خبر : البديل الوطني لاتفاقية أوسلو وتوابعها ...د .ابراهيم ابراش

الجمعة 11 مارس 2016 07:54 م / بتوقيت القدس +2GMT
البديل الوطني لاتفاقية أوسلو وتوابعها ...د .ابراهيم ابراش



مقدمة

بعد مرور اثنين وعشرين عاما على توقيع اتفاق أوسلو والمعروف رسميا باسم "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي يوم 13 من سبتمبر 1993 وملحقاته ، فإن حالة من الغموض واللُبس تكتنف الحالة السياسية الفلسطينية الرسمية ما بعد أوسلو وقيام السلطة ، سواء من حيث طبيعة النظام السياسي ومكوناته ووظائفه ، أو من حيث طبيعة العلاقة التي تربط الفلسطينيين بالإسرائيليين ، خصوصا بعد تعثر المفاوضات ثم وقفها عام 2010.
إن أي تقييم أو مراجعة للاتفاقات الموقعة يجب ألا تقف عند تحليل مضمون هذه الاتفاقيات فقط ، فلا شك أن تحليل الاتفاقات وملابسات توقيعها من خلال الرجوع للبيئة السياسية المُصاحبة لتوقيع الاتفاقات أمر مهم ، إلا أن المحك العملي للحكم الحقيقي على أي اتفاقات أو معاهدات يكون من خلال التعرف على نتائجها على أرض الواقع في القضايا التي تصدت الاتفاقات لمعالجتها .
الواقع الفلسطيني الراهن في جزء كبير منه هو نتيجة لعدة اتفاقات تتوالد إحداها من الأخرى ،كالدمى الروسية ، وكل اتفاقية منها استطاعت إسرائيل توظفيها لفرض وقائع على الأرض لا تتطابق مع نصوصها. استمرار المماطلة الإسرائيلية والتي تجلت في مفاوضات كامب ديفيد الثانية التي انطلقت في العشرين من يوليو 2000 ثم في شرم الشيخ وطابا حيث وصلت إلى طريق مسدود ، أدى إلى تفجر الأوضاع مع وصول شارون للحكم ثم اغتيال أبو عمار وانسحاب إسرائيل من طرف واحد من غزة وسيطرة حماس على القطاع لاحقا ، وأخيرا توقف المفاوضات 2010 وبداية البحث عن خيارات بديلة للاتفاقات الموقعة .
إشكالية البحث تدور حول التساؤلات التالية : هل ما زالت العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين محكومة بهذه الاتفاقيات ؟ أم أن إسرائيل فرضا واقعا على الأرض يتجاوز كل الاتفاقات الموقعة ؟. والغموض الأكبر يخص البدائل المتاحة أمام الفلسطينيين للخروج من تبعات أوسلو ، وسبب التردد الرسمي الفلسطيني في اتخاذ خطوات عملية جريئة ، إما باتجاه الانتقال فعليا نحو الدولة ووضع حد لاتفاقية أوسلو وملحقاتها وما أفرزت من وقائع ميدانية ، أو العودة لمرحلة التحرر الوطني بجعل العلاقة التي تربط الفلسطينيين بإسرائيل علاقة شعب خاضع للاحتلال بدولة احتلال .
مقاربة التساؤلات أعلاه تتطلب بداية قراءة موضوعية للاتفاقات الموقعة مع إسرائيل من حيث نتائجها ، أو تقييم مرحلة أوسلو ، لمعرفة ملابسات توقيع اتفاقات التسوية وحقيقة الموقف الإسرائيلي من وراء دخول عملية التسوية ، وهل أن السلوك الإسرائيلي الحالي يُعتبر خرقا لنصوص الاتفاقية ومتعارضا مع منطلقات التسوية ؟ أم سلوك منسجم مع الرؤية الإسرائيلية الأولى للتسوية ومع قراءة إسرائيلية لنصوص الاتفاقات الموقعة وهي نصوص على درجة من الغموض مما أتاح لإسرائيل تفسيرها بما يحلو لها ؟، أيضا أين أخطأ الفلسطينيون سواء في توقيع الاتفاقية أو في كيفية تعاملهم مع التطبيق ؟ وهل كان للفلسطينيين – السلطة والمعارضة - دور فيما وصلت إليه الأمور من انغلاق أفق التسوية ؟ .
سنحاول مقاربة هذه الإشكالات من خلال المحاور التالية :
المحور الأول : اتفاقية أوسلو وتوابعها : مراهنات متعارضة
المحور الثاني : هل فشلت التسوية بالفعل ؟ وهل يمكن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه؟
المحور الثالث : الخيارات الوطنية البديلة

