والشيخ عمر الأشقر والشيخ إبراهيم أبو سالم والشيخ جميل حمامي من فلسطين.
لاشك أن هذا التواصل مع الحركة الأم في مصر قد أعاد توثيق عُرى المحبة والالتزام والتواصل بين الإخوان بشكل قوي، وفتح المجال للتفكير والبحث عن مجالات تحفظ استمرارية العلاقة التشاورية والتنظيمية بين الجميع.
المرحلة الرابعة: الدخول على خط العمل السياسي
بالرغم من الجدل الحاد الذي أثارته بعض تيارات الحركة الإسلامية في السبعينيات حول عملية المشاركة في الانتخابات ودخول البرلمان، إلا أن الإخوان بدأوا في بعض الاقطار بالدخول على خط العمل السياسي، وأصبح لهم برلمانيون ووزراء في عددٍ من الأقطار العربية كاليمن والسودان، وحتى البلدان الإسلامية كإندونيسيا وماليزيا وتركيا.
ثم اتسعت ظاهرة الأحزاب الإسلامية في المنطقة، وبدأنا نسمع في التسعينيات اسماء أحزاب سياسية بعناوين ومرجعيات إسلامية، مثل: الحركة الدستورية في الكويت، حركة مجتمع السلم (حمس) في الجزائر، حركة الاتجاه الإسلامي في تونس، جبهة العمل الإسلامي في الأردن.. أما الإخوان المسلمون في مصر وسوريا فقد باءت محاولاتهم بالفشل لرفض النظام الاعتراف بوجودهم أو اعطائهم تصريحاً بالعمل السياسي.
أعتقد أن مفهوم "البيعة والولاء" في عملية التحول هذه قد تراجعت حظوظه الاعتبارية في التقييم لحساب الفعالية والنشاط والمكانة الشخصية للفرد، مما أعطى الفرصة لبعض الوجوه القوية داخل التنظيم أن تجد لها أماكن مرموقة داخل الأحزاب السياسية، وأن تصبح متنفذة، وقادرة - أحياناً - على خلق فضاءات تميز عملها ومواقفها عن الحركة الأم.
في الحقيقة، ما كان للإخوان المسلمين أن يتوافقوا على رؤية واحدة حول مفهوم العمل السياسي من خلال الأحزاب، إلا بعد أن سُدَّت في وجوههم الأبواب وتقطعت بهم السبل، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، إلى أن جاءت الفرصة في نهاية السبعينيات مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وتكاثر الحديث – حينئذ - عن تصدير الثورة، حيث انتابت المخاوف بعض الأنظمة من أن تكون بلادها مسرحاً لحراك إسلامي واسع، فتمَّ فتح الباب للإسلاميين لتخفيف الاحتقان في الشارع والتصالح مع تيارات ما عُرف بظاهرة "الصحوة الإسلامية"، والتي تمددت فعالياتها وحركيتها في العديد من البلاد العربية، كمصر وتونس، وحتى في معظم الدول الخليجية.
لقد تراوحت مظاهر الانفتاح على الإسلاميين، وأشكال القمع لهم من بلدٍ لآخر، فهناك من آثر المهادنة والتعاطي معهم، كمصر في عهد السادات، والأردن خلال حياة الملك حسين (رحمه الله)، واليمن إبان حكم على عبد الله صالح، وهناك من شحذ السيوف لهم، كالرئيس حافظ الأسد، والرئيس معمر القذافي، والرئيس زين العابدين بن على في تونس.
لا شك بأن هذه الأجواء من التعايش والصراع قد أسهمت في التمهيد للغة إسلامية جديدة تؤسس لمفهوم "المشاركة بدل المغالبة"، من خلال طرح أفكار تشجع على العمل السياسي، كتلك التي أوردها الشيخ يوسف القرضاوي، بالقول: "لقد علمنا التاريخ، وتجارب الأمم، وواقع المسلمين، أن تقويم اعوجاج الحاكم ليس بالأمر السهل، ولا بالخطب اليسير، ولم يعد لدى الناس سيوف يقومون بها العوج، بل السيوف كلها يملكها الحاكم.! والواجب هو تنظيم هذا الأمر لتقويم عوج الحكام بطريقة غير سلِّ السيوف، وشهر السلاح. وقد استطاعت البشرية في عصرنا - بعد صراع مرير، وكفاح طويل - أن تصل إلى صيغة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقويم عوج السلطان، دون إراقة للدماء، وتلك هي وجود "قوى سياسية" لا تقدر السلطة الحاكمة على القضاء عليها بسهولة، وهي ما يطلق عليه "الأحزاب" .
