خبر : ما بعد البطولة والدمار ...مهند عبد الحميد

الثلاثاء 05 أغسطس 2014 09:28 ص / بتوقيت القدس +2GMT



يتنازع أبناء الشعب الفلسطيني في كل مكان مواقف متعارضة، الموقف الذي يعتبر خيار المقاومة هو الرد الشافي على دولة الاحتلال الكولونيالي المتعجرف، وموقف الأكثرية الساحقة التي تقر بأن خيار المفاوضات لم يعد مقنعا وليس له جدوى، وموقف البحث عن خيار استراتيجية نضال ومقاومة جديدة تشارك فيها مكونات الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده. ما يهم اليوم مناقشة مقومات خيار المقاومة والكفاح المسلح لتحقيق الأهداف الوطنية.
يستند دعاة خيار المقاومة إلى أداء الجناح العسكري لفصائل المقاومة وبخاصة "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ذلك الأداء الشجاع المثير للإعجاب في الرد على العدوان، سواء لجهة إطلاق صواريخ على سائر المدن الإسرائيلية وما ترتب على ذلك من ضرب موسم السياحة، واختراق السياسة الأمنية التي اعتادت على نقل المعركة وتبعاتها بعيدا عن الداخل الإسرائيلي، أو لجهة تكبيد جنود الاحتلال خسائر كانت تتزايد يوما بعد يوم، ما أدى إلى تغيير قواعد الجيش الذي لا يخسر والمتفوق دوما في المواجهة وجها لوجه، وذلك بفعل مبادرة المقاومة إلى عمليات هجومية احترافية أفزعت جنود الاحتلال ورفعت معنويات المقاومين، أو لجهة امتلاك المقاومين لإرادة صلبة هدفها إفشال العدوان وأهدافه واستمرار التمسك بالمطالب الوطنية التي حددها المستوى السياسي.
كل ذلك دفع كثيرين للحديث عن نصر قريب وعن إمكانية تحقيق الشروط الفلسطينية كاملة غير منقوصة وإلحاق الهزيمة بالمعتدين.
هذا التقدير تصدر المواقف وكان لسان حال السواد الأعظم الفلسطيني في مختلف المواقع، باستثناء قلة قليلة ارتأت أن المقاومة وما تملكه من إرادة وشجاعة وروح تضحية لا تملك مقومات الانتقال إلى خيار المقاومة كخيار رئيسي في شروط الوضع الإقليمي والدولي وفي ظل خصائص دولة الاحتلال التي تتحكم في البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني وتضعه في قبضة أمنية محكمة، رغم مشروعية اللجوء إلى المقاومة طالما هناك احتلال بحسب القانون الدولي.
ومع ذلك فإن تحول المزاج الشعبي الأكثري إلى خيار المقاومة أو تأييد اللجوء إليها في هذه اللحظة الفارقة من نضال الشعب الفلسطيني يعود إلى مجموعة من الأسباب: أولا، إخفاق وفشل كل المساعي السياسية وبخاصة المفاوضات التي شكلت غطاء لتعميق الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه المشروع في تقرير مصيره، واستخدام العملية السياسية وشعارات "السلام مقابل الأرض" والتعايش والتعاون الاقتصادي والتنمية لذر الرماد في العيون ولإخضاع الشعب الفلسطيني وفرض التبعية الدائمة عليه.
ثانيا، بعد أن تبين أن تقديم التنازلات الاستباقية أدى إلى استمرار التنازلات من طرف واحد، كالاعتراف بنتائج هزيمة 67 الذي قفز عن قرار التقسيم الدولي، وإبرام اتفاق أوسلو الذي اعترف بشرعية دولة محتلة، وخلا من أي ضمانات لوقف الاستيطان ولإنهاء الاحتلال ولتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره، وتقديم "مبادرة السلام العربية" التي منحت إسرائيل حق القبول وواقع الحال عدم القبول بحق اللاجئين المقر في القانون الدولي وقرار 194، والتطبيع الاقتصادي والسياسي الفلسطيني والعربي مع دولة الاحتلال الذي جعل من مواصلة الاحتلال عملية رابحة بل ومتعاظمة الربح، إن تلك التنازلات المتلاحقة من طرف واحد أضعفت العامل الفلسطيني وجردته من عناصر قوته بما في ذلك قرارات الشرعية الدولية التي منحته حق إقامة دولة مستقلة في وطنه، وحق اللاجئين في العودة وعدم مشروعية الاحتلال والاستيطان والسيطرة على شعب آخر، كما أدت تلك التنازلات إلى عزل الشعب الفلسطيني عن حلفائه القائمين والمحتملين وحشرته أمام خيار الوصاية الأميركية التي تحثه على الخضوع فقط لـ"الابرتهايد" الفصل العنصري الإسرائيلي.