المحور الأول

اتفاقية أوسلو وتوابعها : مراهنات متعارضة

لم يكن الدخول بعملية التسوية تعبيرا عن قناعة حقيقية لمختلف الأطراف بالتوصل للسلام ، فما جرى كان مشروعا لتسوية سياسية وليس سلاما ، وإن كان البعض يأمل أن تؤدي العملية في نهاية المطاف إلى سلام . كان لكل طرف – الفلسطينيون والإسرائيليون – مبرراته وأهدافه الخاصة ، وإن كنا نعتقد أن الرغبة الفلسطينية بالسلام كانت حاضرة أكثر مما هي عند الإسرائيليين وخصوصا لدى الرئيس أبو عمار وحركة فتح. ربما كان رئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين جادا في التوصل إلى صيغة ما لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي إلا أن المجتمع الإسرائيلي لم يكن مهيئا للسلام الحقيقي .[1]
أولا : المراهنة الإسرائيلية من وراء توقيع اتفاقية أوسلو
ما ألت إليه أمور التسوية التي انطلقت مع اتفاق أوسلو تؤكد أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لم تكونا جادتين في التوصل إلى سلام يقوم على أساس تمكين الفلسطينيين من دولة مستقلة في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة ، بل كانت لهما منطلقات وأهداف مغايرة وهي :
1- تغيير طبيعة الصراع ، ذلك أن نجاح إسرائيل في أن تكون اتفاقات التسوية على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338 فقط معناه تغيير الرواية الفلسطينية وفرض الرواية الصهيونية بأن الصراع بدأ مع حرب 1967 وليس مع حرب 1948 ، وهذا معناه تكريس شريعة الاحتلال الإسرائيلي لـ 78% من فلسطين .[2]

2- محاولة إغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائيا بإضفاء صفة شرعية على الوجود الصهيوني في فلسطين وفي المنطقة العربية ، وذلك باستدراج الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات للتوقيع على وثيقة تعترف بحق إسرائيل بالوجود وباعتماد نهج التسوية السياسية الثنائية .

3- المراهنة دخول منظمة التحرير في عملية التسوية سيلزمها بمواقف يصعب التخلي عنها لاحقا ، منها : إنهاء الصراع ووقف النشاط الثوري الفلسطيني ضد إسرائيل، ليس حاضرا فقط ، بل التخلي عن أي مطالب أو حقوق مستقبلية سواء بالنسبة لسكان الأرض المحتلة أو فلسطينيي الخارج.

4- إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأمريكية كانتا تراهنان بأن الوضع العربي والدولي السائد آنذاك يمثل فرصة سانحة لترتيب الأوضاع في المنطقة بما يخدم أهدافهما و تغيير طبيعة الصراع وإدارته.[3]

5- محاولة إثارة الشقاق داخل الصف الفلسطيني ، وتأليب الشعب الفلسطيني وخصوصا خارج الأرض المحتلة على منظمة التحرير.[4] وكانت إسرائيل وأمريكا تراهنان بأن التسوية ضمن شروطهما قد تؤدي إلى اندلاع حرب أهلية وانهيار النظام السياسي الفلسطيني سواء كان السلطة المُزمع قيامها أو منظمة التحرير.

6- تكريس إقليمية القضية الفلسطينية. كانت إسرائيل تراهن بأن الرابطة القومية والأخلاقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين ستتزعزع ولن يصبح لها محل إذا رأى العرب أن أصحاب القضية أنفسهم انعزلوا بقضيتهم عن الأمة العربية وقبلوا بالشروط الصهيونية الأمريكية واقفلوا ملف قضيتهم ، في هذه الحالة ستصبح أي مطالب عربية مستقبلية ، رسمية أو جماهيرية ، بتحرير فلسطين ، وكأنها تدَخُل في شؤون الغير.

7- تعزيز مقولة حياد الولايات المتحدة الأمريكية في الصراع العربي –الصهيوني ، وتحسين صورتها لدى المواطن وإضفاء صفة الحياد على سياستها وإظهارها بأنها أوفت بوعودها إبان حرب الخليج بفرض الشرعية الدولية على الكيان الصهيوني كما فرضتها على العراق !.

