خبر : حلب ...أُم المعارك ...صادق الشافعي

السبت 21 مايو 2016 08:13 ص / بتوقيت القدس +2GMT





من حاز وُدَّها ودان له قيادها امتلك النصر، أو مفاتيحه بالأقل، ولو بعد حين قريب.
الكل يطلب يدها، ولأنها تعرف قيمة نفسها فهي تعز بنفسها على الجميع وتزهو على كل معتد عليها بالسلاح وغيره، وتنبذ كل دخيل. هي فقط تعطي قلبها وحنوّها لأبنائها الذين خلقهم الله في أحشائها وعاشوا وتربوا في أجوائها وتشربوا تاريخها مع جمالها الآسر وانصهروا في بوتقة العيش المشترك فيها بتنوعه وانفتاحه على كل مشرب.
إنها حلب العاصمة السياسية الثانية لدولة سورية الوطنية والعاصمة الاقتصادية الأولى فيها. بدونهما معا ومع مدن وقرى سورية الأُخرى، لا تبقى سورية هي سورية التي عرفنا وعشقنا على امتداد أعمارنا وأعمار من سبقونا،
إنها حلب، عاصمة سيف الدولة الحمداني. منها، ودفاعاً عنها وعن محيطها وما تمثّل، خاض معاركه ضد الروم. فيها قال أبو فراس شعر البطولة والفروسية والصبر، وفي الدفاع عنها قاتل وأُسر. فيها نبغ فحل شعراء العربية منذ قام فيها شعر، أبو الطيب المتنبي، وفيها انتزع تاج الشعر العربي وما زال متوجاً به.
إنها حلب الحاضرة التي يتبع لها وعلى مقربة منها سهل مرج دابق، وفيه دارت المعركة الفاصلة بين قوات الدولة العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول وقوات المماليك بقيادة السلطان قانصوه. كان انتصار العثمانيين في تلك المعركة هو الذي فتح لهم الباب للسيطرة على كل المنطقة العربية، وكان ذلك تأكيداً إضافياً لحقيقة تعيد السنون تأكيدها منذ معركة اليرموك العظيمة. مفادها انه لم يحصل أن دانت المنطقة لأي قوة قبل تفرض سيطرتها على سورية.
إنها حلب، صاحبة الدور المركزي البارز في الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي.
إنها حلب البلد فسيفسائي التنوع في مكوناته، إن لجهة الأصل أو الدين أو المذهب أو العادات، تتعايش في وحدة مجتمعية وطنية سورية غنية وراسخة بما يجعل منها لوحة جمالية ملونة وأخّاذه، وبما يغني تجربتها ودورها الحضاريين.
انها حلب، بوابة بلاد الشام التاريخية إلى العالم الخارجي وصلة الوصل معه وأول طريق التلاقح الحضاري معه،
وهي، حلب بلد الموشحات والقدود الحلبية تتناغم مع المواويل والأغاني الشعبية الدمشقية لتحيي الأعراس والاحتفالات في كل بلاد الشام. وهي بلد المنسوجات الحريرية تكسي بجمالها ورقيّها أجساد العرائس في أجمل ليالي العمر. وهي حلب، «بلد المحاشي والكبب» بلد المأكولات الشهية الغنية في تنوعها ومذاقها تزين موائد بلاد الشام في مناسباتها المختلفة.
من يقاتل الآن دفاعا عن حلب، يعي تماما كل القيم والمعاني المذكورة واكثر منها، يدافع عنها وعن بقائها واستمرارها، يدافع عن الدولة الوطنية السورية الواحدة وعن سيادتها وتعايشها الجميل ودورها المقرر في المنطقة، بغض النظر عمن يكون في موقع الحكم فيها طالما قبل به ناسها. مَن يدافع اليوم عن حلب هم أهلها من كل الوطن السوري ومعهم كثر من أحبائها وعشاقها.
أما من لا يعرف قيمة حلب وقيمها المذكورة، او يعرفها ولكن لا تهمه هذه القيم ويتجاهل رؤيتها، فإنه لا يرى في حلب أكثر من موقع أو مجرد مساحة جغرافية هامة لتحقيق تعديل أساسي في ميزان القوى العسكري يتم استثماره في تحسين الموقع التفاوضي السياسي، او تحسين الموقع في حسابات محاصصة القوى المتصارعة على اغتصاب والسيطرة على مناطق من جسد الوطن السوري االطاهر.
كل القوى المتقاتلة في سورية وبالذات تلك المنغمسة في القتال في حلب وجوارها تعي تماماً أن معادلة التوافق الدولي المفروضة من القوى المتحكمة بمسار الأحداث في سورية تحرّم على أي طرف تحقيق انتصار حاسم، لأن مثل هذا الانتصار يعني تغييراً أساسياً في مجرى الأحداث وخطوة كبيرة على طريق الحسم، بما يجعل السير باتجاه المفاوضات والحلول السياسية غير ذي أهمية لها، ويدركون ان هذه المعادلة قادرة على فرض نفسها وفرض التقيد بها بفعل وقوة تأثير القوى الدولية التي تتحكم بمسار الأحداث في سورية وتملك بيدها القرار بعد أن تحولت معظم القوى المتصارعة الى مجرد بيادق على رقعة الوطن السوري تحركها تلك القوى. دون أن يستبعد هذا القول حصول استثناءات وتمردات محدودة، سرعان ما يتم ضبطها.
لا يمكن رؤية معركة حلب الا بوصفها معركة مركزية في الحرب الشاملة التي تشتعل على امتداد الأرض السورية تنشر الدم والدمار والتشريد، تستجلب كل المصالح ومخططات السيطرة، المتفق منها والمتنافر او المختلف، وتستجلب معها قوى التطرف والإرهاب تتقاطر من مختلف بقاع الأرض. كلها تهدد وحدة الدولة الوطنية وسيادتها وتعايش مكوناتها وتهدد دورها في المنطقة وفي قضياها القومية وبالمقدم منها القضية الوطنية الفلسطينية.
ما يحدث في سورية منذ خمس سنوات ونيف هو نتيجة دموية، ولو متأخرة، لذلك المخطط الشامل للمنطقة - الشرق الأوسط الجديد - الذي كان غزو العراق 2003 فاتحته. ولأن سورية هي مفتاح السيطرة على المشرق العربي بالحد الأدنى، كما أكدت تجارب التاريخ، فإن ما يحصل فيها لا يمكن أن تبقى نتائجه محصورة داخل حدودها الحالية، بغض النظر عن طبيعة هذه النتائج.
الرهانات كثيرة ومتعددة المشارب، وأولها رهان دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكن يبقى الرهان على أهل سورية وناسها وقواها الحية وعلى وطنيتهم الراسخة في أعماقهم، هو الرهان الأول والأهم.