خبر : درس في التاريخ أم في السياسة؟ ...طلال عوكل

الإثنين 03 نوفمبر 2014 11:11 ص / بتوقيت القدس +2GMT
درس في التاريخ أم في السياسة؟ ...طلال عوكل



أمس الأحد الثاني من تشرين الثاني، كان الذكرى السابعة والتسعين لوعد بلفور، ذلك الوعد الذي أسس لما عاناه ويعانيه الشعب الفلسطيني حتى اليوم، بل إنه اسس لمعاناة مستدامة إلى أمد غير محدد في الأفق.
كانت بريطانيا عظمى في ذلك الوقت، فهي الدولة الاستعمارية التي لا تغيب عنها الشمس، وهي وحدها الدولة التي كان بمقدورها ان تصدر وعداً وتملك القدرة على تنفيذه، وقد صدقت وعدها، الذي فرضت من خلاله حلا لما يعرف تاريخياً بالمسألة اليهودية، التي ارهقت البلدان الرأسمالية كما الاشتراكية لقرون طويلة، على ان بريطانيا، لم تكن في الاساس تستهدف فقط حل مسألة اليهود، الذين قاوموا الاندماج في مجتمعاتهم واصروا على الاحتفاظ بعزلتهم، ولكنها ايضاً، استهدفت، ضرب فكرة اقامة مشروع عربي قومي، يرفع مكانة العرب، ودورهم في التاريخ.
كان مشروع محمد علي باشا في مصر، الذي سعى من اجل نهضة مصر، والنهوض بالقومية العربية، حتى بلغ حكمه بلاد الشام والحجاز، كان ذلك المشروع، مصدر الهام استعماري، لنابليون، الذي تعثرت حملته في فلسطين، قد اطلق فكرة اجتذاب شعب غريب عن المنطقة لزراعته في فلسطين، ليشكل عقبة كبيرة، امام كل من يفكر بتوحيد الوطن العربي. الاستعماريون المتنافسون، والمختلفون مع بعضهم البعض، وعلى رأسهم المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون، قد جردوا جيشاً، الحق الهزيمة بمحمد علي باشا، وبأسطوله وجيشه الفتي، قبل ان يستكمل بناء قوته القادرة على صد الغزاة.
بعد حوالي سبعة وخمسين عاماً، من اطلاق نابليون للفكرة، عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الاول في مدينة بازل بسويسرا، فكان ذلك المؤتمر بداية العمل الجماعي المنظم من اجل اقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين مستقلة تدهور اوضاع الدولة العثمانية، وتراجع مكانتها ودورها.
الحرب العالمية الاولى، التي شهدت انهيار دولة الخلافة العثمانية، التي حاربت ضد بريطانيا وفرنسا، كانت الفرصة التاريخية التي دفعت بريطانيا لاصدار ذلك الوعد، والتي جاءت بعد اتفاقية سايكس بيكو العام ١٩١٦، التي قسمت المنطقة العربية، بين المستعمرين الفرنسيين والانكليز، وبموجبها، وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
اذا كان البعض سيعتبر هذا السرد، درساً مملاً في تاريخ معروف للكثيرين فإنه قد اصبح بعد سبعة وتسعين عاماً، درسا قيماً وضروريا لتذكير الاجيال التي لا تعرف فصول التاريخ السابق، ولا تهتم الا لأمر الحاضر، بأن اسرائيل، قد تأسست، واستمرت وتتواصل باعتبارها مشروعا استعماريا في الاساس، وان لها منذ الاساس دورا وظيفياً لم تتوقف عن ادائه.
اذا كانت الحرب العالمية الاولى قد وفرت الظرف المناسب لاطلاق وعد بلفور، وزير خارجية بريطانيا آنذاك، فقد جاءت الحرب العالمية الثانية، وانتصار الحلفاء فيها، لتشكل الظرف المناسب لتحقيق الوعد واعلان قيام دولة اسرائيل العام ١٩٤٨.