ويضيف الشيخ القرضاوي بالقول: "إن السلطة قد تتغلب بالقهر أو بالحيلة على فرد أو مجموعة قليلة من الأفراد، ولكنها يصعب عليها أن تقهر جماعات كبيرة منظمة، لها امتدادها في الحياة وتغلغلها في الشعب، ولها منابرها وصحفها وأدواتها في التعبير والتأثير.. فإذا أردنا أن يكون لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معناها وقوتها وأثرها في عصرنا، فلا يكفي أن تظل فريضة فردية محدودة الأثر، محدودة القدرة، ولابد من تطوير صورتها، بحيث تقوم بها قوة تقدر على أن تأمر وتنهى، وتنذر وتحذر، وأن تقول عندما تؤمر بمعصية: لا سمع ولا طاعة، وأن تؤلب القوى السياسية على السلطة إذا طغت، فتسقطها بغير العنف والدم" .
ويخلص إلى القول: "إن تكوين هذه الأحزاب أو الجماعات السياسية أصبحت وسيلة لازمة لمقاومة طغيان السلطات الحاكمة ومحاسبتها، وردها إلى سواء الصراط أو إسقاطها ليحل غيرها محلها، وهي التي يمكن بها الاحتساب على الحكومة، والقيام بواجب النصيحة والأمر بالمعروف، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. بل إن هذا التعدد قد يكون ضرورة في هذا العصر؛ لأنه يمثل صمام أمان من استبداد فرد أو فئة معينة بالحكم، وتسلطها على سائر الناس، وتحكمها في رقاب الآخرين، وفقدان أي قوه تستطيع أن تقول لها: لا، أو: لِمَ ؟ كما دل على ذلك قراءة التاريخ، واستقراء الواقع" .
المرحلة الخامسة: التنظيم العالمي للإخوان المسلمين
في ظل انتشار فكر وحركة الإخوان المسلمين في معظم الأقطار العربية والإسلامية وكذلك في العديد من الدول الغربية، اتجهت قيادة الإخوان في مصر لتشكيل تنظيم عالمي تتحقق معه وحدة الموقف والهدف وتبادل الرأي والمشورة في قضايا وهموم المسلمين، وقد جاء التأسيس في عام 1979م، حيث أصبح لكل قطر ممثل في هذا التنظيم، وكانت اللقاءات تتم في البلدان التي تتوفر فيها عوامل الأمن والسلامة وحرية الحركة للقيادات الإخوانية.. وعن أجندة التنظيم العالمي أو برنامجه السياسي، أشار د. كمال الهلباوي؛ الناطق الرسمي السابق للتنظيم في أوروبا، بأنه "ليس للتنظيم أجندة ثابتة، ولكن أجندته تنبع من واقع القضايا والتحديات التي تواجه الدعوة، والإنجازات والاخفاقات التي تقع في دائرة الدعوة والحركة، وهي أجندة قد تبدو صغيرة ولكنها مفتوحة، لتشمل كل قضية مهمة مستجدة، فضلاً عن القضايا المفروضة الدائمة مثل قضية فلسطين.. ومن القضايا التي شغلت حيزاً من تفكير وعمل التنظيم العالمي في فترة الثمانينيات على سبيل المثال لا الحصر، الحرب العراقية الإيرانية، وقضية أفغانستان، وكشمير، والعنف والتطرف في مصر، والتنسيق الإسلامي والعالمي بين الحركات الإسلامية الوسطية وتنسيق ومواقفها" .
