خبر : ما بعد فشل المفاوضات؟ ...مهند عبد الحميد

الثلاثاء 08 أبريل 2014 08:43 ص / بتوقيت القدس +2GMT



كشفت مفاوضات الشهور التسعة وتداعياتها الراهنة عن مأزق عميق عنوانه الفشل الذريع للعملية السياسية. التقدير الذي يتحدث عن إمكانية استئناف المفاوضات لن يحول الفشل إلى نجاح، وذلك بعد أن استنفدت العملية السياسية كل الوعود والتمويهات والخداع والأوهام والضمانات التي استحالت إلى وقائع كولونيالية على الأرض. الوقائع والمزيد من الوقائع هي نتيجة منطقية لتفاوض ثنائي مدعم باحتكار ووصاية أميركية على العملية السياسية طوال عقدين ويزيد من الزمن. وقائع عمقت احتلال أراضي الدولة الفلسطينية المفترضة وعززت السيطرة الشاملة على شعبها.

أثبتت مسيرة المفاوضات الطويلة جدا أن الدخول في مسار إسرائيلي أميركي يجرد الشعب الفلسطيني من كل عناصر قوته السياسية والمعنوية والمادية، ويعزله عن حلفائه القائمين والمحتملين ولا يقود إلى إنهاء الاحتلال والهيمنة والوصاية. ولا يؤدي إلى تمكين الشعب الفلسطيني من نيل حريته وتقرير مصيره بنفسه. لقد ثبت بالوجه القطعي أن أقصى ما تقدمه إسرائيل على طاولة المفاوضات هو ما تفعله على الأرض من وقائع ومن طرف واحد، وهذا يعني ان المفاوضات والشراكة الفلسطينية لا تعني غير توفير الغطاء الفلسطيني لما يجري على الأرض، هذا ما قاله إدوارد سعيد في كتابه "سلام بلا أرض " منذ مؤتمر مدريد في العام 1991 ولم يُعر تشخيصه الثاقب وهو صاحب اهم عمل فكري "الاستشراق " اي اهتمام.
هذه النتيجة الفاجعة والمأساوية تستلزم الانسحاب من مسار مفاوضات يستهدف فرض حل فصل عنصري كولونيالي وتصفية للقضية الوطنية واعتماد الرواية الإسرائيلية التاريخية" الدينية". الانسحاب من مسار هذا النوع من المفاوضات ليس بالعملية السهلة، فالبنية السياسية الاجتماعية الاقتصادية الأمنية المتشكلة أثناء العملية لا تستطيع الانسحاب بمواصفاتها القائمة حاليا، لأنها تشكلت ونمت بالاستناد لهذا المسار الوحيد، ولم تضع في حسابها الفشل والاستعداد للتحول الى مسار آخر. التحول الى مسار آخر تكتيكي "تجربة الانتفاضة الثانية" قاد الى الانهيار والتراجع بسرعة والعودة الى المسار بشروط أكثر سوءاً. معارضة الإسلام السياسي بقيادة "حماس" لم تتمكن- ولم ترغب في الأصل- من بناء مواز ومسار مختلف عن المسار الأميركي للخلاص من الاحتلال، وكان كل ما يهمها إفشال فتح والمنظمة والحلول مكانهما في المسار ذاته، وجاء النموذج الذي قدمته في غزة ليدعم هذا التقدير، اما المعارضة اليسارية والقومية فلم تتمكنا من بناء روافع اجتماعية وسياسية وثقافية موازية تمكنها من التأثير الجدي في القرار الوطني وفي الخيارات والبدائل.
بناءً على هذه الخصائص والمواصفات فإن ما يمكن ان تفعله القيادة الفلسطينية هو الإضراب عن المشاركة والانسحاب التدريجي من المسار، والاهم عدم الاستجابة للإملاءات والشروط، كعدم التوقيع على اتفاق إطار ينص صراحة او مواربة على يهودية الدولة، وعلى شطب او اختزال حقوق اللاجئين الفردية والجمعية، وعلى التوسعات الكولونيالية في الأرض الفلسطينية ضمن حدود جديدة. لا يوجد ما يخسره السواد الأعظم من الشعب من الانسحاب من المفاوضات، وهذا يلاحظ من الإجراءات الإسرائيلية المزمع اتباعها كرد على طلب الانضمام لـ 15 ميثاق ومعاهدة دولية، كوثيقة جنيف، وحقوق الطفل، ووثيقة مكافحة إبادة الشعوب، ومكافحة اضطهاد النساء، ومكافحة العنصرية، والوثيقة الدولية لمكافحة الفساد، وغيرها.