8- تطبيع العلاقات مع الدول العربية ، اعتقادا منهم أن تسوية الخلاف مع الفلسطينيين أو مجرد الدخول في عملية سياسية معهم سيكسر المقاطعة العربية والإسلامية لإسرائيل ،وهو ما جرى بالفعل.[5]

ثانيا: المراهنة الفلسطينية
في تقييمنا للموقف الرسمي الفلسطيني من عملية التسوية وللاتفاقات الموقعة مع إسرائيل يجب التفريق بين مرحلتين أو نوعين من التقييم ، الأول تقييم موقف منظمة التحرير من الدخول بعملية التسوية ، وما إن كان الدخول بعملية التسوية والتوقيع على الاتفاقات الموقعة أمرا صائبا أم لا ؟ والتقييم الثاني لآلية إدارة المفاوضات قُبَيل التوقيع على الاتفاقية ، والممارسة الفلسطينية مع الاتفاقات الموقعة وكيفية تصرُف السلطة والمعارضة بعد التوقيع على الاتفاقات .
1- بالنسبة لملابسات التوقيع على اتفاقات التسوية
كما سبق الذكر لم يكن ولوج منظمة التحرير لعملية التسوية خيارا مريحا أو تتويجا لانتصارات حاسمة ، بل كان ممرا إجباريا أو محاولة لوقف الانهيار والتراجع الذي أصاب القضية الفلسطينية بسبب الاختلال في النظامين العربي والدولي مما أثر سلبا على القضية الفلسطينية. ذلك أن المشروع الوطني كما تمت صياغته في الميثاق الوطني وفي أدبيات فصائل منظمة التحرير كان متأثرا ومعبرا عن طبيعة مرحلة الستينيات ، من حيث وجود حالة وطنية صاعدة ومد قومي ثوري عربي ووجود معسكر اشتراكي ومنظومة دول عدم الانحياز. عليه كان المشروع الوطني الأول سواء من حيث الهدف – تحرير كل فلسطين – أو وسيلة تحقيقه – الكفاح المسلح – محصلة مشاريع في مشروع واحد : المشروع الوطني والمشروع القومي العربي والمشروع التحرري العالمي ، وكانت مراهنة الفلسطينيين على الحلفاء أكثر من مراهنتهم على أنفسهم .[6]
ما بين تأسيس المشروع الوطني مع منظمة التحرير وتوقيع اتفاقات التسوية مع إسرائيل حدثت انهيارات زعزعت مرتكزات ومكونات المشروع الوطني من أهمها :-
أ‌- تراجع المشروع القومي العربي مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ، ثم حرب الخليج الثانية ، بحيث لم تعد القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى بالنسبة للأنظمة العربية .[7]

ب‌- انهيار المعسكر الاشتراكي – الحليف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية – ومعه تراجعت منظومة دول عدم الانحياز.

ت‌- انزلاق الثورة الفلسطينية كطرف مباشر أو غير مباشر في عدة حروب ومواجهات مع دول عربية : كأحداث الأردن 1970 والحرب الأهلية في لبنان 1975- 1982 ، وحرب الخليج الثانية 1991.

ث‌- محاصرة الثورة الفلسطينية بعد حرب الخليج الثانية بسبب اتهام الرئيس أبو عمار بدعم الموقف العراقي ، وكان حصارا ماليا وسياسيا شديدا.

ج‌- ظهور حركة حماس من خارج منظمة التحرير الفلسطينية وبداية تعامل دول وحركات عربية وإسلامية معها دون الرجوع لمنظمة التحرير.

ح‌- تغلغل فكر التسوية عند غالبية الدول العربية ورغبتها في إيجاد تسوية سياسية للصراع مع إسرائيل وخصوصا بعد حرب الخليج الثانية وتداعياتها ، وهنا نلاحظ أن مؤتمر مدريد للسلام 1991 سبق توقيع اتفاقية أوسلو ، ولو لم يكن مؤتمر مدريد ما كانت اتفاقية أوسلو .