تجدر الإشارة إلى أن التنظيم العالمي في إحدى ملتقياته عام 1990م قد اتخذ قراراً جريئاً بالابتعاد عن كل مظاهر العنف في إحداث عملية التغيير، واعتماد صندوق الانتخابات بدل الرصاص (Ballots not Bullets) لتحقيق الانتقال السلمي للسلطة، وذلك على إثر التحولات التي شهدتها بلدان أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، والتي لاقت استحساناً ودعماً كبيراً من أمريكا وأوروبا الغربية، تحت شعار: تشجيع عمليات التحول الديمقراطي (Democratization) وحماية حقوق الإنسان.
ويمكن هنا عرض المزيد عن التفاصيل عن التنظيم العالمي لتوضيح حقيقة أن ما يربط التنظيمات الإخوانية حول العالم لم يعد أكثر من مجرد أليات للتشاور والتفاهم والتنسيق، بعيداً عن صيغة البيعة والولاء التنظيمي، التي تجمع أبناء الحركة الواحدة في القطر الواحد.
مجلس الشورى العام العالمي
إن مجلس الشورى العام أو كما يسمى الهيئة التأسيسية هو السلطة التشريعية لجماعة الإخوان المسلمين، وقراراته ملزمة، ومدة ولايته أربع سنوات هجرية. وتتضمن مهامه الإشراف على الجماعة وانتخاب المرشد العام.
أعضاء المجلس:
ا- يتألف مجلس الشورى العام من ثلاثين عضواً على الأقل، يمثلون التنظيمات الإخوانية المعتمدة في مختلف الأقطار، ويتم اختيارهم من قبل مجالس الشورى في الأقطار أو من يقوم مقامهم. ويحدد عدد ممثلي كل قطر بقرار من مجلس الشورى.
ب- يجوز لمجلس الشورى إضافة خمسة أعضاء من ذوي الاختصاص إلى عضوية المجلس.
ج- يمكن تمثيل أي تنظيم إخواني جديد في مجالس الشورى إذا اعتمده مكتب الإرشاد العام.
د- يجب أن يكون المراقبون العموميون للأقطار أعضاء في المجلس، وإذا تعذر مشاركة مراقب عام كعضو ثابت في المجلس يمكن للقطر اختيار غيره.
يحتفظ المرشد العام بعد انتهاء ولايته بعضوية مجلس الشورى العالمي مدى الحياة، إلا إذا كان انتهاء الولاية نتيجة الإخلال بواجباته أو فقد الأهلية.
إذن هناك جماعة إخوان مسلمين دولية؛ لأن العديد من فروع الجماعة تتواجد في العديد من المجتمعات: وكل من هذه الفروع يقوده "مراقب عام". ومعظم الفروع هم أعضاء في التنظيم الدولي، وهم يخضعون لقيادة المرشد العام، وهو عادة ما يكون زعيماً للجماعة الدولية (التنظيم المصري عادة ما يشار إليه في الدول الأخرى بأنه التنظيم الأم). والمنظمة الدولية للإخوان المسلمين يراها منتقدي الإخوان منظمة غامضة إلى حد ما، لعدم معرفتهم بالعمليات الداخلية وما يحدث في اجتماعاتها وأعمالها عندما يتم اتخاذ قرار إلا ما يصرح به الإخوان.
إن هناك القليل من الحركات التي تستلهم بشكل واضح من الإخوان (الكويت واندونيسيا على سبيل المثال)، والتي لا تعترف بشراكة مفتوحة مع التنظيم الدولي؛ وهناك بعض الأفرع ممن لديها علاقات رسمية ولكنها لا تعترف بها بشكل مفتوح، وكل الحركات لديها علاقات غير رسمية. وهناك منظمات أخرى موازية للتنظيم الدولي – مثل المنتدى الدولي للبرلمانيين الإسلاميين – والذي يرتبط بصورة غير رسمية مع جماعة الإخوان المسلمين، والذي يعمل من أجل جمع أعضاء فروع الجماعة والحركات المشابهة للإخوان في دول متعددة.
بعد انتكاسة الربيع العربي، تخلت الكثير من الحركات الإسلامية التي كانت تربطها علاقات تشاورية بهذا التنظيم الدولي، وأعلنت عن انسحابها منه أو أنه لا يمثلها في حراكاتها السياسية والتنظيمية، وقد شاهدنا ذلك في الأردن وتونس واليمن والمغرب، وسبق ذلك فك الارتباط مع التنظيم من قبل الحركات الإسلامية في دول الخليج العربي.