ثالثا، عدم إشراك الشعب في العملية السياسية التي لم تدعم باستراتيجية نضال جديدة تتولى بناء عناصر القوة وممارسة الضغوط وبناء الذات وبناء التحالفات، خلافا لذلك اقتصرت العملية السياسية على التفاوض من فوق وانتظار الوعود والسكوت على الانتهاكات الكبيرة والصغيرة والقبول ببنية بيروقراطية مؤسسية لا تقوى على الاعتراض ولا على فعل أي شيء. هكذا وفي ظل انعزال المستوى السياسي عن المشاركة الشعبية، وبعد السقوط المدوي للعملية السياسية، طاب للأكثرية التي دفعت ثمن انتظار الحل الموعود الانحياز لأي خيار آخر بصرف النظر عن امتلاكه للمقومات وعن نجاعته، ومع انطلاق صواريخ المقاومة نحو إسرائيل انجذبت الأكثرية الصامتة والمتحدثة نحو المقاومة بحماس منقطع النظير.
ولكن كيف كان خيار المقاومة في التطبيق؟ قبل الإجابة لا مناص من التأكيد على البطولة والإرادة الصلبة والحرفية والإبداع وتحمل أقصى الضغوط التي أبداها المقاومون الشجعان، تلك الخصائص المستلهمة من نضال الشعب وبطولاته الدائمة على مدى قرن من الزمان.
ومن اجل أن تؤتي تضحيات غزة - صانعة الوطنية الفلسطينية - أكلها الآن وفي المستقبل، لا بد من تسجيل الملاحظات التالية: أولا، لم يتضمن هدف حماية المدنيين زمن الحرب في استراتيجية المقاومة، كل الاستعدادات الهائلة لمواجهة العدوان، لم تستكمل ببناء ملاجئ لحماية الأطفال والأبرياء. وقد ظهر هذا الخلل بعد أن استهدف المعتدون المدنيين وأماكن سكنهم وإقامتهم والبنية التحتية بكاملها واحدثوا تغييرا ديموغرافيا بالتدمير والمناطق المحروقة بات ضاغطا على المقاومين. حماية المدنيين قاعدة أي مقاومة وثورة هدف مقدس وجزء أساسي من استراتيجية المقاومة، كانت المقاومة أمام خيارين الأول: بناء ملاجئ تؤمن الحماية بالحد الأدنى للأطفال وكبار السن، الثاني، اللجوء إلى المقاومة التي تتفادى قصفا متبادلا للمدنيين وتتفادى تحول المقاومة إلى جيش شبه نظامي يذهب إلى المواجهة مع جيش محترف ومتفوق إلى الحد الأقصى جوا وبرا وبحرا.
لم تتعامل المقاومة مع الخيارين السابقين. وفوق ذلك ظلت ترفض وقف إطلاق النار وبخاصة ذلك الوقف الذي لم يقترن بشروط مسبقة، مع أن توقف العدوان الدائم والمؤقت هو لمصلحة الشعب الذي يتعرض للمجازر والدمار، إن القبول بوقف إطلاق النار لا يعني أبدا التنازل عن المطالب المشروعة وفي مقدمتها رفع الحصار، كما أن موقف رفض وقف إطلاق النار في ظل تدمير البنية التحتية وفقدان المياه والكهرباء ونقصان المواد الغذائية وضعف قدرة المستشفيات على استيعاب الجرحى، يشكل عنصرا ضاغطا على المقاومة لا على دولة الاحتلال التي اعتادت على كونها دولة فوق القانون.
ثانيا، حافظت المقاومة ميدانيا على المبادرة وافتقد المستوى السياسي للمبادرة السياسية التي كان من شأنها حماية المدنيين أو التقليل من خسائرهم المتزايدة. ثمة انفصال بين المستوى العسكري والمستوى السياسي لفصائل المقاومة، وبفعل هذا الارتباك الذي بدأ برفض المبادرة المصرية وانتظر طويلا خروج مبادرات أخرى، تمكنت دولة الاحتلال من انتزاع زمام المبادرة وصولا إلى التعامل من طرف واحد والتملص من استحقاقات هذه المعركة وفي مقدمتها وقف العدوان وإنهاء الحصار وتتعامل بمنطق حرب مفتوحة مدمرة.
Mohanned_t@yahoo.com