كل ذلك أضعف من قوة الثورة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل عسكريا ، وبقي الفلسطينيون وحيدون في الميدان ، الأمر الذي كشف الهوة الواسعة بين أهداف المشروع الوطني الأول والممكنات الفلسطينية ، وكان مطلوب تدفيع الثورة الفلسطينية الثمن على سياسات وممارسات لم تكن خاطئة تماما بقدر ما كانت محصلة لتحالفات وتوازنات تلك المرحلة. حاولت القيادة الفلسطينية التكيف مع هذه الاختلالات مع الحفاظ على استقلالية القرار الفلسطيني من خلال نهج الواقعية السياسية وإعادة النظر في أهداف النضال الفلسطيني وطرق تحقيقها .[8]
لا نعتقد أن القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة ارتكبت أخطاء إستراتيجية كبيرة كان عدم ارتكابها سيغير من مسار الأحداث بشكل جذري ، فما جرى كان نتيجة متغيرات عربية ودولية وليس نتيجة تقصير فلسطيني. إلا أن ذلك لا يمنع من القول بوجود خلل وأوجه تقصير في الجانب الفلسطيني جعلت قدرة النظام السياسي الفلسطيني ضعيفة في مواجهة المتغيرات المحيطة به ،مثل تغلغل المال السياسي مما أوجد أشكالا من الفساد ، وغياب المحاسبة للفاسدين ، وترهل بنية الفصائل ، بالإضافة إلى عدم حدوث مراجعات إستراتيجية بعد كل أزمة مرت بها الثورة الفلسطينية. ومع ذلك كانت لتلك المرحلة حصيلة مهمة وهي استنهاض الحالة الوطنية والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في قمة الرباط 1974 والاعتراف بها مراقبا في الأمم المتحدة .
2- خلل في عملية المفاوضات وفي إدارة السلطة ما بعد توقيع اتفاقات التسوية
في الوقت الذي كان فيه فريق فلسطيني من الداخل بقيادة الدكتور حيدر عبد الشافي يقود مفاوضات علنية كانت منظمة التحرير تجري مفاوضات سرية في أوسلو ، كان مهندساها محمود عباس واحمد قريع مع عدد محدود من السياسيين. بسبب خشية قيادة منظمة التحرير من التوصل لتفاهمات مع قيادات الداخل وتهميش منظمة التحرير الفلسطينية ، تحركت القيادة بسرعة لتلوِّح للأمريكيين والإسرائيليين بالاستعداد لتقديم تنازلات كان من الصعب على فلسطينيي الداخل تقديمها ، ومن جانب آخر كانت واشنطن وإسرائيل تريدان أن تكون منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني هي الجهة التي توقع على أية اتفاقية تسوية سواء لإنهاء الصراع أو تغيير طبيعته ونهج إدارته.
لم يكن الخلل في سرية المفاوضات فقط بل أيضا في تفرد أشخاص معينين بعملية المفاوضات وفي البحث بقضايا مصيرية دون توافق فلسطيني حتى داخل منظمة التحرير بل حتى داخل حركة فتح نفسها ، ودون خبرة لهؤلاء بكثير من الملفات التي تم التفاوض عليها. بينما كان الوفد الإسرائيلي مدعوما بلجان متخصصة في كل المجالات.الأمر الذي أنتج اتفاقية أوسلو ولواحقها بصياغات مبهمة وتقبل أكثر من تفسير وغالبا ما كانت إسرائيل تفسرها لصالحها لأنه كان لها اليد الطولى في وضع هذه النصوص.