المرحلة السادسة: استهداف الإسلاميين بذريعة الحرب على الارهاب
شكلت السنوات التي أعقبت أحداث 11/9 عام 2001 تحولاً هاماً في نظرة الإسلاميين للعمل التنظيمي السري، وأوجدت قلقاً من عواقبه، وهواجسَ من مخاطره، فالبديل متوفر طالما أن هناك آفاقاً مفتوحة للعمل الإسلامي من داخل ما هو قائم من أحزاب وطنية وليبرالية لا تعادي الدين، وتحترم مبادئه وتعاليمه.
ولقد رأينا - نحن القاطنين في الغرب - أن من الأسهل علينا أن نتحرك لخدمة ديننا من خلال منظمات المجتمع المدني بدل الانتماء التنظيمي، الذي قد يؤدي إلى كوارث بسبب فعل البعض أو اجتهاده.
من هنا، كنا - في الغرب - نفضل مساحات العمل العام في الدعوة والتكوين وخدمة أركان الدين، وذلك عبر انشاء مؤسسات طلابية أو واجهات سياسية وإعلامية لا يفتح الانتساب إليها مجالاً للملاحقة والمسائلة، ويتحقق معها الشعور بأداء الواجب تجاه الدين والوطن.
ففي أمريكا وأوروبا أنشأنا الكثير من اللجان والمؤسسات ومجموعات العمل، فكانت هناك مؤسسات طلابية باسم (MSA) وجمعيات دعوية (ISNA-IAP-ICNA-MAYA-MAS) وأخرى سياسية وإعلامية، مثل (AMC-MPAC-CAIR)، وكلها تعمل وفق القانون وبتراخيص حكومية، دون الحاجة إلى عمل سري وقسم على البيعة والولاء، الأمر الذي فتح لنا – كإسلاميين - فضاءات في كل الساحات، ومنحنا منابر للخطابة في الجامعات وداخل المؤسسات، والوصول إلى رجال السياسة وصُنّاع القرار في الحكومة والبرلمان.
المرحلة السابعة: إخفاق تجارب الإسلاميين في السياسة
إن هناك العديد من التجارب السياسية التي تعكس حالة إخفاق الإسلاميين في التعايش مع واقع أنظمة الحكم السياسي في بلدانهم، مثل: حزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن، وحزب التجمع اليمني للإصلاح في اليمن، وحزب الرفاه في تركيا، وحركة مجتمع السلم في الجزائر، إضافة لتعثر حركة حماس في فلسطين جراء الاحتلال والانقسام والحصار...الخ
لقد أُعطى الإسلاميون الفرصة في أكثر من بلد عربي وإسلامي، إلا أنهم تفاوتوا في الأداء، وباستثناء النموذج التركي وبدرجة أقل الماليزي، وحالياً النموذج القائم في كل من المغرب وتونس، فإن معظم التجارب انتهت بالصدام والتنافس القائم على ثقافة المغالبة بدل الشراكة السياسية والتداول السلمي للسلطة.
إن المحك في تقييم أي عمل هو الأداء والسلوك، قال الله تعالى فيما ذكره من قول موسى (عليه السلام) لقومه الذين أذَّلهم فرعون: "عسى ربكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون".
المرحلة الثامنة: المراجعات
ظهرت في الآونة الأخيرة الكثير من المراجعات لتيارات إسلامية منها ما هو إخواني ومنها ما هو نتاج للحاضنة الإخوانية، ولعل القاسم المشترك لمعظم تلك المراجعات هي العودة للواقع، والابتعاد عن التنظيرات المثالية، التي سادت خطابات التيارات الإسلامية التي تخلقت من رحم الإخوان أو استظلت واستنارت بمشكاة أفكارهم.