من أبرز الإجراءات الإسرائيلية المقترحة وقف البنية التحتية لشركة الاتصالات الوطنية في قطاع غزة، وقف عدد من المشروعات في منطقة (ج)، ومنع عبور الشخصيات المهمة، ووضع اليد على أموال الضرائب، وإطلاق عطاء بـ 4 آلاف وحدة سكنية في مستعمرات الضفة والقدس، هذا العطاء ما كان للمفاوضات ان تمنعه سيما وان البناء في المستعمرات أثناء اشهر المفاوضات زاد بنسبة 134% . يترافق مع ذلك احتمال توقف الإدارة الأميركية عن مساعدة السلطة ماليا التزاما بقرارات الكونغرس. وكان مجلس النواب الأميركي قد أجاز قانونين يمنعان كل دعم مالي أميركي عن كل مؤسسة دولية تقبل فلسطين عضوا فيها. تستطيع حكومة الاحتلال ان تتخذ ما يحلو لها من عقوبات وإجراءات بما في ذلك قطع الكهرباء والماء والاتصالات وإعادة جيش الاحتلال إلى المدن وحل السلطة وزج عشرات الآلاف في معسكرات الاعتقال. إجراءات قطعا مؤلمة للشعب لكنها لن تستطيع كسر إرادته وهزيمة مطالبه المشروعة بالحرية والاستقلال، لا يمكن لغطرسة القوة ان تفعل بمنطق شريعة الغاب دون ردود فعل مباشرة وغير مباشرة قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى محليا وعربيا وإقليميا ودوليا، ففي هذا العالم شعوب ونخب وضمائر ستنتصر لشعب يعاقب لأنه يطالب بحريته ويطالب بإنهاء أطول احتلال في عالمنا المعاصر.
طالما لا يوجد فرق جوهري بين ما نحصل عليه بالمفاوضات وما لا نحصل عليه بغيرها فلماذا العودة لهذه المتاهة التي تدمر الأخضر واليابس. الإضراب عن المفاوضات وعدم الاستجابة للشروط وعدم التوقيع على اتفاق إطار جديد هي البداية المهمة التي يمكن البناء فوقها، والبناء يبدأ بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وبإعادة النظر في واقع البنية والتركيبة المؤسساتية التي لا تصمد أمام الضغوط.
ان التغيير الذي يفعل فعله في المؤسسة ويجعل تطويرها ممكنا، هو ذلك الفعل الاحتجاجي والنضالي- ضد الاحتلال- الذي يبدأ من خارجها وبشكل مواز لها. عندما تنشأ حركات اجتماعية مستقلة وذات ثقل في سياق النضال ضد الاحتلال والفساد والبيروقراطية، وتكون جزءا من ميزان القوى الداخلي، ستضع المؤسسة على بساط البحث والتغيير والاستجابة، وعندما تنتقل المعارضة الوطنية من الرفض إلى الفعل ومن الخطاب إلى العمل على الأرض ومن الاحتفال الموسمي الى النضال اليومي، فإن ذلك سينعكس على واقع المؤسسة الرسمية، وعندما تعتمد قوى الإسلام السياسي أجندة فلسطينية وتلتزم بقواعد الديمقراطية- التعدد السياسي والثقافي والديني- والتبادل السلمي للقيادة والسلطة وتكون جزءا داعما لميزان القوى الداخلي في مواجهة الاحتلال، عندئذ يمكن الانتقال من حالة التفكك وفقدان الاتجاه الى التماسك.
ويمكن القول انه بالقدر الذي تحدث مثل تلك الاستجابات لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وبالقدر الذي يمكن معه استعادة التحالفات الجدية عربياً وعالمياً، بالقدر الذي يمكن القول معه أننا نستطيع الانتقال إلى الهجوم السياسي. الانتقال من الإضراب إلى المبادرات سواء في إطار مؤسسات الأمم المتحدة أو في إطار النضال المشترك ضد الاحتلال والحرب والهيمنة والنهب، لا أسوأ من الارتجال واتباع سياسة رد الفعل والعودة إلى تكتيكات ألحقت بنا خسائر فادحة.
Mohanned_t@yahoo.com