فبسبب سرية المفاوضات والخوف من تهميش المنظمة أُسنِد أمر المفاوضات لسياسيين من حركة فتح وقلة من خارجها ، وغالبية هؤلاء كانوا يعيشون خارج فلسطين وليس لهم أية خبرة أو معلومات حول جغرافيا الأرضي المحتلة وأسماء المناطق والقرى ، وتجمعات المياه الجوفية الخ ، وقد تسربت بعض المعلومات المثيرة للسخرية والألم معا، تدل على الجهل الكبير لهؤلاء السياسيين بالأمور التي كانوا يتفاوضون عليها ، كعدم التمييز بين مدينة أريحا ومنطقة أريحا ، أو الفرق بين المواصي والنواصي الخ ، مع حسن نية في تعاملهم مع الإسرائيليين الذين كانوا يعيشون في فلسطين ويملكون الجغرافيا ويعرفون كل صغيرة وكبيرة من جغرافيا فلسطين ما فوق الأرض وما تحتها.
ما بعد توقيع اتفاقية أوسلو سادت حالة من الإرباك وعدم الوضوح في كيفية التصرف والتعامل مع الواقع الجديد في ظل وجود سلطة فلسطينية وما عليها من استحقاقات بمقتضى الاتفاقات الموقعة. كانت أهم مظاهر هذا الإرباك انقسام الساحة الفلسطينية انقساما حادا ما بين من يؤيد عملية التسوية ويراهن عليها كفرصة ومنعطف مصيري يمكن المراهنة عليها للوصول للدولة الفلسطينية المستقلة ، وهذا الطرف الفلسطيني تعامل مع اتفاقات الحكم الذاتي المؤقت أو ترتيبات المرحلة الانتقالية وكأنها اتفاقات سلام ، الأمر الذي دفع بكثير من الفلسطينيين والعرب إلى التعامل مع إسرائيل وكأنها شريك سلام والتعامل مع الصراع برمته وكأنه حُسم وأصبح من مخلفات الماضي.
في المقابل رفض آخرون – حركة حماس والجهاد الإسلامي وقوى أخرى وشخصيات من داخل منظمة التحرير - هذه المراهنة واعتبروا الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل وقيام السلطة الفلسطينية خروجا عن الثوابت الوطنية ونهجا استسلاميا ، ولم يقتصر الأمر على خلافات سياسية ونظرية بل تعدى ذلك إلى ما يشبه الانشقاق داخل منظمة التحرير وتشكيل جبهة وطنية معارضة لـ (نهج أوسلو) وقيام قوى المعارضة وخصوصا حركة حماس بعمليات عسكرية في عمق إسرائيل في أوقات دقيقة كانت تمر فيها المفاوضات.
بالإضافة التي التحديات التي واجهت السلطة من معارضيها فقد ظهرت أشكال من الفساد وسوء الإدارة في السلطة فاقمت من مشاكلها. صحيح أنه لم يكن فسادا كبيرا ، إلا أن واشنطن والغرب وظفوا الحديث عن فساد السلطة للتضييق على الرئيس أبو عمار وإجباره على إدخال تعديلات دستورية تحد من صلاحياته. [9]
بشكل عام يمكن الإشارة إلى أوجه الخلل في التعامل الفلسطيني الرسمي مع عملية التسوية ومرحلة ما بعد أوسلو ، وهي تتراوح ما بين الأخطاء الإستراتيجية ، والخلل في الإدارة ، وعدم وضوح الرؤية والموقف :
أ‌- القبول بدخول عملية التسوية على أساس قراري مجلس الأمن 224 و 338 فقط وتجاهل بقية قرارات الشرعية الدولية ، كقرار التقسيم 181 وقرار حق العودة 194 وعديد القرارات التي تتحدث عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقه بمقاومة الاحتلال الخ. وهذا يتعارض مع إعلان قيام الدولة في الجزائر 1988 الذي قَبِل الدخول بعملية التسوية على أساس كل قرارات الشرعية الدولية .