بداية المراجعات:
في عام 1989م، قامت مجموعة من الإسلاميين ينتمون إلى تيارات وتنظيمات متعددة وإلى أقطار مختلفة، بكتابة أوراق في النقد الذاتي صدرت في مؤلف عنوانه: "الحركة الإسلامية.. رؤية مستقبلية"؛ كانت تلك التجربة جديدة ورائدة تحدث لأول مرة.. لذلك، كانت ظاهرة مثيرة للجدل والتخوف والتشكيك بين الإسلاميين، واضطر محرر الكتاب د. عبدالله النفيسي، للإسهاب في مقدمة طويلة تقوم بمهمة الدفاع والتبرير والتوضيح، وحاول فيها تأكيد ضرورة النقد الذاتي، وتطمين البعض بأن هذا النقد يمارسه إسلاميون، وبالتالي فهو نقد حميد وليس خبيثاً. ويكتب من البداية: "سيلاحظ القارئ أن بعض المشاركين هم من مؤسسي الحركة الإسلامية، سجنوا وضحّوا وشرّدوا عن ديارهم وأهليهم من أجلها، ومع ذلك ها هم أولئك يضعون أصابعهم على مكامن الخلل، ويغوصون في النقد الذاتي، وهي عملية جديدة في الحظيرة الإسلامية" .
ومع ذلك يراها عملية ضرورية: شرعاً وسياسة ومنهجاً ومصلحة. ويستنجد بـ(خالص جلبي) في قوله: إن "مفهوم النقد الذاتي يعتبر غريباً على المسلمين كما ذكرنا، فهم لا يرون فيه مصطلحاً إسلامياً، ولا يفهمون تحته إلا التشهير، وهذا يجب تعديله. فطائفة ترى أنه مصطلح غير إسلامي؛ لأنه لم يأت في كتب القدامى! ولم يرد باللفظ في الحديث أو القرآن (...)، ولكن الألفاظ والمصطلحات هي ليست كل شيء، وإنما ما تحمله من مفاهيم. فالأصح إذن هو عموم مفهوم القرآن وروحه واتجاهه، فالعبرة هي بالفكر الذي يدور بين نصوصه" .. وهو يرى أن مفهوم النقد الذاتي بمعنى مراجعة النفس ثم محاسبتها هو روح القرآن المكثفة. ويدعم هذا القول بالاستشهاد بالآية: "ولا أقسم بالنفس اللوامة".
يستهل (النفيسي) المراجعة بتنبيه الحركة الإسلامية لبعض الثغرات، ثم يخصص مقالاً منفصلاً لتنظيم الإخوان المسلمين، ويأخذ على الحركة الإسلامية نقاط القصور التالية:
1- غياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد، فالحركة رغم انتشارها الجماهيري وإمكانيتها المادية والبشرية، إلا أن مؤسساتها غارقة في الأعمال اليومية. ويرى أن هذا الأسلوب في العمل "يقلّص إمكانيات التفكير المنهجي ذي المدى البعيد، ويشجع على أسلوب حل كل مشكلة بعد نشوئها، لا الاحتياط من نشوئها" .
2- بسب هذا الانشغال اليومي والابتعاد عن التفكير المنهجي الاستراتيجي، لم تبلور نظرية علمية للاتصال بالجمهور. فهي مطالبة بتحقيق شرطين، الأول: أن يفهم الجمهور أهداف الحركة، والثاني: أن يجد الناس لدى الحركة حلاً عملياً لمشاكلهم الحقيقية. وهذا يعني البعد عن الماضوية، أي عدم الوقوع في فخاخ الجدل حول التاريخ الإسلامي، وهذا ما يجعلها مشغولة أكثر بالمستقبل.
3- تدعي الحركة أن العالم يعيش في حالة فراغ فكري وروحي وقيمي وحضاري، كما يعيش حالة الفوضى الفكرية والثقافية، ومهمة الحركة أن تصحح هذه الفوضى. وينفي الكاتب الفراغ والفوضى، ويطالب الحركة عوضاً عن هذه المواقف السلبية، أن يقدموا "نظرية إسلامية متكاملة تضع مواصفات التغيير الاجتماعي المطلوب على كافة الصّعد في المشروع الإسلامي" .
4- يحذر من التعصب الحزبي خشية أن: "يتحول الانتماء لحزب اتجاهاً عقلياً في التفكير لدى المنتمي، فلا ينظر للظواهر السياسية والاجتماعية إلا بمنظار الحزب ولا يرى إلا ما يراه الحزب وأن داخل الحزب مقدس وخارج الحزب مدنس" .