كانت الحركة الصهيونية قد اعتمدت على بريطانيا العظمى لتحقيق الوعد، ولكن عندما تراجع دور ومكانة بريطانيا التي لم تعد عظمى، حيث تقدم عليها كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كان من الطبيعي ان تنقل الحركة الصهيونية واسرائيل اعتمادهما على الدولة الاستعمارية الاقوى وهي الولايات المتحدة الاميركية.
ومع ان الاتحاد السوفييتي كان من بين اوائل الدول التي اعترفت باسرائيل الا انه لم يكن من المنطق ان تبحث الحركة الصهيونية من حيث المبدأ مسألة الاعتماد على الاتحاد السوفياتي القوي، والذي يشكل القطب المنافس للمعسكر الرأسمالي، فإذا كان المشروع الصهيوني استعماريا فإن منطق الاشياء ان يبحث اصحابه عن الدولة الاستعمارية القوية، وذلك تواصلا مع جوهر الوظيفة.
ولو افترضنا ان تغييرا كبيرا في توازنات القوى الدولية، سيؤدي الى تراجع مكانة ودور الولايات المتحدة، ونهوض دولة اخرى، فإن اسرائيل ستبحث، عن الدولة الرأسمالية الاقوى من بين الدول الناهضة، لضمان استمرارها واستمرار وظيفتها.
بعد ستة وستين عاماً، من اقامة دولة اسرائيل، تخللتها عمليات ضخ هائلة مستمرة للاموال والمعدات العسكرية لضمان بقاء اسرائيل وتفوقها، وحمايتها لم تنجح تلك الدولة، في ان تصبح دولة مستقلة تعتمد على ذاتها، وعلى قدراتها، رغم انها تملك امكانيات مادية وعسكرية ضخمة.
التهديد الذي تواجهه اسرائيل ويستدعي بقاء الغطاء والدعم الاميركي، هذا التهديد يتراجع عمليا في ظل ما تمر به الدول العربية من اضطرابات، وانقسامات وفوضى وصراعات دموية وقبلية وعرقية، غير ان الحال تبقى على حالها، من حيث حاجة اسرائيل للاعتماد على الولايات المتحدة، وحاجة الولايات المتحدة لمواصلة دورها الاستعماري التاريخي، تواصلا مع فكرة الدولة الوظيفية التي تشكل اداة فعالة في تفتيت دول المنطقة.
على سطح الاحداث في الاسابيع الاخيرة، ظهرت خلافات حادة وقوية بين الادارة الاميركية وحكومة بنيامين نتنياهو، تتحدث عنها الصحافة العبرية، اكثر مما يتحدث عنها الاخرون، ولكن المراهنة على تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة ازاء الصراع، هي اقرب الى الوهم والشذوذ السياسي.
الحديث عن العلاقة بين الموظِف والموظَف والوظيفة، والمردود، يجعل اسرائيل والولايات المتحدة، كائنين بقلب واحد، وشرايين وأوردة وشبكة اعصاب واحدة اذ لم يعد الامر يتعلق بحبل صري فقط.
المانيا الديمقراطية غير المسؤولة عن مرحلة النازية وحروبها وجرائمها بحق شعوب الارض، المانيا الكارهة لتلك المرحلة، ما تزال تخضع لعملية ابتزاز من قبل الحركة الصهيونية واسرائيل، فلماذا لا تفعل بريطانيا الرأسمالية بريطانيا ذاتها التي اصدرت وعد بلفور وعملت على تحقيقه، لماذا لا تكفر عما اقترفته بحق الشعب الفلسطيني؟
لماذا لا يضعها الفلسطينيون والعرب أمام مسؤولياتها التاريخية، حتى انها تمتنع عن القيام بالحد الأدنى من المسؤولية، وهو الاعتراف بدولة فلسطين؟ واذا كانت الدول الاستعمارية تتوارث المسؤولية عن حماية دولتها الوليدة، ووظيفتها، فإن مسؤولية بريطانيا، لا تنتهي بالتقادم، وبتبدل المواقع والأدوار.