ب‌- القبول بأن تكون المفاوضات تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية فقط دون إشراف دولي أو محاولة تشريع الاتفاقية بقرار دولي من مجلس الأمن ، الأمر الذي اسقط عن اتفاقية أوسلو صفة الاتفاقية الدولية .

ت‌- تأجيل قضايا الوضع النهائي وهي قضايا إستراتيجية ، مما جعل المفاوضات تشكل غطاء للاستيطان والتهويد في الضفة والقدس .

ث‌- الاعتراف المتبادل كان بين دولة إسرائيل ومنظمة التحرير ، فيما كان يُفترض أن يكون الاعتراف بإسرائيل بعد نهاية المفاوضات مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967.

ج‌- القبول بالمفاوضات واستمرارها لسنوات مع استمرار الاستيطان والتهويد.

ح‌- استمرار المفاوضات دون مرجعية واضحة أو هدف واضح .

خ‌- استمرار نفس الفريق المفاوض تقريبا واقتصاره على حركة فتح .

د‌- عدم تحيين فكرة الدولة مباشرة بعد نهاية المرحلة الانتقالية مايو 1999 .

ذ‌- رهن الاقتصاد الفلسطيني كليا بالاحتلال من خلال بروتوكول باريس الاقتصادي.

ر‌- المراهنة كليا على الخارج سواء تعلق الأمر بالشرعية الدولية أو الأمم المتحدة أو المبادرات العربية، مع غياب إستراتيجية واضحة في التعامل مع الشرعية الدولية ، وماذا بعد الذهاب لمحكمة الجنايات الدولية ؟.

ز‌- إهمال القيادة للشعب بل وعدم الثقة بقدرات الشعب ولو من خلال أشكال من المقاومة السلمية. هذا ما خلق فجوة ما بين القيادة والشعب لم تستطع الرواتب والإغراءات المالية أن تملأها .

س‌- تهميش منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها سياسيا وماليا لحساب السلطة الوطنية لدرجة أن منظمة التحرير بكل فصائلها أصبحت تعتاش من ميزانية السلطة الفلسطينية .

ش‌- إضعاف حركة فتح سواء كحركة تحرر وطني أو كحزب سلطة ودولة ، وجعل سقفها السياسي نفس السقف السياسي للسلطة .

ص‌- غياب أو ضعف مؤسسة القيادة وتمركز كل شيء بيد الرئيس أبو عمار ثم أبو مازن .

ض‌- تمركز الرئاسات بيد واحدة – رئاسة الدولة ورئاسة منظمة التحرير ورئاسة السلطة ورئاسة حركة فتح .

ط‌- قوة تأثير نخبة سياسية اقتصادية من خارج المدرسة الوطنية على عملية اتخاذ القرار.

ظ‌- استمرار التنسيق الأمني بنفس الوتيرة والضوابط التي كانت في بداية التسوية بالرغم من تنصل إسرائيل من عملية التسوية .

ع‌- إهمال فلسطينيي الخارج.

غ‌- سوء إدارة ملف الانقسام .

المحور الثاني

هل فشلت التسوية بالفعل ؟ وهل يمكن إعادة الأمور إلى ما كانت عليه؟

بالرغم من كل التصريحات والمؤشرات التي تقول بأن مشروع التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي مر عليه حوالي 22 عاماً قد فشل أو وصل لطريق مسدود ، إلا أن الوقائع على الأرض التي أوجدتها الاتفاقات الموقعة ما زالت تفرض وجودها من خلال قيام إسرائيل بممارسات وفرض وقائع تتجاوز الاتفاقات الموقعة ، كبناء جدار الفصل واستمرار الاستيطان وتغيير الوضع القائم في القدس والمسجد الأقصى والانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة والمحاولات الجارية للتوصل لهدنة في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الخ ، بالإضافة إلى الجدل الدائر في الأوساط الفلسطينية عما إن كان من المصلحة الوطنية إنهاء السلطة الفلسطينية وما يرتبط بها من تنسيق أمني ، أم الحفاظ عليها لأنها أوجدت مكتسبات يجب الحفاظ عليها ، كالمؤسسات والإدارات ، وشبكة علاقات دولية الخ ، قد تساعد في مرحلة بناء الدولة.
كل ذلك يضع تحديات أمام العودة إلى ما قبل توقيع الاتفاقات أو التملص منها بشكل نهائي وخصوصا في ظل استمرار حالة الانقسام ، وبالتالي يصبح الحديث عن فشل اتفاقات التسوية أو تجاهل تداعياتها أمرا صعبا ، لتباين مفهوم الفشل والنجاح عند كل طرف من طرفي التسوية.
إن أي حديث عن الفشل والنجاح يبقى نسبيا نظرا للأسباب المُشار إليها ولعدم وجود مشاريع تسوية سياسية بديلة ، ولأن القول بفشل التسوية قد يكون صحيحا بالنسبة للفلسطينيين ولكنه ليس كذلك بالنسبة للطرف الثاني. الولايات المتحدة وإسرائيل لم تكونا راغبتين بالفعل في إنجاز تسوية تؤسس لسلام عادل يلبي الحقوق الوطنية الفلسطينية - دولة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس الشرقية مع إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين ـ- وعليه فإن الفشل من وجهة نظر الفلسطينيين يعني عدم تحقق هذا الهدف ، مع أن هذا الهدف لم يتم ذكره في أية من الاتفاقات الموقعة ولم تلتزم إسرائيل أو واشنطن بأي يوم من الأيام بتحقيقه أو وعدتا به.
سواء أسميناه فشلاً أم تعثراً أم إدارة مغايرة للصراع ، فإن تحديات كبيرة تواجه عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل انطلاق مسلسل التسوية ، لأن واشنطن وتل أبيب أخذا في الحسبان بداية أن الفلسطينيين سيكتشفون حقيقة ما يحاك لقضيتهم الوطنية تحت شعار التسوية ، وبالتالي قد يرتدون عنها.عليه خلقت واشنطن وإسرائيل وقائع ومناخاً سياسياً لقطع طريق العودة ، كما يلي :
1- احتكار واشنطن مسار المفاوضات وإدارة الأزمة ، لأنها لا تريد أن تظهر بمظهر الفاشل في تحقيق السلام العادل مع أنها غير راغبة فيه.