5- تمثل إشكالية التنظيم أكبر معضلات الحركة الإسلامية، خاصة وهي التي تتطلب من العضو أن يكون "كالميت أمام الغاسل". ومشكلات التنظيم الإسلامي هي:
أ- تعامل النظم الأساسية واللوائح الإدارية وكأنها سر من الأسرار، إذ قد يقضي بعض الأعضاء كل العمر في التنظيم دون الاطلاع على النظام الأساسي.
ب- التداخل الخطير بين الدين وأمره ونهيه من جهة، والتنظيم كإدارة بشرية وأمره ونهيه من جهة أخرى. فمخالفة أوامر التنظيم لا تعني الخروج على الأوامر الدينية.
ج- يركز التنظيم على الواجبات ويهمل حقوق الأعضاء. فاللوائح تهمل حقوق التظلم ولمن يتظلم العضو، ولذلك انفتح الباب أمام القيادة لفصل وإعفاء وتجميد عناصر كثيرة .
6- ويطبق (النفيسي) نقده على تنظيم الإخوان المسلمين في مصر والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين. وتتكرر نفس العيوب العامة، ولكن يضيف لها بعض نقاط الضعف لدى المرشد العام حسن البنا، وهي تتركز في ثلاث جوانب أساسية: أولها: ضعف إشرافه على (النظام الخاص)، أي الجناح العسكري في الجماعة مما سبب له مشاكل مباشرة. وثانيها: إهماله تدريب كوادر قيادية يمكن أن تخلفه. وثالثها: تحامله الدائم على الحزبية والأحزاب . ويعيب على التنظيم الدولي عدم توازن التمثيل بين الدول. ويظهر إعجاباً خاصاً بتجربة الجبهة الإسلامية القومية في السودان بسبب نجاحها في العمل الجبهوي، واجتذاب النساء للعمل السياسي، والانفتاح على القوى السياسية الأخرى.
يقدم الأستاذ عبدالله أبو عزة؛ القيادي الإخواني الفلسطيني السابق، ورقة عنوانها: "نحو حركة إسلامية علنية وسلمية"، ويستهلها بقوله: إنه رغم إنجازات الحركة الإسلامية، ولكنها ما زالت تعاني من سلبيات ذاتية معوقة لمسيرتها، ومعطلة لتقدمها نحو ما نذرت نفسها له من أهداف. وتشمل هذه المعوقات من بين ما تشمله قصوراً في الفكر، وافتقاراً للتخطيط، وخللاً في التنظيم، وارتباكاً في الممارسة .
ففي الجانب الفكري؛ فقد اكتفت الحركة بطرح الشعارات العامة والنداءات والمقولات العاطفية: "بل إن التزام العموميات كان هدفاً بالنسبة لبعض الحركات، وذلك حرصاً من قيادتها على تجميع أكبر عدد من الأنصار، حيث لا يختلف الناس على المقولات الإسلامية، ولا على امتداح وقبول ما ينسب إلى الإسلام من مقولات" .
يهتم الكاتب بالعمل السلمي في نشاط الحركة الإسلامية مهما كانت التنازلات، بهدف ضمان سلامة الدعوة وسلامة المجتمع والأمة. ويصل إلى خيار لن يجد قبولاً وسوف يتهم بالتخذيل. فهو يطلب أن تعلن الحركة أنها لا تريد الوصول إلى الحكم، أي "ستمتنع عن ممارسة العمل السياسي في صورة كونه تنافساً وصراعاً من أجل الوصول إلى الحكم، ولكنها ستواصل العمل السياسي في صورة كونه دعوة وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، ونقداً للانحرافات والخلل الإداري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحضَّاً على التصحيح، ومساهمة فيه، وضغطاً من أجل إدخاله وتثبيته" .
تطرق د. فتحي عثمان (رحمه الله) إلى ظاهرة تعاني منها كل الأحزاب العقائدية، حيث أشار إلى أن الحركة الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى تعزيز الحرية الفكرية في داخلها، وتقبل آراء الغير من خارجها، واعتبار الحوار البنَّاء الذي أكده الإسلام قوام الحياة، واعتبار الشورى الحقيقية الفعالة بمعنى المشاركة في صنع القرار والاختيار الحر المسؤول للقائمين على ذلك أساساً جوهرياً لكل جماعة مسلمة، حتى تكون ولاية الأمر بحق من الجماعة، كما عبر القرآن "وأولي الأمر منكم" .