2- لم تبرز قوى دولية يمكنها انتزاع زمام مبادرة السلام من يد واشنطن ، بل إن اللجنة الرباعية أصبحت مهمشةً وملحقة بواشنطن فيما كان يفترض حسب تمثيلها للاتحاد الأوروبي والروس والأمم المتحدة وواشنطن أن ترعى العملية السلمية.

3- الوقائع التي فرضتها إسرائيل على الأرض كالاستيطان المتعاظم والمستمر وبناء الجدار وتهويد القدس والطرق الالتفافية والحواجز ، جعل عودة الأمور إلى ما كانت عليه أمراً مستحيلاً حتى وإن أعلن الفلسطينيون فشل عملية التسوية وتخليهم عن الالتزام بالاتفاقات الموقعة بشأنها.

4- وجود سلطة ومؤسسات وحكومة فلسطينية تقوم بمهام يُفترض أن تقوم بها دولة الاحتلال سواء تعلق الأمر بالمسؤولية عن إعاشة الشعب الخاضع لاحتلال أو فرض النظام والقانون أو التنسيق الأمني ، ما جعل الاحتلال لا يشكل عبئاً على الإسرائيليين وتردد السلطة في التمرد على هذا الوضع.

5- تحويل غالبية الشعب الفلسطيني لجموع تعيش على راتب السلطة والمساعدات الخارجية التي تستمر ما استمرت السلطة وحكومتها ملتزمة بالتسوية وبالمفاوضات ، بغض النظر عن الممارسات الإسرائيلية المدمرة لفرص السلام وللمشروع الوطني.[10]

6- تحوُّل بعض مكونات النخبة السياسية لنخب مصالح ومشاريع اقتصادية مرتبطة بإسرائيل وبدول الجوار ودول خارجية ، بحيث أصبحت هذه النخب التي يفترض أن تحمل وتحمي المشروع الوطني معنية بالحفاظ على مصالحها وامتيازاتها وليس الدفاع عن المشروع الوطني أو التصادم مع سلطات الاحتلال.

7- انقسام حاد وغير مسبوق في الصف الفلسطيني ، نتج عن التدخلات الخارجية ، مما ألغى استقلالية القرار الوطني وجعل المشروع الوطني واستقلالية القرار الوطني مجرد شعارات.

8- فصل غزة عن الضفة وقيام حكومة بكل منطقة معادية للأخرى وتسعى لشرعنة وجودها على حساب وحدة الشعب والأرض.

9- الاستعداد لتهدئة ما بين إسرائيل وحركة حماس في غزة ستمهد لاحقاً لنوع من التعايش السلمي والاعتراف الواقعي بين الطرفين وتأبيد حالة الفصل ما بين الضفة وغزة.

10- استمرار القيادة الفلسطينية بالتلويح بإمكانية العودة لطاولة المفاوضات في حالة التزام إسرائيل ببعض الشروط .

11- والأهم من كل ذلك فشل الفلسطينيين في بناء إستراتيجية عمل وطني سواء على مستوى قيادة وحدة وطنية أو إستراتيجية مقاومة تملأ الفراغ الذي قد ينتج عن انهيار التسوية أو حل السلطة.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن القوى المتحكمة بمسار عملية التسوية لن تعلن عن فشلها بشكل نهائي ، حتى منظمة التحرير لن تُقدِم على ذلك. عليه ، فإن ما يجري ، حتى وإن بدا خارج سياق التسوية فهو جزء من عملية إعادة صياغة التسوية حسب الرؤية الأميركية والإسرائيلية ، أو فلنقل بأن التسوية أصبحت كالحرباء تغير مصطلحاتها وأسسها حسب تغير الظروف والأحوال وحسب الديناميكيات التي تولدها التسوية نفسها.
ما جرى ويجري منذ الخروج من غزة عام 2005 والحصار ثم الانقلاب فالتهدئة ، كل ذلك جزء من تسوية خفية وغير مُعلن عنها رسميا ، إنها نتاج لمخطط تم الاشتغال عليه لتغيير طبيعة التسوية والالتفاف على الحقوق الوطنية. وعليه يمكن القول إن الهدنة القائمة إسرائيل وحركة حماس لا تندرج ضمن إستراتيجية المقاومة أو بديلا للتسوية والمفاوضات ، بل ستصبح جزءاً منها أو من التحويرات التي طرأت عليها ، وإسرائيل راغبة في الهدنة ليس خوفاً من الصواريخ المنطلقة من غزة ، بل تريد الهدنة لأنها ستؤدي لتكريس القطيعة ما بين الضفة والقطاع وإضفاء شرعية على حكومة الأمر الواقع بغزة ، وكل ذلك يجعل نجاح التسوية والمفاوضات على ما تبقى من الضفة أيسر منالاً من وجهة النظر الإسرائيلية .
أخشى ما نخشاه أن تؤول الأمور في قطاع غزة إلى (دولة) أو كيان سياسي تحت عنوان الدولة ذات الحدود المؤقتة ، ويُترَك مصير الضفة لمفاوضات عبثية ستتفرغ خلالها إسرائيل لمزيد من الاستيطان وسيتم تجريد السلطة هناك من أية مهام سياسية ووطنية وتقتصر مهامها على تقديم الخدمات البلدية والحياتية للمواطنين وبمهام الأمن الداخلي المحدود بالتنسيق مع الإسرائيليين والأميركيين ، وقد تعمل إسرائيل على إنهاء السلطة الفلسطينية في الضفة وتوجيه الأمور إلى قطاع غزة لتستعر حربا أهلية بين مكونات النظام السياسي حول مَن يحكم قطاع غزة .

المحور الثالث

البدائل الوطنية المتاحة

كرد على تعثر المفاوضات 2010 روجت منظمة التحرير وعلى لسان الرئيس أبو مازن خطابا مفاده أن لديها خيارات متعددة لمواجهة إسرائيل والرد على عدم التزام إسرائيل بالاتفاقات الموقعة ، بل تحدثت القيادة عن سبعة خيارات تبدأ بالذهاب إلى الأمم المتحدة وتنتهي بتسليم المفاتيح وتحميل إسرائيل كدولة احتلال المسؤولية عن الأراضي الفلسطينية ، وقد لمح الرئيس أبو مازن في خطابه في الأمم المتحدة في شهر سبتمبر 2015 إلى تعثر عملية التسوية وعدم التزام إسرائيل بالاتفاقات الموقعة ، والاستعداد الفلسطيني لتجاوزها إن لم يتم تدارك الأمر بسرعة.
منذ ذلك التاريخ يجري حراك سياسي واسع يتراوح ما بين التحرر من قيود الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل والبحث عن بدائل وطنية ، أو تعديل مسار المفاوضات وشروطها دون إلغاء الاتفاقات الموقعة. بسبب الانقسام وبالرغم من عدم التوصل لتوافق فلسطيني حول أسلوب التعامل مع إسرائيل بل والاختلاف حول الانتفاضة الراهنة , وبالرغم من تعثر اتفاقات المصالحة الموقَعة ، إلا أن قناعة أخذت تتزايد بضرورة الاعتماد على الذات الفلسطينية وضرورة إيجاد قواسم مشتركة في إطار إستراتيجية وطنية متعددة المسارات.
البديل الوطني الفلسطيني يجب أن يكون في إطار إستراتيجية وطنية متعددة المسارات ، مسار إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني أو البيت الفلسطيني داخليا ، ومسار تدويل القضية بما لا ينتقص من الحقوق الوطنية .
أولا : ضرورة التوصل لإستراتيجية وطنية تتجاوز قيود أوسلو وواقع الانقسام
العمل السياسي الفلسطيني ومنذ التعاطي مع عملية التسوية السياسية يشتغل بدون إستراتيجية واضحة المعالم ، الأمر الذي أدى إلى حالة التيه السياسي المعممة ، من المواطن العادي حتى المسئول والقيادي ،من السلطة وفصائل منظمة التحرير إلى حركة حماس