وبالرغم من تحرك بعض المفكرين في الثمانينيات لتقديم بعض الملاحظات النقدية وصياغة بعض المراجعات، إلا أن تلك المحاولات كانت تواجه بالرفض والتفسيرات التبريرية، أما اليوم فقد تعاظمت الطروحات وتعددت، وغطت مساحات واسعة من دوائر النشاط الإسلامي على مستوى الفكر والسياسة، ويكفي هنا الإشارة لبعض تلك المراجعات التي صدرت في أكثر من بلد عربي، وهي تحمل مضموناً واحداً بضرورة المراجعة وتصحيح المسار.
- د. أحمد الريسوني، مراجعات ومدافعات، دار الكلمة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013م.
- صلاح الدين حسن، جماعة في أزمة: حوارات مع قادة ومتمردين، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2011م.
- حيدر إبراهيم على، مراجعات الإسلاميين السودانيين: كسب الدنيا وخسارة الآخرة، الحضارة للنشر، القاهرة، 2011م.
- حسام تمام، تحولات الإخوان المسلمين: تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم، القاهرة، مكتبة مدبولي، 2010م.
- هيثم أبو خليل، إخوان إصلاحيون، دار دوِّن للنشر والتوزيع، القاهرة، 2012م.
- فيصل الأمين البقالي، من أجل رؤية فكرية جديدة: تساؤلات أمام المشروع الإسلامي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت- لبنان، 2012م.
ظاهرة الأحزاب الإسلامية:
• الخروج من شرنقة التنظيم والانفتاح على المجتمع
- تجربة الإخوان في المغرب
قطعت الحركة الإسلامية في المغرب مشواراً طويلاً من المواجهات مع القصر منذ نشأتها في السبعينيات باسم حركة "الشبيبة الإسلامية"، وبقيادة مرشدها الأول الأستاذ عبد الكريم مطيع، إلى أن أحدثت من خلال حواراتها الداخلية نقلتها الواسعة إلى حركة متعايشة مع النظام الحاكم، حيث أقرُّت له بالشرعية الدينية والسياسية، واعترفت له بإمارة المؤمنين.
لقد أخذت الحركة الإسلامية الممثلة لتيار الإخوان المسلمين أكثر من عقد ونصف العقد من الزمان لإنجاز عملية التحول من حركة "الشبيبة الإسلامية" إلى حركة التوحيد والإصلاح، والتي انبثق منها "حزب العدالة والتنمية" برئاسة عبد الإله بن كيران، الذي أوجد تصالحاً وانفتاحاً على الجميع، ونجح في عقد شراكة وتحالف مع الآخرين وتشكيل حكومة برئاسته.
- تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا
في عام 1969م أسس نجم الدين أربكان حركة "مللي قروش" أي الرأي الوطني، ودخل الانتخابات البرلمانية عام 1970 باسم حزب الخلاص الوطني، ونجح بعد ذلك في شق طريقه عبر تحالفات سياسية أوصلته من خلال حزب الرفاة أن يصبح رئيساً للوزراء عام 1997.. لم تستمر مسيرة أربكان الحزبية طويلاً، إذ وجد نفسه في مواجهة لا تنتهي مع العلمانية، بحيث ظل تياره السياسي ذي المرجعية الإسلامية ملاحقاً من الجيش والمحكمة الدستورية والإعلام المعادي لخطابه الديني لأكثر من ثلاثين سنة، الأمر الذي دفع مجموعة من قيادات الحركة وكوادرها إلى تغيير لغة الخطاب وسياسة التعامل مع سدنة العلمانية في تركيا، وتبنوا نهجاً مغايراً يقطع الطريق أمام كل من يحاول الانقلاب على هذا التوجه. لقد أسس السيد أردوغان مع رفيقيّ دربه عبد الله غل وأحمد داود أوغلو حزباً جديداً باسم العدالة والتنمية (AK Party)، وبرؤية قائمة على تعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
لقد تمكن السيد رجب طيب أردوغان من الفوز في الانتخابات البرلمانية عام 2002، فيما فشل حزب السعادة (الحركة الأم) في الحصول على نسبة الحسم التي تؤهله لدخول البرلمان.
اليوم، حزب العدالة والتنمية يقف على صدارة المشهد السياسي، ويتمتع بالأغلبية في البرلمان، وهو مرشح لسنوات قادمة للاستمرار بمكانته في الصدارة.
• غياب الحكمة وانفجار التنظيم
- تجربة الحركة الإسلامية في السودان؛ حيث انشطرت الحركة إلى نصفين متشاكسين، الأمر الذي أدى إلى ضعف الحالة السياسية والأمنية في البلاد، وانقسام البلاد إلى شطرين؛ شمالي وجنوبي، وخسر السودان بذلك وحدة أراضيه.
- تجربة الحركة الإسلامية في الجزائر؛ بعد غياب القائد المؤسس الشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله)، لم يستمر تماسك حركة مجتمع السلم حيث اختلف القادة على خلافته، وخرجت بعض المجموعات لتشكل تنظيمات إسلامية جديدة، فهناك اليوم ثلاثة تيارات حزبية إخوانية على الأقل خرجت من رحم حركة مجتمع السلم، وهي تتنافس فيما بينها مع جماعات إسلامية أخرى على صدارة الحراك الإسلامي في الجزائر.
- تجربة الحركة الإسلامية في الأردن؛ لم يكن الإسلاميون في الأردن بعيدين عما يجري داخل التيارات الإسلامية في المنطقة، فانشق عنهم العديد من القيادات وشكلوا تنظيمات أخرى بنفس العناوين الإسلامية وإن عرضوا رؤى أخرى مختلفة لتعاطيهم السياسي.
المرحلة التاسعة: الإسلاميون والربيع العربي؛ ثورات وتحالفات وصراعات ومستقبل مجهول
فتح الربيع العربي في بدايته المجال واسعاً للإسلاميين للتفكير في العودة للعمل من داخل مؤسسات الدولة، فمرحلة المواجهة والعداء انتهت إلى وضعية جديدة، أصبحت معها إمكانيات العمل المشترك قائمة على رؤية يمكن التوافق حولها بين جميع المكونات الحركية والحزبية الأخرى، حيث غدت هناك شراكات حقيقية في إدارة شئون الحكم، والتقاسم الوظيفي بين التيارات الإسلامية والليبرالية واليسارية في صياغة مستقبل الحالة السياسية في البلاد، التي شهدت حراكاً شعبياً وصحوة باتجاه التغيير والإصلاح.
لقد نجحت بعض صيغ التحالف بين الإسلاميين وغيرهم من التيارات الليبرالية واليسارية، كما شاهدنا في تونس واليمن، وتعثرت في أماكن أخرى كما في مصر وليبيا.
إن مستقبل كل تلك التجارب على محدوديتها ما زال غامضاً، والسنوات القادمة هي الحَكم في إمكانية تكييف الإسلاميين لعلاقاتهم مع الآخر، والاستمرار في توظيف جهد الجميع للخروج بأوطانهم من ورطة الفقر والبطالة وغياب الأمن والأمان إلى وضعية الاستقرار والازدهار.
المرحلة العاشرة: الانفتاح والتعقل والشراكة
إن هناك تحديات كبيرة تنتظر الإسلاميين من حركة الإخوان المسلمين في العديد من دولنا العربية، والمطلوب منهم هو الالتفات للتجارب الناجحة التي نشهد معالمها في تركيا والمغرب، والعمل على محاكاتها.
إن على التيارات الإسلامية أن تفتح عيونها على الجميع؛ باعتبار أنهم شركاء الوطن، وعليه فإن همِّة الجميع هي من ستسهم في خلق مشهد التعايش الذي ينتظره كل أبناء البلد الواحد.
إن فرصة الإسلاميين اليوم للعودة بقوة لمشهد الحكم والسياسة هي في الفصل ما بين الدعوي والسياسي، وذلك بإنشاء أحزاب سياسية والمنافسة عبر صناديق الاقتراع، وتقديم نماذج ناجحة في الحكم، وتعزز من حالة التشبث بهم واستمرار التصويت لهم في كل انتخابات قادمة.